فهم طبيعة البحث عن المفقودين في المناطق السورية التي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش
منذ أن بدأ تنظيم داعش بفقدان سيطرته على مناطق في سوريا، انهمكت عائلات الضحايا والسلطات المحلية طوال السنوات الخمس الماضية في البحث عن الأشخاص الذي فُقدوا إبان حكم التنظيم. ويمكن القول إن تاريخ هذه الجهود المختلفة في المناطق الواقعة الآن تحت سيطرة "قسد" في سوريا يتسم بالتعقيد، ويجعل بعض العائلات في حيرة من أمرهم نظرا لعدم معرفتهم بالجهة التي يقصدونها طلبا للمساعدة. وحرصا على أن تفهم عائلات المفقودين طبيعة تلك الجهود والمساندة المتوفرة لهم في مساعيهم لمعرفة مصير ذويهم، يلخص المقال الحالي الجهود المبذولة حتى تاريخه، أي بدءًا من مرحلة استخراج الجثث قبل الأوان، وهو ما تسبب بإتلاف الأدلة بشكل غير مقصود، ووصولًا إلى التحقيقات الحالية التي تشهد تعاونا بين الجهات القائمة بالتحقيق، والعائلات والمجتمعات المحلية بحثا عن المفقودين. ويوفر الجدول الزمني التفاعلي في الأسفل المزيد من التفاصيل حول مكانة تلك الجهود في السياق الأوسع نطاقا في المنطقة.
العواقب المباشرة – استخراج الرفات
في تشرين الأول/أكتوبر 2017، وعقب حملة واسعة شنتها قوات سوريا الديمقراطية بدعم من قوات التحالف، استعادت قسد وحلفاؤها السيطرة على الرقة، مانحةً الكثير من العائلات بارقة أمل باقتراب موعد عودة ذويهم المفقودين. ولكن انصب جل تركيز الجهود المباشرة عقب العملية على التعافي من تبعات آخر المعارك مع داعش، وما رافقها من عمليات القصف الجوي التي نفذتها قوات التحالف وسوّت الكثير من معالم المدينة بالأرض. وتُركت المباني مدمرة أو آيلة للسقوط، وانتشرت الجثث في الشوارع.
وفي أوائل العام 2018، بدأ فريق الاستجابة الأولية التابع لمجلس الرقة المدني بانتشال جثث الموتى من الشوارع والمباني المدمرة، ومن ثم القيام بدفنها خارج حدود المدينة، علاوة على ما يشرف عليه الفريق من مهام الاستجابة الأولية الأخرى من قبيل مكافحة الحرائق. وجعل الفريق من أولوياته الأساسية انتشال الجثث من الأماكن العامة والشوارع بطريقة تراعي كرامة أصحابها لأنها بدأت تتفسخ بسرعة مع ارتفاع درجة الحرارة. وفي ظل تلك الظروف الملحة، لم يكن تحديد هوية صاحب الجثة الاهتمام أو الشاغل الأول للفريق قبل دفنها.
وبمرور الوقت، بدأ عدد من أفراد فريق الاستجابة الأولية بالتركيز على مسألة انتشال الرفات تحديدا، حيث بادر السكان المحليون بادئ الأمر إلى الاتصال بالفريق للإبلاغ عن وجود جثث ملقاة في الشوارع. ثم سرعان ما بدأ السكان يخبرون الفريق عن مواقع معروفة استُخدمت كقبور جماعية، قام تنظيم داعش بحفر بعضها، بينما حُفر البعض الآخر إبان قصف قوات التحالف للمنطقة، بالإضافة إلى قبور جماعية أخرى تولت حفرها جهات فاعلة كانت تنشط في المنطقة قبل قدوم داعش. وأراد الكثير من أفراد المجتمع المحلي أن يتم فتح تلك القبور ونقل الرفات إلى مواقع أخرى لعدم رغبتهم في أن يشكل باطن الأرض في مدينتهم حافظةً لإرث حقبة داعش. كما سعى الكثير من أفراد العائلات إلى تحديد مصير ذويهم المفقودين من خلال الاستدلال على هويتهم عن طريق ملابسهم وغير ذلك من مقتنياتهم الشخصية. ولكن يصعب تحديد الهوية بهذه الطريقة لسوء الحظ، علاوة على كونه أسلوبًا غير دقيق في أغلب الأحيان. ففي الوقت الذي أدت فيه الجهود التي بذلها الفريق إلى انتشال الآلاف من رفات الموتى، لم يتم تحديد هوية سوى عدد قليل منهم.
وهكذا بدأ عمل الفريق يتداخل مع الجهود التي تبذلها العائلات للعثور على ذويهم المفقودين، وإن كان تركيزه قد انصب بادئ الأمر على التعامل مع تبعات عمليات القصف الجوي التي نفذتها قوات التحالف. وأدرك الفريق أن تحديد الهوية يستدعي مهارات متخصصة في التعامل مع الرفات، فانضم أحد الأطباء إلى الفريق واعتمد القواعد الأساسية للطب الشرعي في تحليل الرفات والتعامل معه، وجمع العينات البيولوجية. ولكن تستدعي تحقيقات الطب الشرعي لتحديد مصير المفقودين خبرات متخصصة جدا لا تتوفر بحوزة أفراد الفريق لا سيما في ضوء هوْل ما حصل في منطقة شمال شرق سوريا.
اهتمام المجتمع الدولي، والدعوة إلى الحفاظ إلى القبور
في تموز/ يوليو 2018، بدأت جهود فريق الاستجابة الأولية تلقى اهتماما دوليا عقب زيارة قام بها فريق من منظمة هيومان رايتس ووتش. وأثار هذا الاهتمام مخاوف وشواغل بشأن طريقة استخراج الرفات من القبور. وعلى الرغم من أن جهود الفريق كانت مدفوعة برغبة أفراده في إعادة بناء مدينتهم ومساعدة عائلات الضحايا، تسببت أساليب استخراج الجثث بإتلاف الأدلة بشكل غير مقصود.
وعلى الرغم من الشواغل والمخاوف التي أثارتها منظمة هيومان رايتس ووتش، ظلت الرسائل التي تصل الفريق والسلطات المحلية بهذا الخصوص مختلطة ومتضاربة. واستمرت بعض الجهات الفاعلة في تشجيع الفريق على المضي باستخراج الجثث، وتمويل جهوده في هذا السياق. كما ساندت العائلاتُ بشدةٍ المضيَّ في فتح القبور، وذلك لأنها كانت في أمسّ الحاجة إلى معرفة أي معلومة أو سماع أي خبر بخصوص مصير ذويها. وافترض الذين لا يتوفر لديهم فهم صحيح لطبيعة التحقيقات المتعلقة بالعثور على المفقودين أن فتح القبور واستخراج الجثث كان الخطوة الأولى على طريق تحديد هوية أصحابها. وعلى نحو مشابه، بدأت فرق الاستجابة الأولية والمواطنون باستخراج الرفات في دير الزور وغيرها من المناطق التي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش فيما مضى.
وفي صيف عام 2018، تنبّه المركز السوري للعدالة والمساءلة، والكثير من المنظمات الأخرى، إلى العمل الذي يقوم به فريق الاستجابة الأولية، وبادر من فوره إلى تزويد الفريق بالدعم والمساندة اللازمَيْن. وحدد المركز مجموعة من الخبراء الدوليين في مجال البحث عن المفقودين، وبدأ يتواصل معهم، وطلب منهم دخول الأراضي السورية وتقديم المساعدة الفورية للفريق بهذا الخصوص. وأكد جميع الخبراء أن استمرار استخراج الجثث بالطريقة المتّبعة حاليا يضر كثيرا بجهود العثور على المفقودين، ولكنهم اعتذروا عن توفير الدعم المباشر في هذا السياق. ولم تتمكن بعض المنظمات الدولية من السفر إلى سوريا، ولا حتى إلى المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، من دون موافقة الحكومة المركزية، بينما أعربت منظمات أخرى عن قلقها حيال الوضع الأمني.
وعندما بات من الواضح أنه لم تبدِ ولو منظمة واحدة استعدادها لقيادة هذا العمل، قرر المركز السوري للمساءلة والعدالة أن ينبري لهذه المهمة، وأن ينهض أفراد فريقه بما يلزم متسلحين بالدعم المناسب. فعمد المركز في 2019 إلى إطلاق برنامجه المعني بالأشخاص المفقودين، وأطلق باكورة تعاونه مع الفريق الأرجنتيني لأنثروبولوجيا الطب الشرعي (EAAF) من خلال توفير بعض التدريبات الأساسية عن بُعد لأعضاء فريق الاستجابة الأولية في مجال الطب الشرعي. ومع الإقرار بأهمية هذه التدريبات الأولية لتزويد أعضاء الفريق بالحد الأدنى من المعرفة للبناء عليها بشكل متخصص أكثر، كانت تعليمات الفريق الأرجنتيني واضحة منذ البداية أنه لا يجوز لأي كان أن يفتح القبور في سوريا، وبخلاف ذلك فسوف يخاطر كل من يُقْدم على هذا الأمر بإتلاف الأدلة المطلوبة لأغراض تحديد الهوية، وتحقيق المساءلة.
واستدعى الأمر توظيف الكثير من الجهود لتثقيف الأطراف المعنية، ووقف عمليات استخراج الرفات التي كانت جارية على قدم وساق في مختلف أنحاء شمال شرق سوريا نظرا لاعتقاد بعض أفراد المجتمعات المحلية والسلطات الحاكمة أنهم يؤدون بذلك خدمة جليلة لجهود البحث عن المفقودين. وفي غضون العامين التاليين، عمل المركز السوري للعدالة والمساءلة عن كثب مع فريق الاستجابة الأولية ومختلف الأطراف المعنية من أجل إحداث التحول المنشود في عمل الفريق؛ فكان لا بد من وقف عمليات فتح القبور، وأصبح لزاما أن يحصل تحول جذري في عمل فريق الاستجابة الأولية لا سيما وأن مناطق شمال شرق سوريا لم تكن بحاجة إلى فريق يدير التعامل مع الرفات، وإنما كانت بحاجة إلى فريق قادر على أن يطبق مهارات الطب الشرعي في سياق التحقيقات المتعلقة بالأشخاص المفقودين.
من استخراج الجثث إلى التحقيقات
وجاءت ثمرة تلك الجهود في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 عندما تمت إعادة إطلاق فريق الاستجابة الأولية تحت مسمى "فريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري" (SMFT)، ليكون منظمة جديدة مستقلة عن السلطات المحلية، وتركز على تحديد هوية المفقودين في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة داعش. وقرر الفريق وقف مبادرات استخراج الجثث من قبور جديدة، وتحول عوضا عن ذلك إلى التركيز على التحقيقات الأشمل المتعلقة بالأشخاص المفقودين.
ولا يزال المركز السوري للعدالة والمساءلة، عقب مرور سنة على تشكيل الفريق الجديد، حريصًا على تثقيف الأطراف المعنية في عموم مناطق شمال شرق سوريا حول أهمية الحفاظ على القبور سليمة. وفي الوقت الذي يستحيل فيه ضمان سلامة جميع القبور، إلا أن الجهود المبذولة في هذا السياق آتت أكلها، وتوقفت السلطات المحلية الحاكمة عن فتح القبور، وباتت تمد يد العون لفريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري من خلال حراسة مواقع القبور وحمايتها.
كما يستمر الفريق في تلك الأثناء بالقيام بدوره المهم في الحرص على إدارة التعامل مع الرفات بطريقة تحفظ كرامة الضحية. وإذا تم العثور على رفات أو جثث ملقاة على الأرض، أو إذا تم فتح أحد القبور من غير قصد أثناء أعمال الحفر الإنشائية مثلا، فلدى الفريق القدرة الآن على استخراج الرفات، وإجراء التحليل اللازم، وإعادة الدفن بشكل مسؤول. ولكن تظل تلك الحالات نادرة الحدوث، ولا يتم اللجوء إلى ذلك الإجراء إلا بعد أن يتقين كل من المركز السوري للعدالة والمساءلة، وفريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري، والسلطات المحلية من أنه لا توجد وسيلة أخرى تتيح الحفاظ على موقع القبر بشكل مسؤول.
المضي قُدما
على الرغم من أن ما حصل في شمال شرق سوريا من استخراج الجثث بلا داعٍ هو أمر يبعث على الأسف، ومن شأنه أن يزيد من صعوبة التحقيقات التي قد تُجرى مستقبلا، إلا أن ذلك كله لن يجعل من المستحيل أن يتم تحديد هوية أصحاب الجثث. ويدرس فريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري حاليا كيفية حفر واستخدام قبور سبق لفريق الاستجابة الأولية وأن استخرج الرفات منها. وعندما يتوفر مستقبلا لدى فريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري أدلة موسعة تتيح له المطابقة بين الضحية والقبر الذي دفنت فيه جثته، ويكتسب المهارات الضرورية في الطب الشرعي، فسيصبح بمقدور الفريق أن يعمل مع خبراء أجانب في الطب الشرعي، في حال اقتضى الأمر ذلك، على استخراج الجثث مجددا من مواقع القبور الثانوية (أي القبور التي أُعيد دفن الجثث فيها عقب استخراجها من القبور الأصلية)، وإجراء تحقيق كامل المعالم وفق معايير الطب الشرعي والتحليل الجنائي. ومن شأن استخراج الرفات قبل الأوان أن يزيد من تعقيد عملية تحديد الهوية، ولكنه لا يمنع بالكلية إمكانية التوصل إلى هوية الضحايا. وفي ظل عمل فريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري الجاري حاليا، تحولت الجهود المبكرة في هذا السياق لتصبح أول تحقيق يراعي معايير الطب الشرعي ويُجرى بقيادة جهة سورية لمعرفة مصير المفقودين، مع احتمال أن يُفضي ذلك التحقيق إلى خاتمة لعلها تجيب على أسئلة آلاف العائلات.
يأتي هذا المقال ضمن حملة تستمر شهرا أطلقها المركز السوري للعدالة والمساءلة بعنوان "طمنونا"، وتهدف إلى التركيز على نشر المعلومات المتعلقة ببرنامج الأشخاص المفقودين. تابعوا حساباتنا على فيسبوك أو تويتر للاطلاع على المزيد من المقالات، ومقاطع الفيديو، والفعاليات.
______________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.