1 min read
الثانية ثابتة: محكمة النقض الفرنسية توسّع نطاق قانون الولاية القضائية العالمية
Cour de cassation: By Daniel Vorndran DXR, CC BY-SA 3.0

الثانية ثابتة: محكمة النقض الفرنسية توسّع نطاق قانون الولاية القضائية العالمية

*تم نشر هذه المدونة في الأصل في موقع Just Security.*

قامت المحكمة العليا الفرنسية بتصحيح مسارها في مطلع الشهر الحالي، حيث أعادت المحكمة بكامل هيئتها النظر في قرار سابق لهيئة القضاة بوقف الملاحقة القضائية لمجرمي الحرب الذين يعيشون في فرنسا. ففي قضية متابعة عن كثب تتعلق بممارسة الولاية القضائية العالمية – والتي تسمح بملاحقة الجرائم الفظيعة ولو تم ارتكابها خارج الحدود الإقليمية للدولة – انعقدت محكمة النقض الفرنسية (محكمة الاستئناف العليا في البلاد المختصة بالمسائل المدنية والجنائية) في جلسة عامة لتحديد ما إذا كانت هيئة قضاة سابقة للمحكمة قد فسّرت القانون الفرنسي تفسيرًا ضيقًا للغاية عندما وجدت أنه لا يمكن ملاحقة مجرم حرب مشتبه به من سوريا قضائيًا.

أصدرت المحكمة بكامل هيئتها حكمين لتمهيد الطريق لإجراء المزيد من الملاحقات القضائية، على الرغم من القيود التي فرضها البرلمان الفرنسي، معتبرة أن الملاحقات القضائية ذات الصلة لم تُمنع بموجب مبدأ التجريم المزدوج أو الدفوع الأخرى التي احتجّ بها المدّعى عليهم. حيث يمكن الآن النظر في القضايا المعلّقة الأخرى، مثل تلك المتعلقة بتجنيد الأطفال واستخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، بالإضافة إلى العديد من القضايا من ولايات قضائية أخرى مثل أوكرانيا. ومع ذلك لا تزال هناك قيود تعسفية في القانون الفرنسي – غير مبرَّرة بموجب القانون الدولي – يمكن أن تشكّل عقبات لا يمكن التغلّب عليها في القضايا المستقبلية.

القضية الأولى – التجريم المزدوج

قامت فرنسا بالتّوقيع والتصديق على نظام روما الأساسي، وأصدرت تشريعات تنفيذية لتجريم الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية؛ غير أنها قيّدت أيدي المدّعين العامّين من خلال إدخال بعض القيود في القانون المحلي. فكما كتبنا أنا وأويس الدبوش سابقًا، إن أحد هذه القيود هو ما يطلق عليه شرط التجريم المزدوج الذي يَحظُر الملاحقة القضائية للجرائم المرتكبة خارج الدولة، ما لم تكن الجريمة محظورة أيضًا من قبل الدولة التي وقعت فيها الجريمة. ويُعدّ التجريم المزدوج نوعًا من تحقيق العدل لأنه سيكون من الظلم مقاضاة شخص ما في فرنسا على فعل لم يكن غير قانوني في الدولة التي ارتُكب فيها. ولكن يبدو أنه محدود الجدوى بالنسبة لأشد الجرائم خطورة، والتي تنطوي على هجمات منهجية واسعة النطاق على المدنيين (أي جرائم ضد الإنسانية)، حيث يُعترَف بها عالميًا كجرائم بموجب القانون الدولي العُرفي. ففي عام 2021، أوقفت لجنة من محكمة النقض الملاحقة القضائية لأحد جنود الاحتياط السوريين يُدعى "عبد الحميد س"، يُزعم أنه متواطئ في قمع الاحتجاجات، وعَمِلَ لدى قسمين من المخابرات العامة في دمشق معروفَين بتعذيب المعتقلين. حيث ارتأت تلك الهيئة القضائية أنه نظرًا إلى أن سوريا لم تُجرّم الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية على وجه التحديد، تُعدّ الملاحقة القضائية غير قانونية.

وفي 12 أيار/مايو، نقَضَت المحكمة بكامل هيئتها هذا القرار، معتبرة أن المنطق السليم ينبغي أن يسود، وأن تجريم سوريا للتعذيب والقتل ينبغي أن يكون كافيًا لضمان تحقيق العدالة للمتّهم. وبالرجوع إلى التاريخ التشريعي للقانون الفرنسي الأصلي، لاحظت المحكمة أن التجريم المزدوج لا يتطلب أن يكون قانون الدولة التي تقوم بالملاحقة القضائية وقانون الدولة التي حدثت فيها الجرائم متطابقين، كما أشارت إلى قانون تسليم المجرمين الذي يَشترط ازدواجية التجريم، ولكنه ترك الأمر للمحاكم لتحديد ما إذا كانت الوقائع المزعومة يمكن تصنيفها كجرائم في الدولة التي ارتُكبت فيها. وبالإشارة إلى أن سوريا قامت بتجريم القتل والاغتصاب والتعذيب، ارتأت المحكمة أن محاكمة "عبد الحميد س" لا تتطلب أن تُجرِّم سوريا الجرائم ضد الإنسانية على وجه التحديد، وأن الملاحقة القضائية يمكن استئنافها.

وإذ تدرك المحكمة إدراكًا تامًا أنها كانت توسّع نطاق القانون الفرنسي بشكل كبير، فقد ذكرت أنه لا تزال هناك بعض القيود المهمة . فعلى سبيل المثال، قد لا  يُصنَّف الاضطهاد وبعض جرائم الحرب كجريمة ضد الإنسانية في دول معينة. حيث حرصت المحكمة على الإشارة إلى أن مقاضاة مثل هذه القضايا في فرنسا لن تكون ممكنة  بموجب القانون الحالي.

القضية الثانية – الجهات الفاعلة غير الحكومية ، وشرط "الإقامة بصفة اعتيادية"، والتداعيات المستقبلية

في قضية ثانية، بُتّ فيها في نفس اليوم، أوضحت المحكمة قيودًا عديدة أخرى على الملاحقة القضائية للجرائم ضد الإنسانية. حيث كانت القضية تتعلق بالمدعو "إسلام ع "، وهو عضو في جهة فاعلة غير حكومية  (جيش الإسلام)، وكان قد سافر إلى فرنسا والتحق بالدراسة الجامعية، حيث وجِّهَت إليه تهمة التعذيب، والتواطؤ في حالات الاختفاء القسري، والمشاركة في مجموعة أُنشئت لارتكاب جرائم حرب، فضلًا عن تجنيد الأطفال.

التعذيب الذي تمارسه جهة فاعلة غير حكومية

يُعرَّف التعذيب بموجب القانون الدولي والقانون الفرنسي على أنه يُرتَكَب من قبل "مسؤول عام أو أي شخص آخر يتصرف بصفة رسمية". حيث اعترض المتّهم في القضية حول إمكانية اتهامه بالتعذيب لأنه لم يكن مسؤولًا عامًا، ولو ثَبت أنه كان عضو في جيش الإسلام، فرفضت محكمة النقض حجّته مستشهدة بقضايا من لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وكذلك بقرار صدر عن المحكمة العليا البريطانية في عام 2019، وقَضَت بأن التعذيب يمكن أن يُرتَكَب من قبل جهة فاعلة من غير الدول أثناء احتلالها للأراضي التي كانت تمارس فيها سلطة شبه حكومية. وأشارت إلى أن جيش الإسلام قد احتلّ منطقة الغوطة، ومارس سلطات قضائية وعسكرية واحتجازية وتجارية ودينية، وتسبب بالقمع والعنف والألم والمعاناة للسكان. وهذه الأفعال، في رأي محكمة النقض، يمكن أن تشكّل تعذيبًا،  ولو ارتُكبت من قبل جهة فاعلة من غير الدول.

مجرّد عابر سبيل؟

يفرض القانون الفرنسي عبئًا إضافيًا على المدّعي العام المختص في ملاحقة الجرائم الفظيعة، وهو إثبات أن المتّهم يتمتع "بالإقامة بصفة اعتيادية" في فرنسا. لسوء الحظ، لا يوجد أي تعريف لهذا المصطلح في القانون الفرنسي، وأشارت المحكمة إلى أن القصد من التقييد هو منع "استغلال" السلطات القضائية الفرنسية، والذي من شأنه أن يؤثر على سير العلاقات الدولية؛ لذلك من المفترض أن يضمن وجود صلة حقيقية بين فرنسا والشخص قيد التحقيق. حيث إن مجرد العبور عبر فرنسا لن يكون كافيًا لإثبات وضع "الإقامة بصفة اعتيادية". غير أنها أشارت إلى أن "إسلام ع "، الذي عاش والداه في تركيا، لديه بطاقة هوية طالب فرنسية، وتذكرة مترو، وبطاقة مكتبة، وبطاقة هاتف. ولاحظت المراقبة التي قامت بها الشرطة أنه كان يمكث في شقته في فرنسا، وأنه كان يغادر فقط للذهاب إلى المسجد أو لتناول الطعام، متصرفًا بصفته "مقيماً فعلياً وليس سائحًا"، ولذلك اعتبروا أنه كان يتمتع باستقرار كافٍ خلال فترة لا تقل عن 3 أشهر للوفاء بشرط "الإقامة بصفة اعتيادية"، وأن انعقاد المحكمة سيكون مُرحّبًا به من قبل المجتمع المدني الذي دعا إلى تحريك القضية. ولكنه لا يُعتبر حلًا شاملًا؛ حيث يتردد أعضاء الأنظمة الاستبدادية إلى العواصم الأوروبية للتسوق في شارع الشانزليزيه أو لتناول الطعام في المطاعم الحاصلة على نجمة ميشلان. ونظرًا لقيد الإقامة بصفة اعتيادية، فإن مجرد استدراج عضو من نظام مُسيء إلى فرنسا لن يسمح بالملاحقة القضائية، وسيكون من الأفضل أن تتم إزالة هذا القيد من القانون الفرنسي بالكامل.

الجنود الأطفال وأمهاتهم

في مواجهة أخرى لتحدٍّ قائم على التجريم المزدوج، أعادت المحكمة تأكيد حكمها في القضية ذات الصلة، بأنه لا يلزم أن تكون الجرائم في الدولة التي تقوم بالملاحقة القضائية ودولة ارتكاب الجريمة متطابقة، وأشارت إلى أن القانونين السوري والفرنسي يحظران تجنيد الأطفال دون سن 18 عامًا، كما أشارت إلى أن سوريا صدّقت على اتفاقيات جنيف الأربع، وكذلك على اتفاقية حقوق الطفل (التي تحظر تجنيد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 عامًا)؛ ولذلك قامت بإعادة الملاحقة القضائية لإسلام ع . في هذه التهمة، وأمرت أيضًا أن يقوم بدفع 2,500 يورو للأطراف المدنية مقابل أتعاب المحامين.

وبالتالي، أشارت المحكمة بشكل واضح إلى أن الملاحقة القضائية لتجنيد الأطفال في سوريا ممكنة داخل فرنسا، وقد تكون لهذه السابقة القضائية أهمية فورية؛ حيث أُعيد 35 طفلًا من شمال شرق سوريا إلى فرنسا، إلى جانب 16 أمًا لأطفال قد يُشتبه بانتمائهم إلى تنظيم داعش، ولا يزال مصير الأمهات غير واضح؛ غير أنه تمت محاكمة النساء اللواتي سافرن مع أطفالهن إلى سوريا والعراق بتهمة تعريض الأطفال للخطر بالإضافة إلى تجنيد الأطفال.

وكما أشرنا سابقًا، فإن الجرائم الخطيرة الأخرى، مثل استخدام الأسلحة الكيماوية، محظورة أيضًا بموجب القانون السوري؛ حيث إن هناك العديد من التحقيقات المُعلّقة في فرنسا بشأن هذه الجرائم، والتي ينبغي أيضًا أن تتمكن من المضي قدمًا دون عوائق.

الخلاصة

من خلال تفسيرها الليبرالي للقانون الفرنسي، تكون محكمة النقض قد حفظت مبدأ الولاية القضائية العالمية في فرنسا بشق الأنفس، ولا سيما فيما يتعلق بالجرائم في سوريا. مع عدم توفر المحكمة الجنائية الدولية، نظرًا لاستخدام روسيا والصين حق النقض (الفيتو) ضد إحالة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للوضع إليها ، وعدم وجود محاكم أخرى ذات ولاية جنائية للنظر في القضايا السورية، تظل الولاية القضائية العالمية الملاذ الأخير لأولئك الذين يسعون إلى تحقيق قدر من العدالة للسوريين وضحايا النزاعات الأخرى.

ويمكن الآن، مع هذين القرارين، للملاحقات القضائية  ضد أخطر الجرائم الدولية، بما في ذلك التعذيب والقتل وتجنيد الأطفال، أن تمضي قدمًا في فرنسا؛ ولكن لا تزال هناك قيود مهمة  من شأنها أن تَحُول دون محاكمة القضايا الخطيرة للغاية الأخرى. وإن هذه القيود غير مشروطة بموجب القانون الدولي، وسيخدم البرلمان الفرنسي العدالة الدولية بشكل أفضل من خلال إزالة هذه الثغرات وإعطاء الولاية القضائية العالمية إمكانية التنفيذ الكامل في فرنسا.

________________________________

للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.