خلف الكواليس مع فريق محققي المصادر المفتوحة في المركز السوري للعدالة والمساءلة
حرص المركز السوري للعدالة والمساءلة طوال السنوات العشر الماضية على استخدام برمجية البيانات مفتوحة المصدر التي أُطلق عليها اسم "بيانات" باللغة العربية، وتوسعت بحيث تحتوي الآن على ما يقرب من مليوني مقطع فيديو، ومقابلة، ووثيقة متعلقة بالنزاع السوري. وتخضع كل هذه الأدلة على اختلاف أنواعها لعملية منظمة من الوسم والتوصيف بطريقة منهجية كي تكشف عن العلاقة الترابطية بين مواد التوثيق (من وثائق ومقاطع وصور ومقابلات) المتنوعة، ومصادرها المختلفة أيضًا. والمركز ماضٍ في جمع ومعالجة الوثائق الجديدة بكل صيغها وتلبية طلبات البيانات التي تتقدم بها السلطات القانونية، ويبادر في هذا السياق فريق محققي المصادر المفتوحة (OSINT)المنشأ حديثًا في المركز إلى الاستعانة بالوثائق والمواد المتوفرة للتحقيق في الجرائم الخطيرة، وإعداد التقارير التي تخاطب صناع السياسات وعامة الجمهور.
وتمكن فريق المحققين في المركز حتى الساعة من إعداد ونشر أربعة تقارير استقصائية وفّرت أدلة على شن "ضربات مترادفة" على المدنيين، واستهداف قناصة النظام للمدنيين "عند المعابر"، واستخدام شكل آخر من الضربات المترادفة لاستهداف المشافي وإقدام قوات النظام على حرق جثث أشخاص عقب إعدامهم ميدانيًا.
ونلقي في هذا المقال نظرةً على عمل محققي المركز خلف الكواليس، وكيف يمحّص هؤلاء كل شيء عبر استعراض وتحليل ملايين المعلومات والبيانات لإعداد ملفات تزخر بأدلة تثبت ارتكاب الجرائم على اختلافها.
ما هي المجالات التي نركز عليها في تحقيقاتنا؟
يتشكل جُلّ محتوى برمجية "بيانات" الترابطية من معلوماتٍ مفتوحة المصدر ومتوفرةٍ عبر منصاتٍ مثل يوتيوب، وتويتر، وفيسبوك، وتلغرام، ومواقع إخبارية سورية تجمع وتُعِدّ المحتوى الإعلامي المتعلق بالحرب. ونظرًا لأن معظم المعلومات التي يتولى المركز جمعها تحوي مشاهد وصورًا مؤلمة، يبادر فريق تحليل البيانات في المركز إلى البحث عن المقاطع والصور المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي وحفظها قبل أن يتم حذفها من طرف الجهات القائمة على إدارة محتوى تلك المنصات. وقلّب محللو البيانات في المركز "أطنانا" من البيانات والمعلومات في السنوات العشر الماضية، وحرصوا على وسمها بما يناسب محتواها عقب تصنيفها، وتولوا إعداد قاعدة بيانات يسهل فيها على المستخدم البحث عن المعلومات والأدلة المتعلقة بآلاف الجرائم.
يتولى محققو المركز مسؤولية العثور على نمط واضح يجمع بين كل تلك البيانات، لاستنباط الأدلة المتعلقة بأشد الجرائم خطورة والمرتكبة بشكل منهجي. وجميع أفراد فريق التحقيق في المركز سوريون، ومضى على عمل معظمهم مع قاعدة بيانات المركز سنوات كثيرة، وهي خبرة لا يستهان بها، حيث أصبحوا يعوّلون عليها لتحديد ملامح كل خيط يمكن أن يقود إلى أدلة معينة ويعمل على متابعتها.
وفي سياق التقرير الذي أعده المركز بعنوان "لا مفر"، سبق للمحقق الرئيسي الذي عمل على التقرير وأن وثّق وقائع تشير إلى استهداف سوريين بنيران قناصة النظام لدى محاولة قطع المعابر، وساوره الشك من أنه ثمة نمطًا سائدًا في سلوك القناصة على المعابر بين مناطق المعارضة والمناطق التي يسيطر عليها النظام، واعتقد أنها تمثل نمطًا واسع النطاق لجرائم ترتكب بشكل منهجي. فقام أولا بسلسلة من عمليات البحث في برمجية "بيانات" لجمع كل الأدلة ذات الصلة التي سبق للمركز وأن جمعها. واتضح بادئ الأمر أنه ثمة ثماني وقائع يبدو أنها تطابق المعايير التي يركز التحقيق عليها، ومن ثم قلّصها إلى ثلاث حالات طابقت الأنماط التي كان يجري التحقيق بشأنها ويستقصي تفاصيلها على وجه التحديد، واستبعد الوقائع الخمس الأخرى من التقرير إما لنقص المعلومات الكافية بشأنها، أو لأنها كانت كاذبة أو مزيفة كما في ثبت في إحدى الحالات.
ثم عمل المحقق بعد ذلك على جمع مصادر أخرى من الأدلة الإضافية كي يتسنى التوثق منها ومطابقتها. ويحرص محللو المركز على إجراء عمليات بحث معلوماتي إضافية وموجهة جيدًا عند الاستعانة بمصادر البيانات المفتوحة، فضلًا عن البحث في قاعدة بيانات المركز غير المتصلة بالإنترنت عن مواد موثقة ميدانيًّا وتشمل مقابلاتٍ مع الشهود ووثائق صادرة عن الحكومة السورية أو داعش. كما يحرص المحققون على الاستعانة بأفراد فريق التوثيق في المركز الموجودين في الميدان كي يتولوا إجراء أي مقابلات إضافية مرتبطة بالموضوع الذي يتم استقصاؤه والتحقيق فيه. وفي سياق إعداد تقرير "لا مفر"، تمكن فريق المركز من تحديد وثيقة داخلية صادرة عن وزارة الدفاع السورية تُقرّ فيها بوجود استهداف للمدنيين بنيران القناصة.
التحقق من المصداقية
يلجأ محققو المركز السوري للعدالة والمساءلة بعد ذلك إلى استخدام أساليب وتقنيات متنوعة من أجل حشد تلك الأدلة والتوفيق فيما بينها وضمان مصداقيتها. ويقيّم المحققون أولًا مصداقية الأدلة الأولية التي تم الحصول عليها من المصادر المفتوحة. وعلى سبيل المثال، عندما يدقق المحققون مقاطع فيديو على يوتيوب توثّق واقعةً مزعومةً ويعكفون على مراجعتها، يحرصون بالتوازي مع ذلك على الحكم على مصداقية المقطع من خلال التحقق من الجهة أو الشخص الذي رفعه أو نشره، والوقت الذي تم فيه ذلك، وتقييم مدى مصداقية المقاطع الأخرى الموجودة في تلك القناة على يوتيوب. واتسمت مقاطع الفيديو التي نشرتها وسائل الإعلام المحلية، وشهود العيان، والضحايا بقدر كبير من المصداقية وحققت درجة أعلى عند تقييمها، مما أتاح إمكانية استخدامها لاحقًا من أجل التحقق من محتوى مقاطع تُنشر عبر حسابات مجهولة، ولا تتوفر عنها معلومات أخرى للتحقق منها. إلّا أن المركز يأخذ جميع البيانات التي يعثر عليها بعين الاعتبار، وقد تُستخدم حتى تلك المصادر التي لم يتم التحقق من مصداقيتها، لكن عقب إخضاعها لمعايير صارمة من التمحيص والتدقيق.
ثم يتسنى بعدها للمحققين أن يحللوا ما إذا كانت مقاطع الفيديو تؤيد توثيقات الواقعة التي أوردتها مصادر أخرى. وتتمثل إحدى الطرق للتأكد من ذلك في معرفة ما إذا تم رفع المقطع بعد حدوث الواقعة المزعومة، وما إذا تم تصويرها في الوقت الصحيح المواطئ لتوقيتها. ويمكن استعراض مقاطع الفيديو وغيرها من الأدلة من خلال البحث العكسي للصور للتحقق من المصدر الأصلي والمعلومات التي تبيّن وقت نشر البيانات أو رفعها على المنصة. ويستخدم محققو المركز تقنية InVID’s Chrome extension التي توفر خاصية تعقب مصدر الصورة وتاريخ التقاطها وما إذا تم التلاعب فيها، بالإضافة إلى أدوات أخرى مفيدة يمكن استخدامها بهذا الخصوص مثل TinEye، ومحرك جوجل للبحث عن الصور. ويستخدم محققو المركز أيضًا برمجية تحليل الظل وضوء الشمس للتحقق من توقيت التقاط الصور ومطابقة الخط الزمني للبيانات مع التفاصيل الواردة من شهود العيان والتقارير الإخبارية المحلية.
كما بوسع المحققين أن يتأكدوا من مواقع الوقائع المزعومة. واكتشف المحققون أثناء عملهم على إعداد تقرير "لا مفر" مقالا من أحد المنشقين وصف فيه منطقة تمركز قناصة النظام لاستهداف المدنيين أثناء انتقالهم بين مناطق الحكومة والمعارضة. وللتحقق من ذلك التقرير، بحث المركز عن مقاطع فيديو تؤيد ذلك الوصف، وعثر على أحدها الذي يُزعم أنه صُوّر في حي كراج الحجز في حلب حيث ورد حدوث تلك الواقعة. وبالإمكان مشاهدة قبة أحد المساجد القريبة في المقطع المصور بالإضافة إلى المباني الأخرى الظاهرة في الصورة، وهو ما ساعد المحققين على تحديد الموقع الدقيق للواقعة.
مستقبل تحليل البيانات
لا تزال الأخطار التي تحيط بعملية توثيق الجرائم ميدانيًا وما يرافقها من حملات التضليل تشكل عقبات تعرقل مسيرة توثيق النزاع السوري بشكل دقيق. ورغم ذلك، يحرص فريق محققي المصادر المفتوحة في المركز كل الحرص على أن يخرج بحلول مبتكرة للالتفاف على تلك العقبات ومجابهة تلك التحديات وتجاوزها متسلحين بخبرة عقدٍ من التوثيق المهني، وبطائفة متنوعة من الأدوات، كفلت للمركز أن يظل قادرًا بعد انقضاء ما يربو على عشر سنوات من عمر النزاع على أن يسلط الضوء على الانتهاكات من زاوية جديدة، وأن يستمر بالمناداة بتحقيق العدالة والمساءلة.
______________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.