1 min read
تحديد الجناة: الخطوة الأولى في خطة واقعية للمساءلة في سوريا

تحديد الجناة: الخطوة الأولى في خطة واقعية للمساءلة في سوريا

أدت ديناميكيات القوى الدولية إلى خلق تحديات كبيرة في كيفية تحديد نموذج قابل للاستمرارية للعدالة الانتقالية في سوريا. وبصرف النظر عن النموذج الذي يختاره الشعب السوري، فإنه سيواجه معضلة كيفية إحداث توازن بين المصالح المتضاربة للعدالة والمصالحة. إذ ينبغي ملاحقة الأفراد الأكثر مسؤولية عن الانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان ومعاقبتهم قانونياً. إلا أن الواقعية قد تؤدي إلى اختلاف حول العدد الدقيق من الأفراد الواجب مثولهم أمام المحكمة. فهل تتطلب العدالة الشاملة الملاحقة القانونية لكافة المجرمين مهما كان مستواهم أم يجب أن تقتصر على من هم في المناصب القيادية؟ ستتطرق هذه الورقة تحديداً إلى سؤال واحد سيظهر حتماً أمام المحكمة الجنائية الدولية أو في المحكمة المختلطة أو الهجينة ما بعد النزاع: من تجب ملاحقته قانونياً؟

المساءلة التمثيلية مقابل المساءلة واسعة النطاق

عند تحديد من يجب إخضاعه للمساءلة عن الجرائم المرتكبة في سوريا، فإن من المهم في البداية تحديد نطاق الملاحقة القانونية، والذي سيحدد بدوره العدد الفعلي من الأفراد الذين سيتم اتهامهم. وقد اتبعت المحاكم والآليات الهجينة تاريخياً واحداً من نهجين في هذا الصدد.

تمثَّل النهج الأول في توجيه الاتهام لمجموعة ضيقة من الأشخاص ممن لعبوا بالتحديد دوراً كبيراً في اتخاذ القرارات التي أدت لوقوع الجرائم المرتكبة. ولا يقصد بذلك مقترح شمولي لتحقيق العدالة والذي يمكن من خلاله إخضاع أي شخص متورط في أي مرحلة من ارتكاب الجريمة للمساءلة. عوضاً عن ذلك، يتم توجيه الاتهام فقط للأفراد الأكثر تمثيلاً ضمن الجناة الجماعيين. وقد قامت الغرف الاستثنائية في محاكم كمبوديا باعتماد العدالة التمثيلية عندما قامت بتوجيه الاتهام لثمانية أشخاص عن جرائم ارتكبت أثناء المذابح التي وقعت في كمبوديا خلال الفترة ما بين نيسان 1975 – كانون الثاني 1979. وضمَّ هؤلاء الثمانية أشخاص: رئيس الفرع الخاص لدى حزب الخمير الحُمر والمسؤول عن الأمن الداخلي وإدارة مخيمات السجون، ورئيس الدولة، والمنَّظر الرئيسي لدى الحزب، ونائب رئيس الوزراء للشؤون الخارجية، بالإضافة إلى أربعة أعضاء رفيعي المستوى في الحزب. على نحو مماثل، قامت المحكمة الجنائية الدولية بتوجيه الاتهام فقط إلى بضعة أفراد في حالات عُرضت أمامها.

على النقيض من ذلك، تمثَّل النهج الثاني في توجيه الاتهام إلى قائمة موسعة من الجناة – من أعلى مستوى في عملية صنع القرار وصولاً إلى الجنود المشاة. وتشمل جهود المساءلة الأفراد المتورطين طوال عملية ارتكاب الجرائم. وعقب ارتكاب المذابح في رواندا، قامت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا بتوجيه الاتهام ضد 93 شخصاً يشملون مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة والجيش متهمين بارتكاب مذابح، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. لكن تم توجيه الاتهام ضد مليوني شخص آخرين بسبب نفس الجرائم من قبل المحاكم المجتمعية التي تدعى “جاكاكا” (والتي تقوم في العادة بتسوية المنازعات المحلية) والتي تجتمع مرةً واحدةً في الأسبوع في القرى عبر البلاد، داخل الأسواق غالباً. وعلى نحو مشابه، قامت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا بتوجيه الاتهام إلى 161 شخصاً. إلا أن مئات آخرين تم توجيه التهم لهم أمام محاكم وطنية، مثل محكمة البوسنة والهرسك.

أدى كلا النهجين لإصدار أحكام إدانة وساهمت، بطرقها الخاصة، في مبادرات العدالة الانتقالية والتي تعد بالغة الأهمية في مداواة الجراح على المستوى الفردي والجماعي عقب النزاع. إلا أن كلا النهجين لا يشكلان نموذجاً مثالياً لتحديد نطاق ارتكاب الجرائم في السياق السوري. ففي كمبوديا، لم يتم عقاب العديد من أفراد حزب الخمير الحُمر ممن كانوا مسؤولين عن فظائع ارتكبت على نطاق واسع، ولا يزال عدد منهم يعيشون في ذات المجتمعات التي ارتكبوا فيها جرائم لا يمكن تصورها. وفي رواندا، لم تلبي محاكم جاكاكا المعاييرالدولية. حيث قام قرابة 160,000 قاض تم انتخابهم محلياً – ومعظمهم لا يملكون مؤهلات قانونية – بإصدار أحكام بالسجن لمدد طويلة وبالأشغال الشاقة على متهمين حرموا في الغالب من تمثيلهم من قبل محامين مؤهلين. وجرى اتهام بعض الأشخاص بشكل خاطئ بارتكاب الجرائم، وكان العديد من الضحايا يخشون على سلامتهم حيث كانوا يعيشون بالقرب من الجناة طوال عملية جاكاكا. وتواصلت العملية لنحو 20 عاماً عقب المذابح التي وقعت في عام 1994.

إيجاد التوازن المناسب

يعتبر عدد الأشخاص المتورطين في قائمة لا متناهية من الجرائم الخطيرة المرتكبة أثناء النزاع في سوريا كبير جداً. ويمكن إثبات ذلك من خلال آلاف الوثائق التي جمعها المركز السوري للعدالة والمساءلة على مدار عقد من الزمن.

إلا أن الملاحقة القانونية على نطاق واسع ستؤدي إلى إغفال الأخطاء التي وقع فيها النهج الذي اتبع في رواندا، وبالتحديد من خلال تهديد سلامة المجني عليهم، وفتح المجال أمام الاتهامات الباطلة، وتقييد الحقوق المتعلقة بمراعاة الأصول القانونية. وفي سوريا، قد يؤدي تطبيق النهج الرواندي أيضاً إلى تقويض عنصر أساسي في الملاحقة القانونية للجرائم الخطيرة: عنصرالحالة العقلية. حيث أُجبر بعض الأشخاص العاملين في أجهزة الدولة على اتباع الأوامر خوفاً من تعرض حياتهم للخطر. وقد اتفق واضعو نظام روما الأساسي، وهي المعاهدة التي تأسست بموجبها المحكمة الجنائية الدولية، على أن كون الشخص تابعاً لا يجب أن يُعفيه من المسؤولية الجنائية. إلا أن ذلك قد يُعفي أو يخفف من العقوبة في حال وجود شروط مثل الإجبار أو الإكراه. ولهذا السبب، قام واضعو نظام روما الأساسي بشمول ذلك العنصر كدفاع قانوني محتمل – ليس في المادة 33 حول الأوامر العليا وبموجب القانون، بل في المادة 78 والتي تنص على أن “تراعي المحكمة عند تقرير العقوبة عوامل من خطورة الجريمة والظروف الخاصة للشخص المدان” وكذلك القاعدة 145 من قواعد الإجراءات والأدلة والتي تنص على وجوب دراسة الحكمة للظروف المخففة، مثل الإجبار أو الإكراه.

من ناحية أخرى، يؤدي توجيه الاتهام لعدد محدود من الأفراد إلى إفلات العديد من الجناة من العقاب، بحيث سيعيش على الأقل عدد منهم مع المجني عليهم. وقد يؤثر ذلك بدوره على قدرة المجتمع على المضي قدماً عقب النزاع. وفي سوريا، يشكل مدى تشابك الذراع الأمني للدولة مع الحياة اليومية للمدنيين مثالاً على العدد الكبير من الأشخاص المتورطين نوعاً معا في ارتكاب الجرائم؛ فما بين أعوام 2011-2013، قامت أجهزة الأمن السورية باعتقال مئات الآلاف من الأشخاص وأعدت قائمة “مطلوبين” تضمنت أكثر من مليون شخص. ويكشف ذلك لوحده مدى تغلغل القطاع الأمني في المجتمع السوري، وعدد الأشخاص المتورطين في جرائم تعاقب عليها الدولة، والحاجة لصياغة نطاق حول المسؤولين عن ارتكاب الجرائم والذي يضم بشكل كاف متخذي القرارات والأفراد المنخرطين بذلك – من خارج نطاق دائرة بشّار الأسد والمقربين منه.

الخلاصة

بصرف النظر عن الآلية المختارة لقيادة العدالة الانتقالية، سيضطر السوريون سريعاً لمواجهة أسئلة بالغة الأهمية، ابتداءً من عدد الجناة الذين سيتم توجيه الاتهام لهم. وستحدد الإجابة عن هذا السؤال شكل مسار مداواة الجروح على المستويين الفردي والجماعي. وبينما من المفترض توجيه الاتهام لمسؤولين رفيعي المستوى، قد يتوجب على السوريين أيضاً التفكير في بدائل لتوجيه الاتهام. وبالنظر إلى تغلغل أجهزة أمن الدولة، تتمثل ربما إحدى الخطوات المعقولة في عدم السماح لمن خدموا في قطاع الأمن من العمل مجدداً في مناصب في الحكومة أو الجيش. وعند القيام بذلك، ستواجه القيادة العليا المسؤولة عن إصدار الأوامر بارتكاب الجرائم الملاحقة القانونية، بينما سيواجه من هو في مستويات أدنى من سلسلة القيادة التداعيات. وأياً كان، سيتطلب اتباع نهج شامل وشمولي للعدالة الانتقالية في سوريا مزيجاً من النهج المستخدمة من قبل المجتمع الدولي، لكن بما يتلاءم مع الاحتياجات الخاصة بالسوريين.

______________________________________________

لمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والملاحظات، يُرجى التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected] ومتابعتنا على الفيسبوك وتويتر. ويرجى الاشتراك في النشرة الإخبارية الصادرة عن المركز السوري للحصول على تحديثات حول عملنا.