التعتيم على العدالة: الحاجة إلى المزيد من الشفافية في المحاكمات التي تجريها ألمان?
في 23 نيسان/أبريل، 2020، تمت الإشادة بألمانيا ‘للبدء في أول محاكمة في العالم بشأن التعذيب الذي ترتكبه الدولة’. ومع ذلك، لاحظ مراقبون يتابعون عن كثب محاكمة أنور ر. وإياد أ. (محاكمة كوبلنتس) بعض القضايا الأساسية المشتركة في المحاكمات الألمانية بموجب الولاية القضائية العالمية. وإن المحاكمات الأخرى الجارية حالياً في فرانكفورت ودوسلدورف تدعم الصورة القائلة بأنه من خلال سعي ألمانيا لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية، ينبغي أن تتيح ألمانيا قدراً أكبر من الشفافية والشمول للناجين من الجرائم.
وصول الجمهور
بُذلت جهود كبيرة من قبل المحكمة الإقليمية العليا في ضوء الاهتمام الكبير من قبل الجمهور بمحاكمة كوبلنتس. وخلال الأشهر الثمانية الأولى، عُقدت الجلسات في البداية في مبنى محكمة المقاطعة الذي يضم شُرفة أكبر للجمهور. ونظراً لأن عدد المقاعد أصبح محدوداً أكثر بسبب تدابير الحماية المتعلقة بجائحة كوفيد، لم تكن هناك مساحة كافية لاستيعاب العديد من المتفرّجين المهتمين، ومن بينهم العديد من الناجين. وعندما أشارت محكمة المقاطعة لاحقاً إلى أنها لم تعد قادرة على الاستغناء عن القاعة، اضطرت المحكمة الإقليمية العليا إلى إعادة تصميم مكتبتها لاستضافة المحاكمة. ويعود الفضل في إمكانية تحقيق ذلك إلى حراس المحكمة الذين عملوا لوقت إضافي لتنفيذ جميع تدابير الحماية من كوفيد، والجهود التي تبذلها إدارة المحكمة لتوفير الموارد المالية اللازمة.
وعلى الرغم من الجهود الفردية للمحكمة، لم تستطع قاعة المحكمة الجديدة حل المشكلات القائمة أصلاً فيما يتعلق بإمكانية حصول الجمهور على الترجمة الفورية. وعلى الرغم من أن هذه القاعة توفر المزيد من المقاعد، إلا أن المتفرّجين الناطقين باللغة العربية لا يزالون غير قادرين على متابعة الجلسات. وبغضّ النظر عن التدابير الأولية التي أمرت بها المحكمة الدستورية الاتحادية الألمانية، لم يكن بإمكان أحد سوى الصحفيين الناطقين بالعربية المعتمدين من قبل المحكمة طلب الحصول على أجهزة استقبال الترجمة الفورية.
الترجمة الفورية
بموجب القانون الألماني، فإن لغة المحاكمة هي الألمانية دائماً. وإذا كانت الأطراف المعنية لا تفهم اللغة الألمانية، فإن المحاكم ملزمة بتوفير الترجمة لها. ومع ذلك، لا يوجد أي إلزام يمنح الجمهور الحق في الحصول على الترجمة أيضاً. وعادة ما يتكون الجمهور المهتم في المحاكمات التي تُجرى بموجب الولاية القضائية العالمية من متحدثين غير ناطقين بالألمانية ولا يمكن لهؤلاء متابعة الجلسات إلا من خلال الحصول على الترجمة الفورية. غير أن المحكمة في كوبلنتس لم تسمح بحصول الجمهور على أجهزة الترجمة الفورية، وسمحت فقط للصحفيين المعتمدين من قبل المحكمة باستخدام أجهزة الترجمة [للغتين العربية/الإنجيزية]. وبالنظر إلى أن عملية تقديم طلبات الاعتماد نُشرت باللغة الألمانية ولمدة أسبوع واحد فقط في بداية جائحة كوفيد، فلا يوجد تقريباً أي صحفي معتمد من الناطقين باللغة العربية لهذه المحاكمة. وبالتالي، فإن التدابير الأولية التي اتخذتها المحكمة الدستورية أعلاه لزيادة الوصول إلى الترجمة ليست مجدية من الناحية العملية.
تُظهر هذه الممارسة بالإضافة إلى قرار نهائي معلق من قبل المحكمة الدستورية أنه لا توجد إرشادات واضحة وموحدة حول الكيفية التي يمكن من خلالها إتاحة الوصول إلى جلسات المحكمة لغير الناطقين باللغة الألمانية – أولئك الذين لديهم أكبر اهتمام في محاكمات الولاية القضائية العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المحاكم والمدعي العام الاتحادي لا يقومون بإطلاع الجمهور على الجلسات التي تُعقد بموجب الولاية القضائية العالمية بأي لغة أخرى غير الألمانية، وكانت هذه مشكلة منذ انطلاق أولى محاكمات الولاية القضائية العالمية في ألمانيا.
التقارير العامة
بالتالي، تُرِك الأمر لأطراف ثالثة، مثل المنظمات غير الحكومية، لإبلاغ مجموعات الضحايا بشأن الجلسات، وتقوم هذه المنظمات بذلك من خلال حضور الجلسات وتوفير تقارير بلغات أجنبية مثل الإنجليزية والعربية. ونظراً لاقتصار تواصل السلطات الألمانية باللغة الألمانية فقط، فإن هذه التقارير هي الطريقة الوحيدة للأشخاص المهتمين بالمحاكمة للحصول على أي معلومات حول الجلسات. وقد يتسامح القضاة في كوبلنتس مع هذه الممارسة، ولكن في محاكمات الولاية القضائية العالمية الأخرى مثل محاكمة طه ال–ج. في فرانكفورت، فلا توجد تقارير متاحة للجمهور. وفي حين حذّر القضاة في كوبلنتس بشكل غير رسمي فقط “كل من ينشر مدوّنات حول هذه المحاكمة” أن يتحرّوا بعناية المعلومات التي ينشرونها فيما يتعلق بحماية الشهود، بدا القضاة في فرانكفورت أكثر تشدّداً. وعلى الرغم من أن مراقبي المحاكمة يراقبون المحاكمة في فرانكفورت، إلا أنه يُحظَر عليهم مشاركة ملاحظاتهم مع الجمهور. وفي الوقت نفسه، لم تحظَ محاكمة أخرى في دوسلدورف ضد سوريَّين اثنين متورطَين في قتل ضابط حكومي بصفتهما عضوين في تنظيم داعش، باهتمام الجمهور. وقد يكون هذا بسبب حقيقة أنه منذ أن أصدر المدّعي العام لائحة الاتّهام، يكاد يكون من المستحيل العثور على أي معلومات حول الجلسات على المواقع الإلكترونية ذات الصلة لمكتب المدّعي العام أو المحكمة.
وقد يخشى المدعون العامون والمحاكم من أن المناقشات العامة للمحاكمات الجارية قد تُعرّض الشهود للخطر أو تؤثّر على الشهادات في المستقبل. ومع ذلك، تتوفر تدابير حماية الشهود بموجب القانون الألماني في الحالات التي يكون فيها قلق على سلامة الشاهد. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون مصدر معلومات الشاهد نقطة مركزية للاستجواب أثناء شهادته وقد يتضمن أسئلة حول ما إذا تم الحصول على تلك المعلومات من خلال تقارير صحفية أو غير ذلك من القيل والقال. ويمكن للمحاكم أيضاً مكافحة التضليل الإعلامي من خلال توفير تحديثات منتظمة حول المحاكمات التي تُجرى تحت بند الولاية القضائية العالمية. حيث برهنت هولندا وفنلندا أن هذا حل عملي بالفعل. في هذين البلدين، يستخدم المدعون العامون وسائل التواصل الاجتماعي والبيانات الصحفية المنتظمة بلغات متعددة لإبلاغ الجمهور بالمحاكمات الجارية وحتى التواصل معهم من خلال طلب مساعدتهم كشهود محتملين على جرائم دولية.
اتّخاذ الخطوات اللازمة
كشفت محاكمة كوبلنتس وغيرها من المحاكمات الجارية حالياً بموجب الولاية القضائية العالمية عن المتاعب المتزايدة التي يواجهها القضاء الألماني في التعامل مع القضايا الدولية. حيث تشمل هذه السياسات تواصلاً غير كافٍ مع مجموعات الضحايا المتضررين، ومساحة غير كافية لتوفير إمكانية الوصول لجمهور أكبر، فضلاً عن عدم كفاية القدرات التقنية لمنح الوصول إلى الترجمة الفورية. ولقد قامت المحكمة في كوبلنتس بمحاولات جريئة لتعويض جوانب النقص العامة هذه من خلال إنشاء قاعة محكمة جديدة وتقديم ترجمة تتابعية، على الأقل عند النطق بالحكم في محاكمة إياد الغريب. ومع ذلك، فقد بات واضحاً أن المحاكم ذات الصلة ليس لديها ما يكفي من الموارد المالية والتوجيه العام لتلبية احتياجات ضحايا الجرائم الدولية، لاسيما وأن محاكمات الولاية القضائية العالمية منتشرة في جميع أنحاء البلد.
لذلك يجب على ألمانيا توفير الموارد المالية اللازمة والتوجيه في الوقت المناسب للمحاكم التي تنظر في القضايا بموجب الولاية القضائية العالمية. وتُعتبر هذه الموارد المالية ضرورية لتجهيز قاعات المحكمة بأجهزة تقنية حتى يتمكن الجمهور من الحصول على الترجمة. وقد يفكّرون أيضاً في إيصال صوت جلسات المحكمة إلى قاعة إضافية في حال لم تتسع القاعة الأصلية للجمهور. وينبغي للمحاكم والسلطات ذات الصلة، مثل مكتب المدعي العام الاتحادي، أن تتلقى مزيداً من بناء القدرات في مجال الاتصال والتواصل مع المجتمعات المتضررة.
إن العدالة والمحاسبة على الجرائم بموجب القانون الدولي لا تتحقق بمجرّد محاكمة الجناة المزعومين. وفي حين أن التحقيقات والمقاضاة شرطان أساسيان لا غنى عنهما للمحاكمة، فإن المحاكمة نفسها لا تقل أهمية بالنسبة للضحايا والناجين من هذه الجرائم. ومن أجل الخروج من تجاربهم المؤلمة، يحتاج الناجون من الجرائم الدولية إلى رؤية الجناة وهم يُحاسَبون فعلاً. وتُعتبر الإعلانات عن بدء التحقيقات وأوامر الاعتقال التي تنتظر التنفيذ نجاحاتٍ مؤقتة. وإن إجراء محاكمة عادلة وشاملة وإتمامها هي الخطوة الأخيرة لتحقيق العدالة للضحايا والناجين من هذه الجرائم الجسيمة.
ويكتسي هذا الأمر أهمية أكبر لأن محاكمة كوبلنتس ومحاكمة طه ال-ج. في فرانكفورت ما هما إلا أولى محاكمات الولاية القضائية العالمية من بين العديد من المحاكمات التي ستعقبهما في ألمانيا. وبوجود علاء م، وهو طبيب سوري متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سياق الصراع السوري، توشك محاكمة أخرى على البدء تحت بند الولاية القضائية العالمية. لذلك يجب على ألمانيا إنشاء فريق عمل مركزي، مزوّد بالموارد المالية والمعرفة بجوانب العدالة الانتقالية، لدعم المحاكم في إجراء محاكمات شفافة وشاملة بموجب الولاية القضائية العالمية. وإن الشفافية ليست ضرورية فقط لشرعية مثل هذه المحاكمات، ولكن بشكل خاص للمجتمعات المتضررة التي يرتبط مستقبلها السلمي ارتباطاً وثيقاً بإبراز هذه المحاكمات وتسليط الضوء عليها. وإن ترك الأمر لوسائل الإعلام الأجنبية لإبلاغ الناس ببدء المحاكمة وترجمة ما أسفرت عنه من نتيجة فقط في شكل حُكم ليس كافياً، بل ويؤدي فعلياً إلى التعتيم على العدالة.
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.