
تأمّلاتُ مراقبي المحاكمات التابعين للمركز السوري للعدالة والمساءلة في الحكم الصادر ضد علاء م.
في 16 حزيران/يونيو 2025، وفي حكمٍ قضائي غير مسبوق، أُدين الطبيب السوري علاء م. بارتكاب جرائم ضد الإنسانية لتعذيبه مرضاه. ويمثّل هذا القرار التاريخي أول محاكمة جنائية في العالم تنظر في مشاركة عاملين في القطاع الطبي في التعذيب الذي مارسه النظام في سوريا. وتمثل هذه المحاكمة خطوةً بالغة الأهمية نحو محاسبة الجناة من جميع أطراف النزاع.
ومنذ بدء المحاكمة في 19 كانون الثاني/يناير 2022، راقب المركز السوري جلسات المحاكمة بدقة عن طريق مراقبين محليين مُدرَّبين. ونشر المركز السوري بانتظامٍ تقاريرَ عن سير المحاكمة باللغتين العربية والإنجليزية، مُوفرًا بذلك توثيقًا بالغ الأهمية. وكما هو الحال في المحاكمات المحلية السابقة التي طالت مسؤولين حكوميين سوريين، طَمَس غيابُ الترجمات الرسمية من المحكمة السجلَّ التاريخي، وحدّ من الشهادات المتاحة، وأعاق التفكير المستقبلي في انتهاكات حقوق الإنسان وعمليات العدالة. ولذلك، كانت جهود المراقبة الشاملة التي بذلها المركز السوري أساسيةً لإنشاء سجل تاريخي للمحاكمة ولضمان أن تكون التوثيقاتُ متاحةً للضحايا وعائلاتهم.
وبعد صدور الحكم، قدّم مراقبو المحاكمة التابعون للمركز السوري، والذين كانوا حاضرين طيلة جلسات المحاكمة، عدَّة ملاحظات حول أهمية المحاكمة وما شابها من أوجه قصور ونقائص.
أهمية المحاكمة
أكّدت محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب الظنَّ الراجحَ بأن قوات الأمن والجيش هي الجهة الرئيسية المسؤولة عن التعذيب في سوريا. ولكن ما يصعُب تصوُّره هو أنّ مَن تدرّب على علاج الناس كان المسؤولَ عن تعذيبهم. وهذا تحديدًا ما يجعل محاكمةَ علاء م. في فرانكفورت، ألمانيا، صادمة إلى هذا الحد: فقد تبيّن أنّ الذي أقسم على علاج مرضاه كان هو مَن عذّبهم.
وكشف تحليل الوثائق أنّ الطاقم الطبي كان حلَقةً لا تتجزأ من سلسلة الأحداث: إذ نقل عناصرُ المخابرات المعتقلين إلى المشفى، حيث فحصهم طبيبٌ ثم كتب تقريرًا عن حالتهم الصحية. ولولا الطبيبُ وتقريرُه لانقطعت هذه السلسلة، بغض النظر عمّا إذا كان الطبيبُ مُكرَها. كما كانت المشافي حلقةَ الوصل الأساسية بين مراكز الاعتقال والمقابر الجماعية. فكَشْفُ ما وقع فيها سيساعد في توضيحِ التسلسل الزمني للأحداث وتحديدِ مصير المفقودين.
في محاكمات سابقة، كالتي جَرَت في كوبلنتس، أشارت شهادات الشهود إلى إرسال معتقلين إلى مشافٍ ونقل جثثٍ من مشافٍ إلى مقابرَ جماعية. وتُسلّط هذه المحاكمةُ الضوءَ على تلك الحَلَقة التي كانت مفقودة، فتؤكِّد بذلك تسلسلَ الأحداث.
التحديات التي واجهتها المحاكمة
برزت عدّةُ تحدياتٍ خلال المحاكمة، وقد تشكّل دروسا مهمة للمحاكمات مستقبَلا:
- ربما قُدمت وثائق مزورة إلى المحكمة. وبالتالي، سيكون التحقّق من صحة الوثائق أمرًا أساسيًا في المحاكمات مستقبَلا.
- شارك أحدُ محامي الدفاع معلومات عن الشهود مع أطراف خارجية. ويسبّب هذا مشاكلَ تتعلق بحماية الشهود، وقد يُثني الشهودَ مستقبَلا عن الإدلاء بشهاداتهم إن لَم يُعالَج هذا السلوكُ السيء.
- هُدِّد أحدُ المدّعين وأحدُ الشهود على الأقل.
- كانت هناك مشاكل متكررة في الترجمة الشفوية. ولم يتمكن الجمهور من الحصول على الترجمة الشفوية العربية. وقد استُبعد أحد المترجمين الشفويين للعربية لافتقاره للحياد. وعُرضت مَحاضِرُ مقابلات طلبات اللجوء في المحاكمة، والتي كانت تعجّ بمشاكلَ في الترجمة.
- استغرقت المحاكمة وقتًا طويلًا للغاية، إذ امتدّت لأكثر من ثلاث سنوات. وهذا أمرٌ جديرٌ بالملاحظة، إذ يُمكن القول إنها كانت أقل تعقيدًا من محاكمة أنور رسلان في كوبلنتس بألمانيا، والتي تضمنت نمطًا وقائعيًا أوسع بكثير، ونطاقًا أوسعَ من الاتهامات، وعددًا أكبر من الضحايا.
ملاحظات بشأن المتهم
وصف الشهود علاءً، وفيهم زملاؤه، بأنه يحب إظهار الغطرسة والتبجّح والتباهي، فضلا عن تأييده النظامَ علانيةً، وهو ما أنكره المتهمُ بدايةً، ولكن دحضت إنكارَه كثيرٌ من محادثاته الخاصة على فيسبوك والتي أكّدت ولاءه لنظام الأسد.
ولهذا، فشل علاء م. في الظهور بمظهر الشاهد الموثوق لكي يدافع عن نفسه. فرغم أنه سَلَّم بوقوع إساءة المعاملة في المشفى، إلّا أنه أنكر ضلوعه فيها. وأدان المتهمُ نفسَه باعترافه بالكذب على المحكمة مرتين: الأولى أنه لم يكن مؤيّدا للنظام، والثانية أنه لم يَرَ جثثًا في المشفى. وأقرّ افتراءه الكذب على شخص رئيسي [حُجِب الاسم]، إذ غالى في ادعاءاته وبالغ حينما زعم أنّ ذلك الشخصَ كان مسلحًا، وهو ادعاء باطل. وقد افترى هذه المزاعم عندما كان يتواصل مع السفارة السورية في برلين. وعزّز علاءٌ سهوًا في شهادته مزاعمَ الادعاء العام بأنه كان موجودًا بالفعل في مشفيَي حمص وتشرين أثناء وقوع الأحداث التي اتُّهم بها.
النتائج الرئيسية للمحكمة
توصلت المحكمة إلى عدة نتائج رئيسية:
- وُجد أنّ الشخص الرئيسي الذي لم يُدلِ بشهادته في المحاكمة، والذي طعن فيه الدفاع مرارًا، لم يكن متطرفا، ولم تجد المحكمة ما يشير إلى وجود دافع منطقي لديه ليلفّق اتهامات ضد علاء م.، وهو ما وجّه ضربة كبيرة لحجة الدفاع.
- قضت المحكمة بأن سلوك المتهم، علاء م.، كان خطيرًا للغاية، وهو ما أدى إلى حكمٍ بالسجن لمدة طويلة.
- قضت المحكمة بأن علاء م. يُشكّل خطرًا على عامة الناس، وأمرت بحبسه حبسًا احترازيًّا نظرًا لميوله الساديّة.
الخلاصة
تُمثّل إدانة علاء م. لحظةً مهمةً في السعي لتحقيق العدالة لضحايا التعذيب في سوريا. وبالتركيز على دَور أحد العاملين في المجال الطبي تحديدًا، تُوسّع هذه المحاكمة نطاقَ المساءلة إلى ما يتجاوز الجهات الأمنية والعسكرية التقليدية، وتسلّط الضوء على الأهمية الحاسمة لجميع الأفراد، والالتزام بالمعايير الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان، لا سيما أثناء النزاع. ورغم التحديات التي واجهتها المحاكمة، ومنها مشاكل تتعلق بأصالة الوثائق، وحماية الشهود، والترجمة، إلّا أنّ نجاحها يُسهم في إرساء أُسُسٍ أوسعَ لتقصّي الحقائق في جهود العدالة الانتقالية في سوريا.
حقيقةُ أنّ قوات الأمن وأجهزة المخابرات والجيش والشبيحة مارست التعذيب في سوريا هو أمرٌ معلومٌ بالضرورة للقاصي والداني. إلّا أن هذه المحاكمة أماطت اللثام عن صنف آخر من الجناة: ألا وهو الطواقم الطبية، أطباءَ كانوا أم ممرضين. وبيّنت أنّ الجناةَ كُثُرٌ وإن اختلفت ألوانُهم، وأنّ كلّا منهم رمى بسهام غِلِّه نحو هدف مشترَك خبيث.
تُساهم هذه المحاكمةُ القائمةُ على مبدأ الولاية القضائية العالمية ومثيلاتُها في كشف ما كان يدور في مراكز الاعتقال ومنشآته، وفي ردّ شيء من حقوق المعتقلين والناجين منها، وفي محاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم فيها. وكما أنّ من أُسُسِ العدالة الانتقالية محاسبةُ المجرمين في سوريا، فكذلك الأمرُ بالنسبة للمجرمين الفارّين منها إلى أوروبا وغيرها. فلا السوريون يريدون مجرمين يرتعون في وطنهم ويجوسون فيه أو خارجه، ولا أوروبا تريد أن يكون ترابُها مأوًى لأولئك المجرمين.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.