
قد تُشكِّل محكمةٌ فرنسيةٌ سابقةً عالميةً في قضية حصانة الأسد
حتى الآن، حالت "الحصانة الشخصية" دون الملاحقة القضائية لأي رئيس دولة أمام محاكم دولة أجنبية. غير أن هذه الحماية القائمة منذ أمد بعيد تُمتحن الآن في فرنسا. ففي عام 2021، قدّمت امرأة شكوى أمام المحاكم الفرنسية بشأن الهجمات الكيميائية التي نُفّذت في الغوطة الشرقية عام 2013. وسرعان ما توصّل التحقيق إلى أن الرئيس السوري هو من يقبع على هرم سلطة إعطاء الأوامر، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أصدر قاضي تحقيق فرنسي مذكرة توقيف ضد بشار الأسد.
ويتعيّن الآن على محكمة النقض الفرنسية – أعلى هيئة قضائية في البلاد – أن تُقرّر ما إذا كانت ستُقرّ مذكرة التوقيف. ويتمثّل جوهر القضية في إمكانية استثناء الرئيس السوري من الحصانة الشخصية نظرا إلى خطورة الجرائم المزعومة. وفي 4 تموز/يوليو 2025، استمعت محكمة النقض إلى مرافعات محامي المدّعين ومكتب النائب العام. ولم يرسل الأسدُ ممثلا عنه، إذ إنه الشخصُ المعنيّ بهذه القضية.
وحاجج محامي المدعين بأن الاستثناء مبررٌ نظرًا للخطورة البالغة للهجمات الكيميائية التي يُزعم بأن الأسد أمر بتنفيذها ضد مدنيين في دوما. وكانت الذريعة المعتادة هي أن استثناءً كهذا قد يزعزع استقرار العلاقات الدولية ويفتح الباب أمام قضاة محليين آخرين لمقاضاة قادة أجانب – ويُحتمل أن يطال ذلك الرئيس الفرنسي نفسه. وردّا على ذلك، حاجج محامي المدعين بأن الأهوال التي لحقت بالشعب السوري، والزعزعة الإقليمية الناجمة عن الحرب الأهلية، تفوق كثيرا المخاوفَ التي قد تُسبّبها الاضطراباتُ الدبلوماسية بعد اعتقال الأسد بقرارٍ من محكمة فرنسية. وإضافةً إلى ذلك، أكّد المحامي أن فرنسا لن تتحرك بمفردها، إذ يمكن أن تعوّل المحكمةُ العليا في فرنسا على دعم المجتمع الدولي الذي وثّق الهجمات الكيميائية باستفاضة ودعا مرارًا إلى المساءلة.
ومن وجهة نظر النائب العام، لا تزال هناك مخاطر كبيرة قد تنجم عن إجراء استثناء كهذا لحصانة رؤساء الدول. وحثّ المحكمةَ على الحفاظ على مبدأ سيادة الدولة وحُرمة "الحصانة الشخصية" – حتى في القضايا التي تتضمّن أفظعَ الجرائم. ومع ذلك، يبقى السماح لقادة مثل بشار الأسد بالإفلات من العدالة إلى أجل غير مسمى أمرًا مقلقًا للغاية. فكيف يمكن إذن الإبقاء على مذكرة التوقيف؟ طرح النائب العام حُجة بديلة: إذا كان التشكيك في حصانة رئيس دولة ما أمرًا غير ممكن، فلا يزال الطعنُ في وضع بشار الأسد رئيسًا للدولة أمرًا ممكنا. فنظرًا إلى الجرائم المرتكبة ضد شعبه وفقدان النظام السوري السيطرةَ على أراضي الدولة، توقفت فرنسا عن الاعتراف ببشار الأسد رئيسًا لسوريا بعد عام 2012. وحاجج النائب العام بأن الأسد لم يعد يتمتع "بالحصانة الشخصية" بعد ذلك التاريخ بسبب "إلغاء الاعتراف" هذا، وهو ما يعني أن مذكرة التوقيف الصادرة في عام 2023 سارية المفعول. فكانت هذه حجةً غير مسبوقة.
ورغم جسامة الجرائم المعنيّة، إلّا أن الرأي السائد في القانون الدولي يرى أن المحاكم الوطنية تفتقر إلى الولاية القضائية لمحاكمة رؤساء الدول الأجنبية أثناء توليهم مناصبهم. ولذا، يُرجح ألّا تجد المحكمة أي استثناء من "الحصانة الشخصية" حتى ضد بشار الأسد، وحتى في حالة وجود جرائم خطيرة كاستخدام الأسلحة الكيميائية ضد مدنيين سوريين. بل وحدّت المحكمة الجنائية الدولية من صلاحياتها فيما يخص سوريا، ولم تُبد أي نية لتجاوز حدود ولايتها القضائية. ومع ذلك، تواجه محكمة النقض الفرنسية الآن سؤالا قانونيا حاسما: هل يؤثر "إلغاء اعتراف" فرنسا بالأسد رئيسا لسوريا على حصانته؟ قد يُشكّل إصدار حكم بالإيجاب في هذا الشأن سابقةً قانونية قوية – تؤكد على أنه لا ينبغي حماية القادة المتهمين بارتكاب جرائم دولية ضد شعوبهم.
وفي نفس التاريخ، من المقرر أن تُصدر المحكمة حكما بشأن شكل آخر من أشكال الحصانة – يُعرف باسم "الحصانة الوظيفية" – التي تحمي موظفي الدولة من الملاحقة القضائية عن الأفعال التي فعلوها ضمن واجباتهم الرسمية. إذ احتكم إلى هذه "الحصانة الوظيفية" الحاكمُ السابق لمصرف سوريا المركزي، أديب م.، الذي يُحاكم حاليا أمام القضاء الفرنسي لاستخدامه المؤسسة المالية الوطنية للتعاون مع شركة ضالعة في تصنيع أسلحة كيميائية. ورفضت العديد من المحاكم الوطنية – ومنها الفرنسيةُ – مبدأَ الحصانة الوظيفية في قضايا الجرائم الدولية، بل ذهبت ألمانيا وإسبانيا إلى حدّ تعديل قوانينهما الجنائية للسماح بمقاضاة موظفي دول أجنبية يُشتبه في ارتكابهم مثل هذه الفظائع. ولا يوجد خطر يُذكر على المحكمة الفرنسية في تبنّي النهج نفسه وتأكيد قانونية الإجراءات المتخذة ضد أديب م.
ستُصدِر المحكمة قرارها (أو قراراتها) في 25 تموز/يوليو 2025.
أصدر قاضي تحقيق فرنسي مذكرة توقيف أخرى ضد بشار الأسد في 12 كانون الثاني/يناير 2025، وذلك في قضية أخرى تتعلق بمقتل مواطن فرنسي سوري استُهدف في تفجير بدرعا عام 2017. وبعد الإطاحة به، لم يعد بشار الأسد يتمتع بالحصانة وقت صدور مذكرة التوقيف الثانية هذه، وبالتالي لم يُطعن فيها ولا تزال سارية المفعول.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.