مؤسسات المقاتلين المتطرفين: الشركات العسكرية "الجهادية" الخاصة في شمال غرب سوريا
خلفية:
دشن ظهور شركة "ملحمة تاكتيكال"، إحدى الشركات العسكرية "الجهادية" الخاصة في 2015 حقبة شهدت دخول نوع جديد من الجماعات المسلحة إلى ساحة النزاع السوري. وفي الوقت الذي اعتمدت فيه الكثير من الجماعات على المستشارين العسكريين الأجانب، والمنشقين عن الجيش السوري من أجل تلبية احتياجاتها التدريبية التعبوية والقتالية، أصبحت تلك الشركات العسكرية "الجهادية" الخاصة تؤدي دورا فريدا من نوعه عن طريق عرض خدمات التدريب التعبوي والقتالي لعناصر الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة، وإن تنامي إضفاء الطابع الحرفي والمهني على عملها يشكل مزيدا من المخاطر التي تهدد بحصول تصعيد في النزاع السوري.
وبالرغم من أن شركة "ملحمة تاكتيكال" كانت أولى الشركات العسكرية الخاصة التي تأسست في هذا المضمار، استحوذت عليها هيئة تحرير الشامفي 2017 عقب مزاعم بمقتل مؤسسها أبو رفيق. وتأسست منذ ذلك الحين شركات عسكرية "جهادية" خاصة أخرى حرصت على استنساخ المفهوم الأصلي لشركة "ملحمة تاكتيكال" وتطويره. وتشمل تلك الشركات شركة بقيادة أوزبكية يُطلق عليها اسم "مهاجر تاكتيكال" التي تأسست في 2022، وشركة "أويغور يورتوغ تاكتيكال" في 2018، وشركة "ألبانيان تاكتيكال" التي تأسست في 2022.
وتنشط الشركات العسكرية "الجهادية" الخاصة من داخل هيئة تحرير الشام ضمن شبكة واسعة من المقاتلين الأجانب. ويُطلق على الضباط والأفراد المقاتلين الأجانب، وتحديدا القادمين منهم من مناطق القوقاز وآسيا الوسطى اسم "الانغماسيون"، ويُعتقد أنهم من أشرس المقاتلين، وغالبا ما يشاركون في هجمات انتحارية. وفي المقابل، تقوم الشركات العسكرية الخاصة بدور مختلف ومهم كمورد حيوي للتدريب التعبوي الميداني والاستشارات العسكرية بالتزامن مع اضطلاعها بدور "القوات الخاصة" لصالح جماعات مثل هيئة تحرير الشام. وفي سياق مسرح عمليات تهيمن عليه القذائف المدفعية، والضربات الجوية، وما يُعرف "بالذخائر الحوامة المتسكعة" والقذائف الموجهة المضادة للدبابات، تُعد الشركات العسكرية الخاصة بمنزلة وحدات قتالية ذات قيمة عالية في الميدان كونها مدربة تدريبا خاصا في قتال المشاة والعمليات البرية.
وأدى تخصص الشركات العسكرية الخاصة في قتال المشاة إلى بروز حملات دعائية معقدة وواسعة تستعرض من خلالها خبراتها التعبوية والقتالية، وأصبحت تلك الحملات وسيلة لاستعراض قدراتها التدريبية، ومادة لاستقطاب المقاتلين مستقبلا. وبالاستفادة من مداخيل ضخمة تردها من جهات مانحة أجنبية، ومن عائدات مبيعات السلاح، أصبح بوسع تلك الشركات العسكرية "الجهادية" الخاصة أن تزود نفسها بأحدث الأسلحة والمعدات القتالية، واستعراض منجزاتها، والتباهي بقدراتها، ومهاراتها، ومعداتها.
ومما يبعث على القلق أيضا في هذا السياق أنه عندما ينتهي النزاع السوري، أو عندما تقرر تلك الجماعات أن توسع نطاق عملياتها، ستتحول خبرتها ومعداتها المتقدمة إلى مصدر تهديد لبلدانها الأم مثل روسيا، والصين، ودول وسط آسيا. ولدى شركات مثل "أويغور يورتوغ تاكتيكال" طموحات عسكرية وسياسية أوسع نطاقا تشمل تحرير شعب الأويغور في تركستان الشرقية (مقاطعة شين جيانغ الصينية)، وإنهاء الإبادة الجماعية التي ينفذها الحزب الشيوعي الصيني حاليا هناك، وإنشاء الدولة الإسلامية فيها.
شقٌ تعليمي، وآخر دعائي للمقاتلين المتطرفين
ويتضح مدى قوة تلك الجماعات والشركات من خلال العدد الكبير لمقاطع الفيديو التي تروج لقدراتها في التدريب والتجنيد. وكانت أحدث تلك الشركات تأسيسا، وهما شركتا "مهاجر" و"يورتوغ تاكتيكال" بين أكثر الشركات غزارة في إنتاج ونشر مقاطع الفيديو التي تُقدم على أنها دليل للتدريب على القتال في الميدان، ودعاية للفكر المتطرف أيضا. وتحرص الشركة الأوزبكية "مهاجر تاكتيكال" تحديدا على نشر سلسلة من الأفلام المصورة باحترافية، ومقاطع الفيديو المحررة والمعدلة بعناية والتي تقدم طائفة متنوعة من النصائح والاستشارات القتالية الفعلية. وتشمل تلك المقاطع تدريبات على استخدام الرشاشات الثقيلة (دوشكا)، وأساليب رمي الرصاص بدقة (القنص) باستخدام البنادق المضادة للعتاد من عيار 0.50 ملم، واستخدام البنادق المزودة بمنظار ليلي، وإجراءات استخدام مختلف أشكال القنابل اليدوية المتشظية (الرمانات) في عمليات القتال داخل المباني، بل وحتى تشمل إرشادات حول كيفية إطلاق القذائف الصاروخية (آر بي جي). وإلى جانب ذلك كله، يقدم المدرب المعروف باسمه الحركي "أيوب هوك" تدريبا على الإسعافات الأولية في الميدان، ويستعرض الإجراء السليم المتبع في تضميد جروح الإصابة بعيار ناري، والحفاظ على التفوق (الغطاء) الناري أثناء إخلاء الجرحى.
وبالرغم من أن تلك المقاطع تندرج ضمن الوسائل التدريبية المساندة، فلا يفوت المشاهد الغرض الدعائي الجلي منها. وبتسريحة شعر مميزة على غرار لُبدة الأسد، يقدم أيوب هوك نفسه أمام الكاميرا على أنه معلم ذو شخصية آسرة (له كاريزما) وتعلو الابتسامة وجهه معظم الأحيان في المقاطع والصور التي يظهر فيها، ويتحدث بإيقاع أو نبرة صوت تحاكي تلك التي يتحدث بها المؤثرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي وليس بنبرة صوت عناصر المرتزقة ممن يقدمون تدريبا على استخدام الأسلحة الثقيلة.
ويظهر أن أسلوب شركة "مهاجر" في تحرير مقاطعها ومنتجتها موجه نحو استقطاب الجمهور من الشباب. وبالرغم من أن مقاطع الشركة المصورة تشمل علامتها الفارقة من خلال مزجها مع الأناشيد الدينية التي يشيع استخدامها في جميع المقاطع الدعائية السلفية/ الإسلامية المتشددة تقريبا، فإن مقاطع شركة "مهاجر" تشمل تصاميم غرافيكية معقدة ثلاثية الأبعاد، ولقطات تاريخية مصورة، و"مجموعة صور ومقاطع متداولة شعبيا" (Memes). ويتقمص هوك عبر منصة انستغرام دور "المؤثر"، ويتعمد المبالغة في أدائه، وينشر صورا له حاملا بندقيته يغلب عليها الطابع الفني المنمق، وينظم فقرة أسئلة وأجوبة عبر البث المباشر مع المتابعين، وينشر مقاطع لطهو الطعام، وتصاميم فنية من إعداد مشاهدي قناة الشركة. ولعل هذا الأسلوب في الاستقطاب والتجنيد يكون من موروث ممارسات سلفتها شركة "ملحمة تاكتيكال" التي حرصت على تقديم فريقها "الممتع والودود" في إعلاناتها على منصات التواصل الاجتماعي.
وعلى نحو مشابه، دأبت شركة "أويغور تاكتيكال" على نشر مقاطع فيديو عبر الإنترنت كي تبرهن على قدراتها القتالية بالرغم من أنها تستهدف جمهورا محدودا. وتشمل تلك القدرات تمارينَ عملية على سرعة إطلاق النار، وهي من التدريبات العسكرية التعبوية التي يتمرن عليها عناصر القوات الخاصة، والمتنافسون في مسابقات رياضة الرماية. ولها أيضا حضور على منصة إنستغرام، وتنشر مقاطع فيديو تدريبية ورسوما بيانية مصورة حول ثقافة شعب الأويغور وتاريخه.
ومما يثير الانتباه أن معظم المنتجات الدعائية للشركات العسكرية الخاصة تُنشر بلغات المقاتلين الأم، سواء أكانت الأوزبكية، أو الأويغورية، أو الروسية، أو الشيشانية الإنغوشية، أو الألبانية، ولكن ليس بالعربية أو الإنجليزية. ويعكس هذا الأمر جهدا مقصودا لتجنيد عناصر من أقاليم ذات أغلبية مسلمة مثل جمهوريات الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا سابقا، وهو ما يشكل اتجاها عاما مقلقا للغاية لا سيما وأن غالبية المقاتلين الأجانب لا يزالون يَفِدون للقتال في سوريا قادمين من مناطق مثل آسيا الوسطى. وتؤكد التعليقات والردود على مقاطع الفيديو التي تنشرها شركة "أويغور تاكتيكال" تلك الشواغل المقلقة لا سيما عند الاطلاع على فحواها كما حصل في الرد التالي باللغة الأوزبكية:
“مرحبا! أنتم تساعدون الأمة كثيرا... كيف يمكنني أن أتواصل معكم؟"
"كان درسا نافعا جدا عن قذائف آر بي جي. تحدثوا في المقطع التالي عن نصب الكمائن واستخدام الألغام في المعارك".
وإن الانتشار الواسع للمواد الدعائية للشركات العسكرية الخاصة بتعزيز تجنيد الأشخاص للقتال في سوريا، يتمثل تأثيره برسم صورة براقة لحياة المقاتل الأجنبي فيها، ومن خلال تقديم إرشادات عملية للمشاهد حيثما كان بخصوص استخدام الأسلحة الثقيلة.
العتاد والتجهيزات جيدة أكثر من اللازم
تتوفر لدى الشركات العسكرية الخاصة من قبيل شركات مهاجر، ويورتوغ، وألبانيا تاكتيكال قنوات مريبة ومتنوعة وكثيرة للحصول على الإيراد والدخل. وتحرص تلك الشركات في مقاطعها دوما على استعراض عتادها ومعداتها وتجهيزاتها الباهظة الثمن والغريبة الشكل. وتشمل المقاطع تدريبات على استخدام مناظير الرؤية الليلية، وأجهزة الليزر المزودة بالأشعة تحت الحمراء الباهظة الثمن، والتي يبلغ ثمن القطعة الواحدة منها ما يقرب من ألفي دولار أمريكي. كما أن البنادق والأسلحة التي يتم استعراضها والتباهي بها في المقاطع والصور تُزود بإضافات (إكسسوارات) مكلفة كالمناظير الخاصة وكواتم الصوت أو مُخمدات الوميض. كما أن البنادق التي يتم التباهي بها في المقاطع هي بنادق نادرة وباهظة الثمن مثل بندقية رشاش الكلاشنيكوف (AK-103/104s)، وبنادق (AM50) المضادة للعتاد، ورشاشات (PKM)، وبنادق معدلة من طراز ( AR-15s, FN FALs)، والبنادق الهجومية (AK) المعدلة محليا، وقاذفات القنابل اليدوية المتعددة (RBG-6).
وبالإضافة إلى ذلك، غالبا ما يظهر عناصر الشركات العسكرية الخاصة حاملين مسدسات باهظة الثمن كباقي أثمان أسلحتهم الرئيسية، متباهين بتصوير أنفسهم على أنهم من "النخبة"، وذلك عند مخاطبة الزبائن المحتملين في سوريا، والمجندين المستهدفين في الخارج. وبالرغم من القدرات المالية لتلك الشركات، فهي تحبذ عموما الاستثمار في عتاد وسلاح قتال المشاة والأفراد عوضا عن التركيز على القذائف الموجهة المضادة للدبابات، والمدفعية الثقيلة، والمسيرات، وهو ما يعكس على الأرجح واقعين تواجههما الشركات على أرض الميدان وخصوصا في إدلب التي يتركز معظم النشاط القتالي فيها حاليا: أولا، يحول ارتفاع سعر الأسلحة الثقيلة في السوق السوداء دون وصولها إلى أيدي الشركات العسكرية الخاصة. وثانيا، تسد هذه الشركات احتياجات معينة في النزاع الدائر على صعيد مساندة الجماعات القادرة على ثمن السلاح الثقيل مثل هيئة التحرير الشام في مجال تعزيز قدرات مشاتها القتالية تعظيما لفرص نجاحها في تنفيذ عمليات التسلل في عمق الأراضي الخاضعة لسيطرة الجيش العربي السوري. كما يعزز استعراض عتاد ومعدات وتجهيزات باهظة الثمن من الأثر الدعائي للشركات العسكرية الخاصة، وهو ما يمنحهم مظهر قوات النخبة الخاصة التابعة للدول المعترف بها رسميا، بدلا من أن تظهر بمظهر الميليشيات الجهادية المسلحة التقليدية.
خلاصة واستنتاج:
إن بروز شركات عسكرية خاصة في شمال غرب سوريا تتسم باستقلالها، وتسليحها الجيد، وميولها الجهادية يمثل تحولا رئيسيا في النزاع. وبالرغم من أن مجموعات المرتزقة مثل مجموعة فاغنر كانت موجودة على الأرض منذ المراحل المبكرة للنزاع السوري، فإن هذا الأسلوب الجديد للشركات العسكرية الخاصة يجمع بين الأفكار السلفية الجهادية، والكفاءة القتالية والتعبوية الميدانية المتقدمة، والحملات الدعائية المعدة إعدادا جيدا. ومن غير المرجح أن يظل ظهور هذه الشركات العسكرية "الجهادية" الخاصة محصورا داخل سوريا، أو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدها. وتُعد الهجمات التي نفذها عناصر طاجيك ينتمون لتنظيم الدولة-إقليم خراسان في كل من إيران وروسيا مؤخرا بمنزلة مؤشرات إضافية تدل على تنامي حجم الحركة الجهادية انطلاقا من مناطق وسط آسيا. ومع وصول النزاع في سوريا إلى طريق مسدود، ستعمد الشركات العسكرية "الجهادية" الخاصة إلى التوسع والانتشار باتجاه مناطق النزاع في أفغانستان، وليبيا، والسودان، أو بلدان منشأ عناصرها حاملين معهم أسلحة وخبرات قتالية إلى مناطق القوقاز ووسط آسيا.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.