منسيّون في سياق العدالة الانتقالية: السوريون ذوو الإعاقة
يعاني أكثر من 30 بالمئة من سكان سوريا من الإعاقة، وهي نسبة تتجاوز بكثير المتوسط العالمي لحالات الإعاقة من مجموع السكان، والبالغ 15 بالمئة. وتُعزى حالات الإعاقة البدنية والذهنية بين السوريين بشكل رئيسي إلى العنف المرتبط بالنزاع، بما في ذلك الإعاقة الناجمة عن الإصابات جراء القصف المدفعي والجوي، واستخدام الأسلحة الكيميائية، والألغام المضادة للأفراد، وعدم إمكانية الوصول إلى مرافق طبية مناسبة. وبينما تستعر نار النزاع في سوريا، فمن المتوقع أن يزداد عدد ذوي الإعاقة بين السوريين، ومع ذلك فلقد تم تجاهل أفراد هذه الفئة عموماً في سياق الجهود المتعلقة بالعدالة الانتقالية.
ويشمل العمل المتعلق بالعدالة الانتقالية في سوريا جهوداً تهدف إلى التصدي للنزاع، وتوثيق الانتهاكات، وتحقيق المساءلة والمصالحة. وكي تتم مساندة تلك الجهود فمن المهم توثيق إفادات السوريين ذوي الإعاقة ومعرفة آرائهم، فضلاً عن شمولهم في برامج مجتمعية، وذلك لوجوب أن تأخذ المساءلة والمصالحة الحقّة في الحسبان تداخل احتياجات واعتبارات الفئات والشرائح والمتضررة من النزاع. ولا سبيل إلى محاسبة الجُناة فعلياً، أو ضمان التنفيذ العملي لمقتضيات جهود العدالة الانتقالية إلا بتوسيع نطاق شمول جميع الشرائح المجتمعية في تلك الجهود.
ويواجه السوريون من ذوي الإعاقة عقبات بدنية ومجتمعية فريدة من نوعها. وأورد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أنه من المرجّح أن يكون لدى أرباب الأسر السورية المتعايشين مع الإعاقة بواعث قلق بخصوص سلامتهم وأمنهم ترتبط بمخاطر تعرّضهم للاستغلال والإساءة. كما إن الأطفال ذوي الإعاقة يظلون عرضة للخطر والهشاشة بشكل خاص، حيث شهدت سوريا منذ اندلاع النزاع زيادة حالات إقدام الأسر على "تقييد" أطفالها من ذوي الإعاقة بالسلاسل داخل إحدى غرف المنزل، ليكون ذلك مثالاً آخر على الإقصاء الاجتماعي المُمارَس ضد أولئك الأطفال وتفاقم آثاره بفعل النزاع. وعلاوة على ذلك، يظل الأطفال ذوو الإعاقة في سوريا عرضة للمزيد من الإقصاء والتهميش على صعيد الاستفادة من الفرص التعليمية، وهو ما من شأنه يؤثر سلباً على المجتمع السوري في الوقت الراهن ومستقبلاً عقب انتهاء النزاع. ولخّص مدير عام اللجنة الدولية للصليب الأحمر الوضع قائلاً إن "المجتمع غالباً ما يعتبر ذوي الإعاقة أشخاصاً غير مرئيين، ويزداد تجاهل وجودهم سوءاً في سياق النزاعات المسلحة".
وفي سوريا، وكما هي الحال في الكثير من مناطق الصراع، يتعرض ذوو الإعاقة للإساءة، والإقصاء، وتجاهل وجودهم. وينسحب هذا الأمر على جهود العدالة الانتقالية التي غالباً ما تكون قاصرة عن الإحاطة بالتحدّيات الخاصة التي تعترض سبيل ذوي الإعاقة، والأخذ بوجهات نظرهم. وينبغي لعملية العدالة الانتقالية في سوريا أن تركّز في المدى المنظور على تعزيز جهود شمول هذه الفئة وعدم إقصائها عن طريق (1) توثيق أصوات المغيّبين عن المجتمع جراء الإعاقة، (2) وزيادة الخدمات والفرص المتاحة من خلال الجهود المبذولة في سياق العدالة الانتقالية.
التوثيق الذي يركّز على تعظيم أصوات السوريين من ذوي الإعاقة
ومن المرجّح أن ترتفع معدلات تعرض النساء من ذوات الإعاقة لخطر الفقر والعنف فضلاً عن الإقصاء الاجتماعي أكثر من غيرهن، وبعبارة أخرى، تُعتبر ذوات الإعاقة أكثر عرضة للتهميش في سياق عملية العدالة الانتقالية. كما تتعرض الكثيرات من ذوات الإعاقة للنبذ والتهميش من مجتمعاتهن، فضلاً عن ارتفاع احتمالات تعرضهن للعنف البدني والجنسي. وتُعتبر تلك العزلة والإقصاء الاجتماعي من أسباب نقص توثيق إفادات ذوي الإعاقة، وإفادات النساء تحديداً.
وتشبه أوضاع الأطفال ذوي الإعاقة في سوريا أوضاع ذوات الإعاقة إلى حد بعيد. وتُظهر الدراسات أن عائلاتهم غالباً ما تعتبرهم مجرد عبء إضافي عليها، الأمر الذي يحملها على اللجوء إلى ممارسة "تقييدهم" بالسلاسل، وإبقائهم خلف أبواب المنازل المغلقة، والحد بالتالي من تفاعلهم مع محيطهم مجتمعياً، والاستفادة من فرص الحصول على التعليم.
تُعد العزلة المفروضة على ذوي الإعاقة في سوريا وفصلهم عن المجتمع أحد الأسباب الرئيسية المسؤولة عن غياب إفاداتهم ووجهات نظرهم في سياق العمل التوثيقي الجاري، ولا سيما فيما يتعلق بإفادات ومنظور النساء والأطفال من ذوي الإعاقة. ولا بد بالتالي من القيام بخطوات ملموسة من شأنها أن تسمع أصواتهم، وتحيط بوجهات نظرهم، وتوثق إفاداتهم، وتستشفّ آراءهم من أجل إثراء عمليات العدالة الانتقالية وإجراءاتها. وبالإمكان تحقيق ذلك عن طريق توفير تدريب على التوثيق المتخصص بالتعامل مع هذه الفئة من المجتمع، والاستعانة بمستشارين وخبراء من ذوي الخبرة في التواصل مع السوريين من ذوي الإعاقة والوصول إليهم. ومن المعتاد أن يخضع القائمون على عمليات التوثيق لتدريب قبيل البدء بجمع الإفادات من النساء ضحايا العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي، والأطفال من ضحايا التجنيد القسري. وعلى نحو مماثل، فينبغي للقائمين على التوثيق الخضوع لتدريب حول أفضل الممارسات المتّبعة في إجراء مقابلات مع ذوي الإعاقة.
زيادة نطاق الولوج إلى جهود العدالة الانتقالية
وينبغي الذهاب إلى ما هو أبعد من اعتبار ذوي الإعاقة مجرد موضوع للتوثيق أو الدراسة، والمبادرة إلى إشراكهم بشكل نشط في عملية العدالة الانتقالية. كما ينبغي أن يكون لهم دور فعال وأن يُمنحوا الفرصة للانخراط في جهود العدالة الانتقالية على قدم المساواة مع باقي أفراد الفئات المهمّشة المعرضة للتمييز ضدها، وبوسع ذوي الإعاقة أن يقدّموا طرحاً قيّماً حول كيفية التغلب على العقبات التي تعترض سبيلهم في مجتمعاتهم المحلية. واتضح أن سبل شمول ذوي الإعاقة تكون أكثر فعالية إذا ركزت على تنفيذ برامج قائمة على المجتمع المحلي ومشاركته لما لها من أفضلية في إزالة العقبات المرتبطة بالتواصل مؤسسياً وميدانياً (من قبيل مصاعب التنقل والسفر وتكاليفهما).
وبوسع الجهات الفاعلة المعنية بالعدالة الانتقالية في سوريا أن تتعلم من سابق تجارب البلدان في سياق التسهيلات الممنوحة لذوي الإعاقة وتكييف البيئة المحيطة لتيسير وصولهم بما في ذلك تجارب البلدان التي مرت بنزاعات في إفريقيا جنوب الصحراء. ونظمت جماعات ومنظمات العدالة الانتقالية في جمهورية أفريقيا الوسطى ورش عمل في 2021 لمواطني البلد من ذوي الإعاقة البصرية ممن تم إغفال تثقيفهم بخصوص قانون تأسيس هيئة الحقيقة، والعدالة، والتعويض، والمصالحة. كما نفذت سيراليون مبادرات مشابهة من خلال برنامج للتواصل الميداني تم بموجبه نشر كتيبات بلغة "بريل" للمكفوفين حول القانون الإنساني الدولي، وتوزيع نسخ من دستور البلاد على المدارس للطلبة المكفوفين في مختلف أنحاء سيراليون.
وعلاوة على ذلك، ثمة دروس يمكن الاستفادة منها في سياق جهود إعادة إدماج المقاتلين السابقين من ذوي الإعاقة في رواندا وإدماج عائلاتهم عن طريق أنشطة تهدف تحديداً إلى إعادة إعمار منازلهم، وتوفير خدمات الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية لهم. وثمة برامج في بوروندي وراوندا تهدف إلى إعادة إدماج المقاتلين السابقين من خلال التركيز على توفير الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية لهم، وبناء المساكن، وتنظيم فعاليات وأنشطة اقتصادية واجتماعية انتقالية من أجل إعادة إدماجهم في المجتمع. وشملت تلك البرامج في رواندا جهوداً لبناء القدرات اللازمة للعثور على وظيفة، وفتح ورش عمل إنتاجية، والتدريب على المهارات اللازمة لأغراض التوظيف مستقبلاً. وعقب انتهاء البرنامج، تمكّن 76 بالمئة من المستفيدين من فتح مشاريع مُدرّة للدخل في غضون أشهر من تلقّي التدريب.
وبالإمكان تعديل تلك البرامج المعنيّة بالتواصل الميداني من قبيل تسهيل وصول ذوي الإعاقة البصرية، وإعادة إدماج المقاتلين السابقين من ذوي الإعاقة، وتكييفها بما يناسب ذوي الإعاقة في مراحل العدالة الانتقالية في السياق السوري. وعلى سبيل المثال، ينبغي أن يتم تعديل البرامج التعليمية والمعلوماتية الحالية بما يناسب احتياجات ذوي الإعاقة في المجتمعات المحلية وخصوصاً فيما يتعلق بزيادة تسهيلات الوصول إلى الخدمات والحصول عليها. وثانياً، ينبغي لبرامج التواصل المجتمعي أن تشمل خدمات الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية، وإعادة الإدماج الاقتصادي والاجتماعي بما يتيح تمكين ذوي الإعاقة من السوريين عن طريق تعزيز استقلاليتهم واعتمادهم على الذات في السعي وراء الفرص الاقتصادية والتعليمية على قدر المساواة مع غيرهم.
خلاصة واستنتاج
ثمة أهمية محورية لدور ذوي الإعاقة في جهود العدالة الانتقالية. كما إن زيادة نطاق شمولهم تقتضي إدراك العدالة الانتقالية للقضايا التي تواجههم، فضلاً عن ضرورة تمكينهم كي يكونوا قادرين على أن يسهموا في تنفيذ عمليات العدالة الانتقالية وخطواتها. كما ينبغي لجهود العدالة الانتقالية في سوريا أن تحرص على شمول عمل التوثيق للأصوات "المخفية" المُغيّبة بسبب الإعاقة، مع توسيع نطاق شمول جهود العدالة الانتقالية، وتعزيز كفاءتها، ولا سيما على مستوى المجتمع المحلي.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.