1 min read
محاكمة لافارج – الجزء الثاني: محاكمة ذوي الياقات البيضاء بتهم متعلقة بالإرهاب

محاكمة لافارج – الجزء الثاني: محاكمة ذوي الياقات البيضاء بتهم متعلقة بالإرهاب

تعكف الأستاذة الجامعية شارون ويل بالشراكة مع شبكة "جاستيس إنفو" على تغطية تفاصيل الجلسات اليومية لمحاكمة شركة لافارج، مع أحد عشر من طلبتها في معهد الدراسات السياسية في باريس لإعداد تحليل "إثنوغرافي" لمجريات سير المحاكمة وجلساتها

نُشر المقال الأصلي في موقع جاستس إنفو

24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025

Title: Lafarge trial in Paris for crimes committed in Syria. Illustration: acrylic painting (watercolor) of the packed courtroom, viewed from the back. Inscriptions (in french) on the back of the benches: “defense lawyers, civil parties, press, public.”
"من داخل قاعة المحكمة" رسم توضيحي على الورق بقلم الرصاص والألوان الشمعية (الحقوق محفوظة لماريا آراوس- فلوريز)

 مقال أُعد لصالح "جاستيس إنفو" بقلم شارون ويل وطلبة مساق "كابستون" بمعهد الدراسات السياسية بباريس

يوميات المحاكمة في مساق مشروع "كابستون" الإثنوغرافي
معهد الدراسات السياسية بباريس (سيانس بو)

 استؤنفت مجريات الأسبوع الثاني من محاكمة شركة لافارج أمام محكمة الجنايات الصغرى في الدائرة السادسة عشرة في باريس يوم الثلاثاء الموافق 18 تشرين الثاني/ نوفمبر بعد رفعها مؤقتا لتصويب بعض الأخطاء الواردة في لائحة الاتهام والتي تتعلق بعدد من الاعتبارات الأولية.  وها هي الردهة أمام قاعة المحكمة وقد بدت خاوية من المراسلين الذين كانت تغص بهم حينما افتُتحت المحاكمة.

ولم تعد هذه المرحلة الجديدة من المحاكمة مقصورة على الأمور الإجرائية كما كانت عليه في السابق.  وسيتسنى لنا اليوم سماع أصوات المتهمين لأول مرة، والتي اتضح أنها أصوات تتأرجح بين نبرتين مختلفتين.  فمن جانب كان بالإمكان ملاحظة وِقفة المسؤولين التنفيذيين في الشركات ونبرة كلامهم بطريقة تنم عن شيء من الحدّة والبعد عن الواقع المحيط؛ ومن جانب آخر، ثمة نبرة أخرى تشي بنوع من الإلحاح أنهم مجرد بشر عاديين لا أكثر، وأنهم أُناس كانوا يؤدون وظيفتهم فحسب.  وانهمكت رئيسة المحكمة القاضي إيزايبل بريفوست-ديسبريز في محاولة سبر أغوار تلك السرديات المتناقضة طوال الأسبوع، لا سيما وأن كل رواية منها كانت تدفع المحكمة باتجاه مختلف تماما عن الآخر.

وتوزع المتهمون رفقة فريق الدفاع على المقاعد المتوفرة في أرجاء قاعة المحكمة، وبرز من بينهم وجهان جديدان، هما: الأردني أحمد الجالودي، والسوري الكندي عمرو طالب اللذان تغيبا عن حضور الجلسة الأسبوع الماضي.  فما كان من رئيسة المحكمة إلا أن رحبت بهما بأسلوبها الساخر الحاد قائلة: "ها قد عثرتما على الطريق المؤدي إلى المحكمة... جيد! أرأيتما ما يصنع الإصرار والعزيمة بالإنسان".  وهكذا انطلقت أخيرا مجريات أسبوع المحاكمة الذي سيشهد اعتلاء المتهمين المنصة أمام هيئة المحكمة.

التأقلم مع مصطلحات الشركات

عقب تلاوة لائحة الاتهام، افتتحت القاضية رئيسة المحكمة الجلسة بعرض نبذة عن توسع نشاط شركة لافارج لصناعة الإسمنت، وتفاصيل السياق السوري الأوسع، وقدمت تفصيلا للاعتداءات والهجمات الإرهابية على الأراضي الفرنسية، واستعرضت أمام الحضور عقودا من نمو الشركات والتسلسل الزمني القاتم لتطور عنف الجهاديين.  وقد كانت اللحظة مثقلة بمرارة ذكرى مرور عشر سنوات على هجمات 13 نوفمبر التي نفذتها نفس الجماعات الإرهابية وزُعم أنها تلقت تمويلا من الشركة أثناء نشاطها في سوريا في الأشهر التي سبقت تلك الهجمات.    

وقليلة هي أوجه الشبه بين تداعيات أحداث المحاكمة هذا الأسبوع، والصورة النمطية المعتادة لغيرها من المحاكمات على ذمة قضايا الإرهاب.  وشهدت القاعة على غير العادة تكرار الحديث عن تفاصيل غير مألوفة مثل العوارض (وهي الجزء السفلي الذي يشكل العمود الفقري للسفن)، وكميات الفحم المسلَّمة، والرسوم البيانية الخاصة بكميات الإنتاج ومبيعاته.  وسرعان ما بدأنا ننزلق في غياهب عالم العمليات الصناعية والإنتاج، وانجرفنا شيئا فشيئا باتجاه تيار مفردات العمليات ولغتها الاصطلاحية، ليكون ذلك بمثابة تذكار قاتم لطبيعة التوتر الذي هيمن على أجواء هذه المحاكمة المتعلقة بالإرهاب، ونقطة الشد والجذب بين لغة المنطق الرياضي وحسابات الربح والخسارة المعتادة في قاموس الشركات، وارتطامها بجدار الضرر الذي قد تلحقه بالإنسان. واضطرت رئيسة المحكمة غير مرة إلى تعديل استخدام ألفاظ المصطلحات الواردة في قاموس حوكمة الشركات وإدارتها. ونوّهت مرارا وتكرارا بانفتاحها على تصويب المصطلح بما يواطئ قاموس الشركات، وذكرت الأطراف داخل القاعة بأنها قاضية وليست خبيرة اقتصادية.

وركز الموضوع الأول على مفهوم "الكيانات الاقتصادية"، وغرق النقاش في الكثير من التفاصيل التقنية أو الفنية.  ثم انتقل الحديث إلى تفكيك تفاصيل اتفاقية الشروط والأحكام المشتركة المبرمة مع بنك الاستثمار الأوروبي بخصوص اندماج لافارج مع مجموعة هولسيم.  وتحدث المتهمون بصفتهم مسؤولين تنفيذيين ومدراءَ لا أفرادا عاديين أُسندت إليهم التهم رسميا.  

"بدت سوريا واعدة في تلك الفترة"؛ بهذه الكلمات وصف الرئيس التنفيذي السابق برونو لافونت فترة عام 2012، أي بعد مرور أكثر من سنة على اندلاع الحرب الأهلية فيها، وذلك في معرض خوضه في طبيعة استثمارات الشركة من منظور الربحية والانتهازية البحت، مصرّا على "الآفاق الواعدة جدا" لتلك الاستثمارات على الرغم من الحرب الدائرة في سوريا.  وبالنسبة لنائب الرئيس التنفيذي السابق كريستيان هيرول، فلم تكن سوريا "بلدا طبيعيا" كما وصفها، وإنما شكلت فرصة مغرية للربح المقرونة بالكثير من الصعوبات، منوها بأنها كانت أكثر تعقيدا في إدارتها بالمقارنة مع الأسواق "الطبيعية" الأخرى التي اعتاد على التعامل معها.  جاءت هذا الإقرارات من طرف المتهمَيْن بالتزامن مع عرض جداول تظهر أرقاما على الشاشة الكبيرة المعلقة فوق مقاعد القضاة.

 

المبيعات

الإيرادات قبل الفوائد والضريبة والاستهلاك وإطفاء الديْن

نفقات تشغيلية أخرى

2011

134,094.000

32,760.000

0

2012

81,107.000

31,718.800

2,546.000

2013

45,615.000

15,729.000

4,117.000

2014

29,994.000

11,341.000

5,214.000

 عُرض رسم بياني على جدار قاعة المحكمة المحاذي لمكان جلوس هيئة القضاة يظهر حجم التدفقات النقدية (بملايين اليورو)، وموزعة حسب إجمالي إيراد المبيعات، والإيرادات قبل خصم الفوائد، والضريبة، والاستهلاك، وإطفاء الدين، وغيرها من النفقات التشغيلية، وهو ما يشكل مشهدا بصريا جديدا غير معتاد في مسرح قضايا الإرهاب.

موقف محيَّر للأطراف المدنية في الدعوى

تعزز الشعور بالانجراف أكثر فأكثر مع تيار قاموس مصطلحات الشركات بفعل ما قام به محامو الدفاع، إذ كانت القاعة تعج بالمختصين في قضايا جرائم الشركات، والاحتيال الضريبي، ومحامين مرموقين مختصين في الترافع عن مرتكبي جرائم الوظائف الإدارية العليا (ذوي الياقات البيضاء).  ويمثل شركة لافارج SA المحامي كريستوف إينغران المشهور في الترافع عن المتهمين في قضايا غسل الأموال، ودينيس شيملا، الرئيس المشارك لوحدة التحقيقات في جرائم الوظائف الإدارية لدى شركة "آلن وأوفري" المرموقة للمحاماة، وكذلك الحال بالنسبة للمجموعة الأخرى من أعضاء فريق الدفاع مثل المحامين جان رينهارت، وجاكلين لافونت-حايك، وماريو-بيير ستاسي الذين ينتمون لنفس مدرسة حماية "القانون التجاري" التي ينهلون منها.  وتولت محامية أخرى في فريق الدفاع تُدعى سولانج دوميك التأكيد على تلك النقطة بوضوح، وشددت على أن الوضع مشابه لما يحصل في حالات التهرب الضريبي من حيث إنه لا يترتب على جريمة تمويل الإرهاب وقوع الضرر على ضحايا بشكل مباشر، منوهة بأنه طالما لا يوجد ضحايا وقعت عليهم تبعات الفعل المرتكب، فليس هناك أساس قانوني لحضور الأطراف المدنية (المدعية بالحق المدني) كونها لا تمثل "الصالح العام" في هذه الحال.

وفي عام 2021، وقبل يوم واحد فقط من بدء "محاكمة باتاكلان" (على ذمة قضية هجمات 13 نوفمبر الإرهابية في باريس)، قضت المحكمة الفرنسية العليا بأنه لا يجوز لأحد الأطراف المدنية في القضية، وهي جمعية "الحياة من أجل باريس" التي تمثل ضحايا ذلك الهجوم الإرهابي، المشاركة بصفة طرف مدني في إجراءات التقاضي الخاصة بتمويل الإرهاب جراء عدم وجود ضحايا مباشرين لفعل تمويل الإرهاب.  ولكن ليس بالضرورة أن ينسحب ذلك حكما على عمال المصنع السوري الذين ادعوا وجود رابط مباشر بين تمويل لافارج لتلك الجماعات، والعنف الذي تعرضوا له.  وفي جميع الأحوال، ونظرا لأن قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي يجيز تقديم طلبات المشاركة في إجراءات المحاكمة من الأطراف المدنية إلى قبل انعقاد آخر جلسة من جلسات المحاكمة، قررت رئيسة المحكمة أن تسمح لجميع الأطراف المدنية في القضية بتقديم مرافعاتها، على أن يُبتّ في مدى مقبولية ذلك قطعيا مع ختام مراحل المحاكمة.  وبناء عليه، فمن المحتمل أن تستمع هيئة المحكمة لأقوال ما يربو على 200 طرف مدني (من جمعيات، ومنظمات، وأفراد من الضحايا في سوريا وفرنسا)، وسماع وجهة نظرهم حول آثار تصرفات شركة لافارج عليهم بهذا الخصوص.  ويظل توصيف موقف الأطراف المدنية أمرا محيرا نوعا ما: فهي حاضرة بالفعل، ولكنها لا تتمتع باعتراف المحكمة الكامل بها على أنها أطراف في الدعوى من الناحية القانونية.  

رسم توضيحي على الورق لمحامي الدفاع بقلم الرصاص والألوان المائية (الحقوق محفوظة لماريا آراوس فلوريز)

التنصل من المسؤولية

تنص المادة 121.2 من قانون العقوبات الفرنسي على تعريف الكيانات الاعتبارية والشخصيات الطبيعية، وتحملها المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي ترتكبها أذرعها التابعة أو ممثلوها بالنيابة عنها.  وثمة نصوص قانونية تعاقدية مشابهة في 20 بلدا على الأقل.  واستفاضت هيئة المحكمة في التركيز على مدى ترابط وتداخل سلسلة العمليات التشغيلية بين لافارج وشركتها التابعة لها في سوريا من حيث تحديد الجهة صاحبة الصلاحية في اتخاذ القرار، والتبعية الإدارية للمسؤولين والموظفين، إلى جانب بيان كيفية اتخاذ القرارات فيما بين الكيانيْن.

ووفقا لما ورد في لائحة الاتهام، كانت مجموعة لافارج SA تسيطر بالكامل على عمليات الشركة التابعة لها في مصنع الجلابية، وذلك عن طريق ملكيتها لشركتي "Sofimo"، و"LCH"، ومولت أنشطتها عن طريق تقديم القروض داخليا فيما بين شركات المجموعة.  وأثناء مرحلة التحقيق، خلصت كل من محكمة الاستئناف في باريس، ومحكمة التمييز إلى أن شركة اسمنت لافارج-سوريا كانت تفتقر إلى أي استقلالية ذاتية يمكن أخذها في الاعتبار، وأنها مندمجة بالكامل مع الشركة الأم، وهو ما برر عدم الأخذ بمبدأ الفصل بين الشركة التابعة والجهة المالكة لها (أو ما يسمى اصطلاحا باختراق حجاب الشركة أو رفعه عنها)

وطلبت رئيسة المحكمة الاستزادة في توضيح التفاصيل، ولكن قدم المتهمون وصفا مبهما ومشوشا للتراتبية الإدارية في هيكل المجموعة، ومستويات تفويض الصلاحيات لديها.  وظهر أن في جعبة كل واحد من المتهمين استراتيجية واضحة المعالم يعمل وفقا لها، حيث شدد المقربون من لافونت على أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن العمليات في سوريا، فيما أكد الضالعون في نشاط الشركة داخل سوريا طبيعة القيود المفروضة على الشركة التابعة من الشركة الأم.  وظهر الأمر وكأنه يعكس بغرابة محاولة منهجية معتادة لتمييع المسؤولية والتنصل منها عن طريق التذرع بالفصل في التبعية الإدارية بين صانعي القرار في الشركة، والمنفذين له، وهو مشهد مألوف اعتدناه أسلوبا متبعا لدى الوحدات التابعة للجماعات المسلحة التي يلقي كل منها بالمسؤولية على الآخر.  وفي مثل هذه السياقات التنظيمية، تتعرض المسؤولية للانزياح، وتقاذفها الأطراف على الدوام، بحيث يحيل المستوى الأدنى من الإدارة الأمرَ إلى الإدارة العليا في الشركة، بينما يحرص أصحاب القرار فيها على إلقاء المسؤولية على من هم دونهم إداريا بدعوى أنه من غير الممكن لهم السيطرة على كل شاردة وواردة في المجموعة.

وسرعان ما برز التناحر بشكل غير رسمي بين فئتين من المتهمين. تألفت الفئة الأولى من مسؤولي مجموعة لافارج SA، بينما ضمت الأخرى مسؤولي الشركة التابعة لها في سوريا.  وحرص أفراد كل فئة على تحصين أنفسهم من دون الاضطرار إلى تجريم الآخرين في أفراد الفئة الأخرى.  وأصبحت عبارة "لا أعرف"، أو عبارة "لعل أحدا غيري يعرف أكثر مني" لازمة لغوية تتكرر على ألسنة المتهمين، وأسلوبا معتمدا للدفاع باستثناء الحالات التي أتاحت للطرفين انتهاز الفرصة، وإلقاء المسؤولية على كاهل الغائبين عن مجريات المحاكمة من قَبيل رجل الأعمال المدعو فراس طلاس.  وبناء عليه خاطبت رئيسة المحكمة الرئيس التنفيذي السابق، لافونت، بسخرية قائلة إن "فراس طلاس ليس حاضرا في المحكمة، ولكن يمكنك الاستمرار بطبيعة الحال".

وظلت الجلسات تراوح مكانها طيلة الأسبوع، وتدور في حلقة مفرغة، وتعاود الرجوع إلى نفس المنطلق، وهو سرد تاريخ مجموعة شركات لافارج، وتلميع قيادة برونو لافونت لها، لا سيما وأنه سبق لرئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، جان بيير رافارين، وصفه بأنه "أنموذج لرجال الصناعة الفرنسية "، كما قال فريق الدفاع عن لافونت، معتبرا رئيس الوزراء الأسبق شاهدا شخصيا على حسن سير وسلوك موكلهم.

لبَّيْتُ نداء العمل الإنساني في داخلي! 

بين عامي 2009 و2012، عمل عمرو طالب لدى شركة اسمنت لافارج-سوريا بوظيفة خبير الجودة، والسلامة، والبيئة.  وقدم نفسه أمام المحكمة على أنه شخص كرس نفسه للعمل في المجال الإنساني بعد عام2013، وأبرز وثائق تثبت أنه يعمل متطوعا دون تقاضي أجر.  وسرعان ما انهمرت عيناه بالدموع داخل القاعة، وهو يصف متباكيا نجاته من الكثير من عمليات القصف، وحال الأطفال الذين حاول أن يساعدهم، ومتحدثا عن مدى عشقه لسوريا.  ولكن سرعان ما واجهته رئيسة المحكمة بالفواتير الصادرة عن شركته "Greenway" للاستشارات، وبما يثبت أنه استمر في تقاضي مدفوعات من شركة اسمنت لافارج-سوريا طوال عام 2014 أيضا.  ثم سرعان ما تداعت روايته بعد أن حوصر واُسقط في يده، فردّ قائلا: "لقد كنت تحت تأثير الصدمة".  وأضاف قائلا: "تظاهرت بأني أعرف الأشخاص، ولكن كان ذلك كله محض كذب... وكنت شخصا غبيا، يلعب لعبة خطيرة".

وفي الأثناء، قدّم المدير السابق للشركة السورية التابعة، ويُدعى فريديريك جوليبواه، عرضا هزليّا أرعنَ حرص من خلاله على الزج باسم زوجته وأطفاله مرارا وتكرارا، زاعما بأن كل قرار يتعلق بحياته المهنية كان قرارا مشتركا تتخذه أسرته.  ووصف سبب تفضيله التوجه إلى الأردن وليس جنوب إفريقيا قائلا إن "الغربة هي مغامرة عائلية قبل كل شيء"، ثم سرعان ما انجرف مع التيار واعظا، وملقيا محاضرة مختصرة عن تاريخ الأردن إلى أن قاطعته رئيسة المحكمة وأوقفته عن الكلام.  وعقب توجيه سؤال إليه بإلحاح حول مدى معرفته بالنزاع السوري والجماعات الإرهابية التي تنشط داخل سوريا، أصر على عدم معرفته بأي شيء.  وعندما سئل عما إذا كانت زوجته لديها أي علم بالأوضاع في سوريا، أصر أنها لا تعلم أيضا. فما كان من رئيسة المحكمة القاضي بريفوست-ديبريز إلا أن لمزته بكلماتها ساخرةً: "إذا نستنتج أن عقيلتك السيدة جوليبواه لا تقرأ الصحف، أليس كذلك؟"، الأمر الذي أضفى طابعا من التسلية الخفيفة على الجو العام السائد داخل القاعة.  وحاول جوليبواه في شهادته أن يرسم ملامح صورة لرجل يزعم أنه ينظر إلى العالم بأعين أفراد أسرته، حتى عندما يكون ذلك الزعم أبعد ما يكون عن الواقع والمصداقية. 

وكشف ثلاثة من المتهمين - وهم: مديرا الأمن السابقان جيكوب فيرنيس، وأحمد إبراهيم الجالودي الذي سبق له وأن عمل لدى أجهزة الاستخبارات، إضافة إلى عمرو طالب - عن وجود صلات لهم مع المجلس النرويجي للاجئين، وهو منظمة إنسانية تقدم الدعم للاجئين السوريين.  وعوّل كل واحد من الرجال الثلاثة على ارتباطه بالمجلس كي يرسم جانبا أكثر إنسانيةً وإيثارا من شخصيته.  ولكن شككت رئيسة المحكمة علنا بهذا المصادفة، مستعينةً أحيانا بروح الدعابة، وبالسخرية أحيانا أخرى.  فلماذا أصبح الكثير من المتهمين في قضية تمويل الإرهاب عاملين في المجال الإنساني فجأة، ولماذا كانوا يتقاضون أجرا من المجلس النرويجي للاجئين في الوقت نفسه؟  وأول ما يتبادر إلى الأذهان في هذه الحال هو أن التذرع بوجود دوافع إنسانية كان دفاعا شائعا لدى المقاتلين الفرنسيين الأجانب الذين توجهوا إلى سوريا بذريعة تقديم المساعدة الإنسانية. 

________________________________

للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.