محاكمة لافارج/ الجزء الخامس: ما الذي قد يكون أفضى إلى ذلك؟
بالشراكة مع شبكة "جاستيس إنفو"، تتولى أستاذة القانون الدولي بمعهد سيانس بو، شارون وييل، و11 من طلبتها إعداد تغطية أسبوعية لمجريات محاكمة شركة لافارج في العاصمة الفرنسية.
15 كانون الأول/ ديسمبر 2025
يوميات المحاكمة في سياق مشروع "كابستون" الإثنوغرافي |
تميز الأسبوع الخامس من مجريات محاكمة لافارج التي انطلقت بتاريخ 9 كانون الأول/ ديسمبر الجاري أمام محكمة جنايات الدائرة السادسة عشرة في باريس بالاستماع لإفادات ضحايا الهجمات الإرهابية التي استهدفت مناطق مختلفة من باريس إلى شمال سوريا. ووصف ضحايا هجمات 13 نوفمبر في باريس، وممثلون عن الأقلية اليزيدية، وموظفون سوريون في شركة اسمنت لافارج سابقا التبعاتِ الكارثيةَ للقرارات التي اتخذتها الشركة في أماكن بعيدة لا طائل لهم بالوصول إليها. واتسم هذا الأسبوع من الجلسات بالاستماع لشهادة مدير الأمن السابق لدى لافارج، جون كْلود فِيّاغ التي طال انتظارها بحكم تمريره معلومات كثيرة إلى مختلف أفرع الأجهزة الأمنية.
وخيّم على قاعة المحكمة في أول يومين من هذا الأسبوع مناخٌ من المشاعر المؤلمة التي استثارتها إفادات ضحايا الإرهاب بعدما أكدوا جميعا على العنف المنهجي الذي ارتكبته الجماعات الإرهابية جراء استمرار تدفق التمويل إليها. وفي جلسة يوم الثلاثاء، عادت كاميل غارديس بذاكرة الحضور إلى يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 الذي هزت فيه العاصمةَ الفرنسية موجةٌ من الهجمات الإرهابية، واستذكرت تفاصيل إطلاق النار الذي وقع ذلك اليوم، ولحظات الخوف التي سادت حينها، والصدمة النفسية التي استمرت تعصف بالضحايا لسنوات عقب تلك الهجمات. وانهمرت الدموع داخل قاعة المحكمة، وفيها دموع محامي الدفاع. وظلت الشاهدة تتساءل، وتطرح السؤال نفسه على المحكمة أيضا، مستفسرة عن السبب الذي قد يدفع جهة ما إلى تمويل الجماعات الإرهابية والتعاون معها، وتعريض حياة الآخرين للخطر.
وخيّم صمت مطبق وثقيل الوطأة على القاعة عقب صدمة الاستماع لإفادة جايْل ميساجيه، إحدى ضحايا الهجوم على مسرح باتاكلان. ووصفت المشهد القاسي للعنف الذي ساد المكان حينها قائلة إنها اضطرت طوال ساعتين كاملتين للتمثيل أنها ميتة بينما تساقط العشرات من حولها صرعى ومنهم خطيبها. وقالت إن القرارات المجردة تُرجمت إلى واقع فعلي في ذلك اليوم. وتساءلت قائلة: "هل بوسعنا أن نموّل جماعة إرهابية بشكل مباشر أم غير مباشر مع علمنا أنها جماعة تمتهن التدمير والقتل؟" وأما شهادة جورج سالين أحد أعضاء الجمعية الفرنسية لضحايا الإرهاب، ووالد أحد ضحايا الهجوم، فقد ذهبت باتجاه آخر، إذ قال إن الأشخاص الذين يعتنقون الإسلام بتأثير الأصوليين وعقائدهم المتطرفة مسؤولون عن الخيارات التي أقدموا عليها، ولكنهم يُعتبرون في الوقت نفسه ضحايا لجاذبية تنظيم داعش وآلته الدعائية. وأما بالنسبة لفيليب دوبيغون والد ضحية أخرى من ضحايا هجوم باتاكلان ورئيس جمعية "13 أونز 15- أخوة وحقيقة" (رابطة أهالي ضحايا هجمات 13 نوفمبر 2015/ باريس)، فالواقع واضح بشكل لا لبس فيه حيث قال: قررت إحدى الشركات الفرنسية بكامل وعيها أن تضحي بجميع الاعتبارات الأخلاقية والمهنية لا لشيء سوى من أجل تحقيق الربح.
من باريس إلى الجلابية
على الرغم من صدور قرار المحكمة العليا في فرنسا بعدم جواز اعتبار "جمعية ضحايا الجمعة 13" (كون الهجمات وقعت يوم الجمعة 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015) "ضحايا مباشرين" وقع عليهم أثر جرم تمويل الإرهاب، وأنه لا يجوز بالتالي منحها صفة طرف مدني في القضية، قررت رئيسة المحكمة السماح لبعض الأشخاص وجمعيات الضحايا الإدلاء بإفاداتهم، شريطة أن تبتّ في الصفة القانونية نهائيا لما مجموعه 198 طرفا مدنيا عندما يحين موعد اختتام المحاكمة. وأتاح قرار رئيسة المحكمة إمكانية أن تصبح إفادات أعضاء الجمعية بمثابة حلقة الوصل بين القرارات المجردة التي تتخذها الشركات، وبيان تبعاتها الملموسة داخل فرنسا.
ولم تقتصر إفادات الأطراف المدنية على السياق الفرنسي وحده؛ ففي يوم الثلاثاء، استمعت المحكمة لإفادة ممثلة عن منظمة "يزدا" غير الحكومية المعنية بتوثيق ومعالجة تبعات الجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش بحق الإيزيديات، وبينت كيف أدى التمويل الذي حصل عليه التنظيم من تمكينه من شن حملة إبادة جماعية بحق أفراد المجتمع اليزيدي. وثمة ما يربو على 400 يزيدي-أمريكي من الناجين من هجمات داعش قاموا بتحريك دعوى في الولايات المتحدة ضد شركة لافارج في عام 2013 لتعويض الضحايا ماليا. ولم يتمكن هؤلاء الضحايا من تحريك الدعوى ضد لافارج إلا بعد إقرارها بالتهمة المنسوبة إليها أعقاب ابرامها اتفاقا تفاوضيا لتحفيف العقوبة في الولايات المتحدة عام 2022.
وفي عصر يوم الأربعاء، انتقل محط تركيز الجلسات إلى مصنع الجلابية عقب الاستماع لشهادة أربعة موظفين سوريين سابقين لدى شركة اسمنت لافارج - سوريا. وسرد الشهود الأربعة تفاصيل مشتركة بيّنت كيف تسببت لافارج بتفاقم سوء أوضاعهم المحلية الهشة أصلا. وبرغم تعرض بعض موظفي الشركة للاختطاف، واضطرار بعضهم الآخر للإقامة داخل المصنع، رفضت لافارج تعليق عملياتها، ومارست ضغوطا على الموظفين كي يستمروا في العمل.
شبح جون كْلود فِيّاغ
تردد منذ اليوم الأول من جلسات المحاكمة اسم واحد على ألسن كل طرف من أطراف القضية تقريبا، ألا وهو اسم "جون كْلود فِيّاغ" الذي عمل مديرا لأمن لافارج بين عامي 2008، و2018. ولطالما ظل طيف فِيّاغ هو الحاضر الغائب في جلسات المحاكمة حتى مطلع الأسبوع الحالي، لا سيما وأنه قد سبق له العمل في صفوف القوات الفرنسية الخاصة، وخاض تجربة انتخابية فاشلة مع حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد في انتخابات 2014 المحلية. وفي عام 2017، أُدين فِيّاغ بتهم التواطؤ في عملية تمويل لافارج للجماعات الإرهابية في سوريا، ولكن سرعان ما أصبح فِيّاغ المتهم الوحيد الذي أسقط قضاة التحقيق جميع التهم المسندة إليه. وحرص مدعي عام مكافحة الإرهاب على الإشارة أثناء الجلسة إلى أنه عازم على الطعن في قرار قضاة التحقيق، قبل أن يتراجع عن عزمه في نهاية المطاف تفاديا لإطالة مجريات سير المحاكمة أكثر مما ينبغي.
وعند حوالي الساعة الثالثة والنصف من عصر يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر، اعتلى الشاهد الذي طال ترقب حضوره منصة الشهود في القاعة التي غصّت بالحاضرين المترقبين لسماع أقواله. ودخل فِيّاغ القاعة، وإذ به رجل أشيب الرأس في السبعينات من عمره، يرتدي ملابس سوداء اللون، وأدلى بشهادته التي استمرت نحو أربع ساعات.
تحدث فِيّاغ عن "النقص الحاصل في عدد أعضاء فريقه المكون من عنصرين فقط" وتكليفه بمهام تأمين مواقع موزعة على أكثر من 70 بلدا، وتأمين الموظفين الأجانب في الشركة أيضا. وحينما سئل عما إذا كان النقص في عناصر الفريق مناسبا لما تدعيه الشركة من التزام بتأمين المنشآت والموظفين، أجاب قائلا إنه "لم يَرِد من طرف لافارج ما يفيد يوما بأن الأمن يشكّل أولوية لدى المجموعة"، وذلك على النقيض من المزاعم التي تكررت بهذا الخصوص على لسان الرئيس التنفيذي السابق للشركة، برونو لافونت، وبرونو بيشو المدير السابق للشركة التابعة في سوريا. وفيما يتعلق بالوضع الأمني على الأرض، قال فِيّاغ: "لم أشعر يوما بوجود أي بوادر لتحسن الأوضاع في سوريا. ولو كان القرار عائدا لي وحدي، لكانت شركة لافارج قد غادرت البلد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011". وحين سؤاله عن السبب وراء عدم أخذ الشركة بنصيحته الأمنية، قال فِيّاغ: "أرى أنه كان خيارا ماليا بحتا، لا سيما وأن تكلفة المصنع الجديد كليا لا تسمح بإغلاقه أبدا".
ثم أمطر ممثل مكتب مدعي عام مكافحة الإرهاب الشاهدَ فِيّاغ بوابل من الأسئلة لا سيما بخصوص تفاصيل تقاريره المرفوعة إلى اللجنة الأمنية التي تكرر مرورها على ذكر جماعات إرهابية في سوريا، والإشارة إلى تمويلها.
ولكنه حرص باستمرار على إنكار علمه بضلوع المجموعة في تمويل الجماعات حتى صيف عام 2014، وهو ادعاء مفاجئ نوعا ما لا سيما في ظل عدم رفع السرية بعد عن المراسلات المتبادلة عبر البريد الإلكتروني خلال تلك الفترة، وطبيعة دوره داخل لافارج، وحقيقة تواصله مع الأجهزة الأمنية (والتي كانت "بمبادرة شخصية منه" كما أفاد).
وقبل ذلك بوقت قليل في اليوم نفسه، كشف كريستوف غومارت، عضو البرلمان الأوروبي، والرئيس السابق للمخابرات العسكرية الفرنسية، أن فِيّاغ قد اجتمع مع أجهزة الاستخبارات في 21 مناسبة بين عامي 2012، و2015، وانه أعد تقاريره بشأن الوضع الأمني في سوريا بناء على المعلومات التي وردت إليه من شركة لافارج. وأوضح غومارت أنه وضع ثقته الكاملة في فِيّاغ ومصادره الاستخبارية، مضيفا أن "لافارج قد زودت أجهزة مكافحة الإرهاب بمعلومات قيمة من منظور معين". وهذا هو ما منح محامية الدفاع سولانج دوميك فرصة للتلميح ضمنا بأن شركة لافارج قد ساهمت فعليا في جهود مكافحة الإرهاب، وهو زعمٌ بعيد كل البعد عن الواقع لا سيما في ظل التهم المسندة إلى الشركة أصلا.
شخصيات طيبة
وانتهت جلسات الأسبوع بإجراء تقييم لشخصيات المتهمين من خلال التركيز أيضا على الحياة الشخصية لكل واحد منهم، وتحصيله العلمي، وخلفيته المهنية. واستعان الدفاع بشهود لبيان طيبة شخصيات المتهمين، إذ وصف أحد أصدقاء الطفولة برونو بيشو على أنه شخص "يملك مسحة إنسانية عظيمة"، "وأنه ليس من نوعية الناس الذين يمكنهم أن يقبلوا بتعريض أي شخص في مؤسسته للخطر". وسرد زميل سابق آخر سمات رئيسية في شخصية بيشو واصفا إياه "بأنه شخصية إنسانية جدا"، وأنه منفتح على الثقافات المختلفة، وحريص على الاهتمام بموظفيه والتقيد بأعلى معايير السلامة، ومادحا ولاءه للشركة، ومشيدا بنزاهته.
وعند فحص ما بحوزة المتهمين من أصول وممتلكات، كان الأمر يبعث على الدهشة التي وصلت إلى حد الريبة أيضا، لا سيما وأن المتهمين تحدثوا عن تواضع ممتلكاتهم من قبيل "استوديو" أو شقة صغيرة لا تتجاوز قيمتها 300 ألف يورو في مقابل وجود أصول لا يستهان بقيمتها بحوزة زوجاتهم اللواتي يملكن عقارات بشكل منفصل عن أزواجهن بموجب ترتيبات قانونية.
وحرص المتهمون واحدا تلو الآخر على التأكيد على براءتهم، راسمين لأنفسهم صورة الضحية أحيانا. وقال برونو بيشو: "لقد طُردت من عملي وتخلصوا مني كما يتخلصون من القذارة، لقد كان ظلما عظيما"، بينما أعرب جيكوب فيرنيس مدير الأمن السابق في مصنع الجلابية عن شعوره بالأسى لكونه "اضطُر للقبول بالعمل في وظائف غريبة كي يعيش". وبالمحصلة، سوف تشهد نهاية الأسبوع الحالي البتَّ بمدى مسؤولية المتهمين الثمانية وشركتهم السابقة بصفتها المعنوية عن التهم المنسوبة إليهم، وذلك في سياق المجريات الختامية لهذه المحاكمة التي تشكل علامة فارقة في تاريخ المحاكمات.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.