
محكمة فرنسية تصدر حُكما مفاده: تبدأ العدالة حيث تنتهي السيادة – حتى بالنسبة للأسد
انظر مقالنا حول جلسة محكمة النقض بتاريخ 4 تموز/يوليو 2025
خلال فترة تولي بشار الأسد السلطةَ في دمشق، افتقرت المحاكمُ الفرنسية إلى الولاية القضائية لإصدار مذكرة توقيف ضده على خلفية الهجمات الكيميائية عام 2013 في الغوطة الشرقية. وبموجب القرار الصادر في 25 تموز/يوليو 2025، أبقت محكمةُ النقض (أعلى هيئة قضائية في فرنسا) حصانةَ رؤساء الدول الحاليين بمنأى عن الملاحقة القضائية من قِبَل أي محكمة وطنية أخرى، حتى في القضايا التي تتضمّن جرائمَ دولية. وقد تناولت المحكمة منهجيّا – ورفضت – جميع الحجج التي قدّمها المدعي العام والأطرافُ المدنية قبل أسبوعين لتبرير مقاضاة رؤساء الدول.
كانت الحجة الرئيسية للأطراف المدنية هي أنه لا يمكن أن تُعَدّ الجرائمُ الدوليةُ جزءًا من المهام الرسمية لرئيس الدولة، وبالتالي، لا يمكن أن تشملها الحصانةُ الشخصية (المعروفة أيضًا باسم حصانة رؤساء الدول). ردّت المحكمة بأن الحصانة تفترض مسبقًا إمكانية ارتكاب مسؤولي الدولة أفعالا غير قانونية، ولا يُتوقع أن تنتهي بمجرد ارتكاب الجرائم. وفي سياق استدلال مُتَلَوٍّ ومُعقّد، رفضت المحكمة استثناء أي نوع من الجرائم من نطاق هذه الحصانة، مُجادلةً بأن ارتكاب الجرائم الدولية يتطلب بطبيعته ممارسة أعلى سلطة في الدولة.
ومن الحُجج الأخرى التي ساقها المدعي العام أنّ الأسد فقد وضعه رئيسًا للدولة بعد أن "توقفت" فرنسا عن الاعتراف به عام 2012. ونتيجةً لذلك، زُعم أنه لم يعد يتمتع بالحصانة الشخصية بعد ذلك التاريخ. وردّت المحكمة بأن الحصانة تنطبق حتى في غياب العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. وقد يؤدي صدورُ حكمٍ مخالفٍ إلى فتح الباب أمام الملاحقة التعسفية من قِبَل أي دولة – ومنها الأنظمةُ الاستبدادية – ضد رؤساء الدول أثناء وجودهم في السلطة.
وهكذا، أيّدت محكمةُ النقض مبدأَ الحصانة الشخصية، الذي لم يخضع حتى الآن لأي استثناء على مستوى العالم. وبعد أن رسّخت هذا المبدأ، زعمت المحكمة أنّ الحصانة الشخصية لا تعنى الإفلات من العقاب، مُشيرةً إلى سُبُل أخرى لمُلاحقة رؤساء الدول المُجرمين. فإذا تعذّر على المحاكم الوطنية في الدول الأجنبية النظر في ذلك، لا يزال من الممكن محاكمة الجرائم أمام محاكم الدولة المعنية، في هذه الحالة سوريا، أو أمام محاكم جنائية دولية. علاوة على ذلك، تُعَدُّ الحصانةُ الشخصية لرئيس أي دولة حصانةً مؤقتة، ويعني هذا أنّ محاكمتَه ممكنةٌ فور تنحيه عن منصبه.
لم تكن هذه الحجج لتحظى بالاعتبار قبل 8 كانون الأول/ ديسمبر عندما كان الأسد في السلطة. وبالتالي، كان منطق المحكمة مراوغًا مضلّلًا؛ فمن جهة، صرّحت المحكمة أنه لا يوجد إفلات من العقاب على الجرائم الدولية، ولكنها من جهة أخرى رفضت إمكانية محاسبة الشخص الذي يُقال إنه المسؤول الأكبر عن معاناة السوريين طوال السنوات الثلاث عشرة الماضية. وبدلًا من ذلك، انحازت وجهة نظر المحكمة إلى مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
بعد تردّي بشار الأسد، فقد حصانته الشخصية وأصبح عرضةً للملاحقة القضائية على الأفعال التي ارتكبها أثناء توليه المنصب. ومع ذلك، وكأي مسؤول حكومي آخر، بات يتمتع بحصانة وظيفية أوسع نطاقًا عن الأفعال التي قام بها في إطار مهامه الرسمية. غير أن محكمة النقض رفضت في اليوم نفسه الحصانةَ الوظيفية لأديب م.، الحاكم السابق لمصرف سوريا المركزي، الذي يُحاكَم أمام المحاكم الفرنسية لدوره في دعم تصنيع الأسلحة الكيميائية. وبالتالي، ما دام الأمر يتعلق بجرائم دولية، لا يمكن لبشار الأسد التذرّع بالحماية بموجب هذا النوع الثاني من الحصانة. ونتيجةً لذلك، حثّت المحكمة على مواصلة التحقيق في الرجُلين، ودعت ضمنيّا القاضيَ المكلَّف بالتحقيق في هجمات الغوطة الكيميائية إلى إصدار مذكرة توقيف جديدة ضد بشار الأسد.
باختصار، لم تُفضِ هذه القضية إلى إرساء الاستثناء الذي طال انتظاره للجرائم الدولية من حصانة رؤساء الدول. ولكنها اتّبعت سوابق قضائية حديثة في ولايات قضائية أخرى للسماح بمقاضاة مسؤولين حكوميين سابقين في حال وجود ادعاءات بارتكابهم جرائم دولية.
يمكنكم الاطلاع على مقالنا حول أشكال الحصانة في القانون الدولي.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.