لكلٍّ رأيه – أشكال الحصانة في القانون الدولي
في 21 شباط/ فبراير 2024، أصدرت محكمة العدل الاتحادية في ألمانيا قراراً بتمديد فترة الحبس الاحتياطي بحق المواطن السوري أحمد ح. أحد عناصر قوات الدفاع الوطني، عقب توجيه الاتهام إليه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب بحق الأشخاص والممتلكات في حي التضامن بسوريا، علاوةً على ارتكاب غير ذلك من الأفعال التي تجرّمها القوانين المحلية. كما جاء في قرار المحكمة تحليل لأيّ عقبات إجرائية ذات صلة قد تعترض سبيل ممارسة المحكمة لنطاق الاختصاص والصلاحية في النظر في القضية، بما في ذلك تقييم احتمال الدفع بأنه يتمتع بالحصانة الموضوعية (بحكم أداء مهام وظيفته)، وهو ما رفضته المحكمة "بما لا يدع مجالاً للشك". ويصف المقال الحالي مفهوم الحصانة الموضوعية (ومفهوم الحصانة الشخصية أيضاً)، ويدرس كيف يمكن أن تَحُول الحصانة دون انعقاد الولاية والاختصاص للمحاكم الوطنية في مقاضاة السوريين المتّهمين بارتكاب جرائم مروّعة.
الحصانة الموضوعية في الأفعال المرتكبة بالصفة الرسمية:
تنطبق الحصانة الموضوعية عندما يرتكب مسؤول الدولة جرائم أثناء أداء مهام الوظيفة الرسمية. ويتمتع المسؤول بموجبها بالحصانة من الملاحقة القضائية الأجنبية حتى بعد أن يترك منصبه الوظيفي. وأوضحت محكمة العدل الاتحادية أن الحصانة الموضوعية لا تنطبق برغم ذلك في حال ارتكاب أشد الجرائم خطورة من قبيل الجرائم ضد الإنسانية. وأيّدت المحكمة الرأي القائل إن هذه تمثّل إحدى قواعد القانون الدولي العُرفي، وهي بالتالي مُلزِمة من الناحية القانونية في جميع أنحاء العالم. وتأييداً لهذا القرار، أشارت المحكمة إلى عدد من المحاكمات الدولية والوطنية بحق مسؤولين رفيعي المستوى (من قبيل محاكمة أيخمان، وقضية مذكرة التوقيف المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية).
كما أشارت المحكمة إلى قرارها التاريخي في 28 كانون الثاني/ يناير 2021 الذي رفضت الدائرة الابتدائية فيها، الدفع بالحصانة الموضوعية لأحد ضباط الجيش الوطني الأفغاني، ويُدعى أحمد زَهير د.، الذي أُدين بارتكاب التعذيب كجريمة من جرائم الحرب بصفته الوظيفية الرسمية. وفي 2021، قضت محكمة العدل الاتحادية الألمانية بأن ضابطاً صغيراً في الجيش مثل أحمد زهير لا يتمتع بالحصانة الموضوعية، ولكنها تركت الباب مفتوحاً فيما يخص البتّ بمسألة إمكانية تمتّع الضباط رفيعي المستوى بالحصانة الموضوعية. وفي قرار المحكمة الصادر في شباط/ فبراير 2024، تبنّت محكمة العدل الاتحادية موقفاً واضحاً رفضت فيه قطعيّاً الدفع بالحصانة الموضوعية في الجرائم الدولية المرتكبة "بصرف النظر عن منصب الجاني أو رتبته" (الفقرة 53 من قرار المحكمة).
وبناءً على الطرح القائل إن الحصانة الموضوعية لا تنطبق في الجرائم الدولية، اقترح عدد من الخبراء إدراج مثل هذا الاستثناء من انطباق الحصانة بين دفتي قانون بهذا الخصوص، وهو ما حصل في مشروع تعديل قيد الدراسة حالياً لإصلاح قانون الجرائم الألماني ضد القانون الدولي. وفي معرض الإشارة إلى محاكمات نوريمبرغ والنظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية، يدفع الكثير من فقهاء القانون والقضاة الألمان بأنه لو كان من الجائز الدفع بالحصانة الموضوعية في مثل هذه الحالات، لَمَا حوكم زعماء الحزب النازي على جرائمهم. ولذلك، يأتي قرار محكمة العدل الاتحادية متّسقاً مع التطور التاريخي للقانون الجنائي الدولي، ويعاود تأكيد حُجّية محاكمات نوريمبرغ والقانون الدولي العرفي.
ويجب أن يُفصل بوضوح بين الحصانة الوظيفية، والحصانة الشخصية (المصطلح القانوني باللاتينية: ratione personae) التي تُعفي دائرة ضيّقة من الأفراد من الملاحقة الجنائية من قبيل رؤساء الدول، ورؤساء الحكومات، ووزراء الشؤون الخارجية، ولكن أثناء فترة شغلهم للمنصب فقط. وتُعتبر المحكمة الجنائية الدولية بصفتها من المؤسسات فوق الوطنية (فوق القومية)، السلطة الجنائية الوحيدة حالياً التي لديها صلاحيات ملاحقة رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية أثناء فترة شغلهم للمنصب. وعادة ما تَحُول الحصانة الشخصية دون ملاحقة رؤساء الدول محلياً بصرف النظر عن خطورة التهم المسندة إليهم.
آراء متضاربة:
تُعزى أهمية قرار محكمة العدل الاتحادية الألمانية الصادر عام 2021 إلى عدة أسباب، ومنها تزامنه مع محاكمة اثنين من مسؤولي الدولة في سوريا، وهما: إياد أ.، وأنور ر. في كوبلنتس. ولو قررت محكمة العدل الاتحادية حينها أن تقبل الدفع بالحصانة الموضوعية في قضية ضابط الجيش الأفغاني، لتمكّن المتّهمان السوريان من الطعن بعدم انعقاد الولاية والاختصاص للمحكمة، ولَتوقّف سير إجراءات المحاكمة أمام المحكمة الألمانية. وعلاوة على ذلك، صدر القرار قبيل تأييد محكمة التمييز الفرنسية بصفتها أعلى المحاكم في البلاد، قرار الدفع بالحصانة الموضوعية في قضية التعذيب المرتكبة برعاية الدولة في معتقل خليج غوانتانامو، وهي قضية تتعلق باثنين من المواطنين الفرنسيين احتُجزا وتعرضا للتعذيب في سجن غوانتانامو الذي تديره الولايات المتحدة في كوبا. وعلى النقيض من محكمة العدل الألمانية، أيدت محكمة التمييز الفرنسية الدفع بأن عملاء الدولة في الولايات المتحدة يتمتعون بالحصانة الموضوعية التي تعفيهم من الملاحقة (بتهمة التعذيب) أثناء شغلهم للمنصب، بصرف النظر عن مدى خطورة الجريمة المرتكبة.
مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوري بشار الأسد:
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أصدر أحد قضاة الصلح الفرنسيين في المقابل مذكّرة اعتقال بحق الرئيس السوري بشار الأسد، وشقيقه ماهر، واثنين من كبار المسؤولين، هما: العميد غسان عباس، والعميد بسام الحسن، وذلك على خلفية شن هجوم بالأسلحة الكيميائية على دوما والغوطة في 2013. وتشمل هذه القضية إشكالية احتمال الدفع بالحصانة الموضوعية والشخصية أيضاً. ويُقرّ المحامون المَعنيّون بالقضية بأن مقاضاة الأسد في فرنسا هي ضرب من الخيال، ولكنهم يسعون إلى تسجيل سابقة قضائية عن طريق الطعن في حصانة رؤساء الدول الحاليين وإمكانية ملاحقتهم أمام المحاكم الوطنية في الجرائم الدولية. وفي الوقت الذي تشهد الأوضاع فيه تزايد اتفاقات تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية، تصبح مذكرة الاعتقال بمثابة تذكير مهم بالفظائع التي ارتكبتها الحكومة بقيادة الأسد. غير أن السوابق القضائية لا تؤيد الدفع بعدم انطباق الحصانة الشخصية في هذه القضية.
وكما برهنت قضية غوانتانامو، أيّد القضاء الفرنسي الإبقاء على انطباق الحصانة الموضوعية في الجرائم الدولية المرتكبة من وكلاء الدولة من الرُّتَب الدُّنيا، والقضاء الفرنسي مُطالب الآن برفض الدفع بالحصانة الشخصية لرؤساء الدول ممن لا يزالون يشغلون منصبهم حالياً. وصحيح أن محكمة الاستئناف الفرنسية لمّا تُصدر قرارها بعدُ في مدى قانونية ومشروعية مذكرة الاعتقال، ولكن تشير القرارات السابقة إلى احتمال عدم قبولها وتأييدها من المحكمة. ولكن تظل القضية الأكثر عمقاً وتعقيداً هي غياب الولاية والاختصاص لمقاضاة بشار الأسد أمام المحكمة الجنائية الدولية، جراء إصرار روسيا على استخدام حق النقض (الفيتو) كي لا يحيل مجلس الأمن ملف الأوضاع في سوريا إلى هذه المحكمة. وبخلاف ذلك، فلن يتمتع الأسد بالحصانة الشخصية أمام المحكمة الجنائية الدولية، وتظل هي المنبر الأنسب لمقاضاته.
سقف التوقعات القانونية، وما بعدها:
كان الرئيس السوداني السابق عمر حسن أحمد البشير، أول رئيس دولة تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحقه وهو على رأس عمله في عامي 2009 و2010، ولا يزال حراً طليقاً، ويسافر بحرّية متنقلاً بين عدد من الدول الأفريقية التي ترفض تنفيذ أوامر المذكرة الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. ويصعب تقدير حجم الضرر الذي لحق بسمعة المحكمة الجنائية الدولية والنظام القانوني الدولي جراء ذلك. ولكن من شأن صدور مذكرة اعتقال فرنسية بحق الأسد أن ترفع من سقف التوقعات لدى ضحايا تلك الجرائم برغم أن الدفع بالحصانة الشخصية سيجعل من المذكرة باطلة على الأرجح. وحتى لو أيدت المحكمة طلب إصدار المذكرة في هذه القضية، فقليلة هي الدول التي ستنفذها وتلتزم بها على الأرجح، ولن يصبح الأسد في عهدة فرنسا، وستُجرى المحاكمة غيابياً، وهذا إذا أُجريت المحاكمة فعلاً.
ولكن لن تكون إشكاليات حصانة رؤساء الدول ذات أهمية في قضية أحمد ح.، إذ ستمضي محاكمته قُدماً بعد أن قررت محكمة العدل الاتحادية في ألمانيا أنه لا يتمتع بالحصانة الموضوعية. وستُجرى جلسات المحاكمة أمام المحكمة الإقليمية العليا في هامبورغ، وسيحرص المركز السوري للعدالة والمساءلة على مراقبة سير مُجريات الجلسات. وبرغم أن كل هذه التطورات تشكّل إشارات تدل على تراجع الدفع بالحصانة الموضوعية كإحدى قواعد القانون الدولي العرفي في أشد الجرائم الدولية خطورة، فلا يزال القانون غير حاسم على هذا الصعيد، وسيظل يتيح بصيغته الحالية إمكانية الدفع بالحصانة الشخصية، ليكون بمثابة عائق يحول دون ملاحقة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم المروعة في سوريا أمام المحاكم الوطنية، ما لم يحصل تحوّل جذري في هيكل القانون الدولي.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.