1 min read
الحياة ما بعد داعش: آفاق المصالحة في المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش في سوريا
2019 مخيم الهول للاجئين (VOA)

الحياة ما بعد داعش: آفاق المصالحة في المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش في سوريا

عقب مرور ثلاث سنوات على هزيمة داعش، لا تزال المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيم في شمال سوريا تعاني من تبعات إرث تلك الحقبة. ولا تزال عائلات بأكملها قيد الاحتجاز في مخيمات اعتقال من قبيل مخيم الهول، ولكن من دون توجيه التهم إليهم ، بينما يُحتجز آلاف الرجال المتهمين بالقتال مع التنظيم في سجون رسمية. ولم يتم إسناد التهم إليهم رسميًا بارتكاب جرائم محددة، ولا يزالون قيد الاعتقال إلى أجل غير مسمى على ما يبدو. وبينما تستمر منظمات حقوق الإنسان، وواضعو السياسات في الدعوة إلى إعادة المعتقلين الأجانب إلى أوطانهم، يشكل السوريون غالبية المعتقلين في تلك المخيمات والسجون. وكي يتسنى لنا أن ندرك كيف يمكن أن يتم إسناد التهم إلى أولئك السوريين بشكل رسمي، ومن ثم احتمال محاكمتهم أو الإفراج عنهم، لا بد أن نفهم أولًا ما إذا كانت المجتمعات المحلية السورية في تلك المنطقة جاهزة للترحيب بفكرة عودة مقاتلي تنظيم داعش السابقين، واندماجهم في المجتمع.

وتختلف المواقف إزاء العناصر السابقين في داعش وأفراد عائلاتهم باختلاف العشائر والمجموعات العرقية، كما تحكمها أيضا طبيعة تجربة المجتمع المحلي أو العشيرة مع حقبة داعش. ويرى بعضهم أن المصالحة ضرب من المستحيل نظرًا لخطورة الانتهاكات التي ارتكبها التنظيم بحق أقاربهم وجيرانهم، بينما يرى آخرون أن التعاون مع داعش سابقًا كان منتشرًا على نطاق واسعٍ جدًا بحيث لا مفر سوى العفو عن ذلك الماضي. وثمة الكثير من الآراء التي تقع بين هذين النقيضين. ولا مفر لأي عملية مصالحة أو مساءلة، رسمية كانت أم غير رسمية، من أن تتعامل مع هذه التشكيلة المتنوعة من المواقف والتوجهات.

كانت عملية الانتقال للعيش تحت سيطرة تنظيم داعش في بعض المناطق متدرجة بحيث لم تنطوِ سوى على القليل من أعمال العنف بين مقاتلي التنظيم ومجموعات السكان المحليين. وفي الوقت الذي انضم فيه البعض عمليًا إلى داعش مدفوعين بإيمانهم بالقضية التي طرحها التنظيم، لا سيما أولئك الذين جاءوا من مناطق تقع خارج مناطق السيطرة التنظيم في اللاذقية أو طرطوس على سبيل المثال، وجد آخرون كُثر من سكان شمال شرق سوريا أنفسَهم يُسحبون شيئا فشيئا باتجاه التنظيم وبشكل غير ملحوظ ومعقّد. ووجد السكان المحليون الذين قاتلوا تحت راية الجيش السوري الحر أنفسهم يقاتلون فجأة تحت راية أحرار الشام، أو جبهة النصرة، قبل أن يقاتلوا تحت راية داعش لاحقًا، حيث اتضح لهم عقب فوات الأوان أن قادتهم قد حولوا ولاءهم من دون سابق إنذار. وفي مقابلة مع المركز السوري للعدالة والمساءلة، قال أحد الأشخاص الذي أقسم على قتال النظام السوري عقب تعرضه للتعذيب في المعتقل على أيدي القوات الموالية للنظام، إنه انضم إلى التنظيم لأن الجيش السوري الحر أوقف نشاطه في المنطقة التي يقطنها، ولأن داعش زعم أنه يعارض النظام ظاهريًا. ولم تخلّف هذه العمليات من الاستحواذ على ولاء التنظيمات الكثير من القتلى، ولم تخلق بالتالي أسسًا لاستمرار الضغائن والأحقاد أو التناحر. كما أدى الاستحواذ على التنظيمات المختلفة إلى اعتماد سكان مناطق شاسعة على تنظيم داعش للحصول على وظيفة أو تأمين مصدر دخل، وهو ما خلق علاقة مختلفة تمامًا بين السكان والتنظيم. وتعرضت البلدات التي حاولت وقف تقدم مقاتلي التنظيم مثل بلدة الشهيل لمذابح، ولاقت مصيرًا مأساويًا بعد أن بسط التنظيم سيطرته على مناطقها.

كما أوجدت الخلافات والفوارق العشائرية، والدينية، والعرقية تجاربًا وتعاملات تتفاوت تفاوتًا عميقًا على مستوى علاقات الأفراد والمجتمعات المحلية مع داعش في مختلف أنحاء سوريا. وقاتل أفراد تشكيلات عشائرية مثل عشيرة الشعيطات تنظيم داعش، وتعرض أفرادها لعمليات قتل جماعي على أيدي عناصر التنظيم. وتعمد داعش أن يجعل من الشعيطات عبرة لمن يعتبر في محاولة لتشجيع العشائر الأخرى على الانضمام إلى صفوف التنظيم جماعات وأفرادًا. وبينما شاطرت بعض التجمعات السكانية التنظيم تأويله المتطرف والمتشدد لأحكام الشريعة ولم تتأثر بالتالي كثيرًا من ضوابط السلوك المتشدد التي فرضها داعش على الجميع، واجهت تجمعات أخرى أشكالًا قاسية من العقاب عقب ارتكاب مخالفات بسيطة. وأقدم تنظيم داعش في شمال شرق سوريا على قتل وتشريد أعداد كبيرة من المدنيين الكرد وعناصر المنظمات الكردية من قبيل وحدات حماية الشعب (YPG) التي دأبت على مقاتلة التنظيم مرارًا وتكرارًا، وهو ما يحد من إمكانية الإقبال على المصالحة مع كرد سوريا.

أوجدت هذه التجارب شديدة التباين في مواقفها إزاء احتلال داعش لمناطق في شمال سوريا وسيطرته عليها توجهات مشابهة متباعدة جدًا في نظرتها إلى المصالحة والمساءلة. ويعتبر بعضهم أن ارتباط الأشخاص بداعش سابقًا يعد أمرًا بسيطًا لا يعدو كونه مجرد وسيلة لتأمين مصدر للدخل في أوقات الحرب، وأنه لا يختلف كثيرًا عن الانتماء إلى الفصائل المسلحة الأخرى، والجهات الحاكمة التي مرت على المنطقة أثناء مختلف مراحل النزاع في سوريا. وعلى نحو مشابه، لا يجد آخرون سببًا وجيها لإدانة أبناء القبائل الذين انضموا إلى داعش لمجردِ التحاقهم بالتنظيم، لا سيما وأن معارضة داعش والتنصل منه كان سيعني بالنسبة لهم الاضطرار للتخلي عن أقاربهم ومفارقتهم. كما تختلف القدرات التي تتمتع بها آليات العدالة والمصالحة العشائرية على صعيد تحقيق المساءلة بشأن جرائم داعش (من قبيل إلزام أبناء العشائر مثلا على التبرؤ رسميًا من عشائرهم التي تحالفت مع التنظيم)، وذلك لأن تلك الآليات منوطة بنتائج النزاع في أماكن معينة وما تمخض عنه فيها.

ويجد أفراد بعض المجتمعات المحلية فروقات حادة بين من عمل مع داعش في مناصب إدارية أو وظائف مساندة، وبين من احتلوا مراتب عليا في التنظيم، أو ارتكبوا انتهاكات أو فظائع أثناء قتالهم في صفوفه. وبدت هذه العقلية واضحة لموثقي المركز السوري للعدالة والمساءلة، الذين أصبحوا يتندرون ساخرين من أن التنظيم لربما كان مؤلفًا بالكامل من عمال النظافة وجمع النفايات لأن الكثير من الذين ارتبطوا بالتنظيم سابقا يزعمون الآن أنهم عملوا كعمال نظافة لدى التنظيم. ومن نافلة القول طبعًا إن تصنيف الوظائف ما بين بسيطة أو غير مؤذية، وأخرى شملت ارتكاب جرائم أمر يختلف من شخص لآخر. وأخبرت إحدى الأمهات المركز السوري للعدالة والمساءلة أثناء محاولتها اليائسة للدفع ببراءة ابنها قائلة إن "ابني خدم مع داعش، ولكنه عمل قناصًا فقط"! ولكن ثمة آخرون، لا سيما الذين ينحدرون من البلدات والعشائر التي نكّل التنظيم بها وذاقت ألوان العذاب على يدي عناصره، يعتقدون أن الانتماء لداعش بأي شكل من الأشكال، ويشمل ذلك الارتباط به من خلال العمل في الوظائف الإدارية، يشكل أساسًا يسوّغ الانتقام من صاحبه.

ولقد بدأت فعليا في مجتمعات شمال شرق سوريا عملية إعادة إدماج الأشخاص الذين لديهم سوابق الارتباط بداعش والانتماء إليه. وتمكن بعضهم، وبكل بساطة، من أن يفلت من مقص الرقيب، وينسلّ بكل هدوء عائدًا إلى مجتمعه الأصلي من دون محاسبة لا سيما أولئك الذين شغلوا وظائف غير قتالية لدى التنظيم. وألقت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) القبض على بعض آخرين قبل أن تفرج عنهم لاحقًا بموجب نظام كفالة العشيرة لهم، حيث آثر أقاربهم في العشيرة أن يكونوا كفلاء لهم، ورحبوا بعودتهم إلى صفوفها. وعمومًا، فلم تُوجَّه إلى الذين تم الإفراج عنهم تهم بارتكاب جرائم أو انتهاكات بحق المجتمعات المحلية، ولكن لا تتوفر عملية رسمية تكفل ذلك في جميع الأحوال. وتختلف طريقة التعامل مع طبقات عناصر داعش السابقين حسب الرتبة والوظيفة. ويعيش بعض قادة داعش السابقين حياة عادية نسبيًا، حيث اعتزلوا الناس والتزموا مزارعهم، بينما فرَّ بعض القادة الآخرين إلى تركيا أو مناطق أخرى داخل سوريا. وفي بعض المناطق، يعيش كل من كان لديه ارتباط سابق بداعش في خوف وقلق من احتمال الانتقام منه أو تعرضه للاعتقال من طرف أجهزة الأمن. وما من شك في أن بعض أبناء عشائر دير الزور الذين انضموا إلى داعش يخشون الآن من أن يقوم أبناء عمومتهم بتزويد أجهزة المخابرات الغربية بمعلومات عن أماكنهم كي يتم استهدافهم بالطائرات المسيرة بدون طيار. كما دخلت قوات سوريا الديمقراطية الآن مرحلة شرعت فيها بإطلاق سراح الأفراد الذين لم يكفلهم أحد من عشيرتهم، الأمر الذي يثير تساؤلًا حول مدى رغبة أبناء عشائرهم في إعادة إدماجهم. ومن المرجح أن الذين لا يزالون معتقلين لدى قوات سوريا الديمقراطية هم ممن يشتبه بارتكابهم لتجاوزات خطيرة، وهم أكثر عرضة بالتالي للتعرض لهجمات انتقامية وقتلهم بمجرد إخلاء سبيلهم.

وبدأ المجتمع الدولي يدرك على نحو متزايد أن استمرار اعتقال مقاتلي داعش وأفراد عائلاتهم إلى أجل غير مسمى أصبح يهدد بظهور أزمة أمنية تلوح في الأفق. وثمة جهود متجددة تدفع باتجاه عدم الاكتفاء بإعادة المقاتلين الأجانب، وتريد أن تذهب أبعد من ذلك إلى حد وضع خطة لإغلاق مخيميّ الهول والروج. وبغية تحقيق ذلك الهدف، سوف تحتاج قوات سوريا الديمقراطية للمساعدة في إتمام معاملات جميع المعتقلين السوريين بطريقة نظامية، وبحيث تخلي سبيل الذين لا توجد بحقهم تهم، وتحاكم الآخرين الذين ارتكبوا جرائم مع التنظيم. ولكن ينبغي لهذا النوع من الدعم والمساندة أن يذهب إلى ما هو أبعد من مجرد إخلاء سبيل المحتجزين. فلا بد أن يشمل ذلك أيضا طريقة التعامل مع التجارب المتباينة، والمواقف المتفاوتة إزاء الأعضاء السابقين في التنظيم في منطقة تزخر بتنوع مكوناتها. كما تؤثر هذه التوجهات والمواقف على عمليات المصالحة خارج إطار الدولة، سواء الجاري تنفيذها حاليًا أو الممكن الشروع بها مستقبلًا، ومنها عمليات المصالحة التي قد تتم من خلال آليات القوانين والأعراف العشائرية. ولا شك في أن السوريين الذين يعاصرون الآن مرحلة ما بعد محاولة داعش لتأسيس ما يدعون أنه الخلافة، وفي ظل بقاء النار تحت الرماد، وتنامي احتمال شن التنظيم لتمرد مسلح آخر، سوف يمضون في الاعتراض بشدة على الشكل الذي يتعين أن تكون عليه مجموعة عمليات المصالحة والمساءلة.

______________________________

للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.