1 min read
خطوة أولى نحو العدالة الانتقالية في سوريا

خطوة أولى نحو العدالة الانتقالية في سوريا

وقّع الرئيس الشرع في ١٧ أيار/مايو ٢٠٢٥، المرسوم رقم (٢٠) المتعلّق بتشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية". ينص المرسوم على أن الهيئة ستكون مسؤولة عن "كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام البائد". وعّين المرسوم رئيس الهيئة ومنحها مهلة ٣٠ يومًا لتشكيل فريق عمل ووضع نظامها الداخلي. ورغم أن انشاء الهيئة يعتبر خطوة إيجابية أولى نحو المساءلة، إلا أن المرسوم لا يقدّم سوى تصور عام ومبسط لنهج سوريا في تحقيق العدالة الانتقالية. ومن أجل ضمان عدالة شاملة لجميع السوريين وتحقيق أوسع مشاركة مجتمعية ممكنة، ينبغي على الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية أن تتخذ خطوات للمشاركة بحوار وطني في كل محافظات سوريا الأربعة عشر قبل تبني أي آليّة بعينها.

كان التمهيد للإعلان عن تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية قد ورد في المادة ٤٩ من "الإعلان الدستوري" الصادر في ١٣ آذار/مارس ٢٠٢٥، والتي نصت على ضرورة تشكيل لجنة للعدالة الانتقالية. كما نصّ الإعلان على أن تكون الآليات التي تعتمدها اللجنة "تشاورية" و "مرتكزة على الضحايا"، وأن تضمن حق الضحايا والناجين في معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة.

لا يضع الإعلان الدستوري قيودًا على الضحايا والناجين الذين يسعون لتحقيق العدالة، بل أيضا يقرُّ بوجوب محاكمة الجرائم الدولية، بما فيها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، ويسمح بمقاضاة هذه الجرائم حتى وإن ارتُكبت قبل تجريمها بموجب القانون السوري، لكن فقط للجرائم التي ارتُكبت من قبل الحكومة السابقة. ويُعزز المرسوم رقم ٢٠ هذا التقييد من خلال حصر صلاحيات الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية بمحاسبة مرتكبي "الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام البائد". وتوحي هذه الصياغة بأن العدالة ستكون مُقتصرة على الجرائم الُمُرتكبة من قبل حكومة الأسد. وفي حين أن حكومة الأسد ارتكب الجزء الأكبر من الجرائم الدولية خلال سنوات النزاع، إلا أن عدة أطراف أخرى ارتكبت انتهاكات جسيمة، ويستحق ضحايا هذه الجرائم العدالة أيضًا، وحصر عمل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية بمساءلة مجموعة واحدة من الجناة يُعد اجحافًا بحق هؤلاء الضحايا.

قد شهدت عمليات العدالة الانتقالية في بلدان أخرى نقاط ضعف مشابهة. فعلى سبيل المثال أُقيل المدعي العام لمحكمة رواندا بعد محاولته التحقيق في جرائم جسيمة ارتكبتها الجماعة المتمردة التي أنهت الإبادة الجماعية. بالمثل، تم تقييد نطاق المحكمة الكمبودية زمنيًا كي تُمنع من النظر في حملة القصف الأميركي. لكن هذا لا يبرر الانتقائية في التعامل مع الجرائم المرتكبة خلال النزاع السوري. إن الفشل بعدم الإقرار بجميع الانتهاكات المُرتكبة خلال سنوات النزاع السوري قد يعيق مسار الانتقال السلمي. يستحق ضحايا حملات قصف المستشفيات التي شنتها جهات دولية، العدالة، وكذلك ضحايا الاعدامات الميدانية على يد تنظيم داعش، ومن تعرضوا للتعذيب على يد الجيش الوطني السوري.

من المؤكد أن الثلاثين يومًا، مدّة محدودة جدًا وغير كافية لمعالجة القضايا المذكورة أعلاه بشكل كامل. لذا يجب على الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية استثمار هذه الفترة لتشكيل فريق عمل يمثّل التنوع السوري تمثيلا كافيا، كما ينبغي عليها وضع جدول زمني لمشاورات عامة في جميع أنحاء البلاد قبل تقديم تقرير علني يتضمن توصيات بشأن آلية أو آليات تحقيق العدالة الشاملة لجميع السوريين.

وكخطوة اولى، ينبغي على الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية البدء بخطة لحفظ وثائق استخبارات حكومة الأسد وارشفتها رقميًا وتحليلها. ترك حكومة الأسد خلفه ملايين الوثائق في المنشآت العسكرية والأمنية، وستكون هذه الوثائق أساسًا لجميع عمليات العدالة مستقبلا. مع ضمان أن إمكانية البحث فيها لغاية تحقيق العدالة وإتاحتها مستقبلًا للعامة من الشعب السوري هو من الاولويات.

يجب على الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية التعاون مع منظمات المجتمع المدني القائمة والتي تمتلك القدرة للعمل على هذه الوثائق لتوفير الوقت والتكاليف.

ولكي تؤدي الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية مهامها بشكل صحيح، يتعين على الحكومة السورية الانخراط في اصلاح مؤسسات الدولة بما يسمح بإقامة نظام عدالة فعّال ومُنصف. والتوصيات التالية تتوافق مع هذه الضرورة:

  • بناء قدرات النظام القضائي السوري: أعربت الحكومة السورية عن رغبتها في قيادة عمليات العدالة من قِبل السوريين أنفسهم. لكن هذا يتطلب إصلاحات واسعة في النظام القضائي الحالي بالإضافة الى الاستثمار في قدرات المختصين في القانون من حقوقيين في البلاد. لذا ينبغي على وزارة العدل اتخاذ الخطوات التالية:
    • إعادة تفعيل النظام القضائي: البدء بخطة لإعادة فتح جميع المحاكم السورية القائمة لتمكين النظام القضائي من أداء مهامه. علمًا أن المحاكم العاملة حاليًا هي فقط محاكم الأحوال الشخصية والمحاكم المدنية.
    • حصر الكوادر القانونية: إجراء إحصاء لحجم الكفاءات القانونية داخل البلاد، ويمكن أن يتم جزئيًا عن طريق استبيانات تتم في نقابات المحامين ويتم تقييم عدد المحامين المؤهلين المتواجدين داخل البلاد، بمن فيهم المختصين في الادعاء الجنائي والدفاع، كما يجب على الوزارة انشاء سجل للقضاة الحاليين.
    • الغربلة والتطهير: اعداد خطة لتقييم مدى أهلية القضاة الحاليين لمواصلة مهامهم، تتضمنها عملية تدقيق وعزل. كما ينبغي على وزارة العدل تعيين فريق من الخبراء القانونيين لصياغة "دليل عمل" للقضاة السوريين ليوضح التفاصيل العملية والاجتهادات ذات الصلة التي لا تتضمنها قوانين الإجراءات. ومن شأن ذلك أن يُسهم في توحيد الإجراءات داخل البلاد ويوضّح أيضاً أي أحكام جديدة متعلقة بالجرائم الدولية. كما يجب إلزام جميع القضاة الذين يجتازون عملية التدقيق ويختارون الاستمرار، بحضور تدريب تمهيدي على هذا الدليل قبل عودتهم لمناصبهم.
    • ضمانات المحاكمة العادلة: ينص الإعلان الدستوري على أن "جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق أو الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان، التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية، تعتبر جزءً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري" وبما ان سوريا دولة طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يجب على وزارة العدل مراجعة قانون العقوبات السوري لضمان توافق أحكامه مع العهد الدولي، خاصة المادة ١٤ المتعلقة بضمانات المحاكمة العادلة. كما يجب تعديل قانون العقوبات لتجريم الجرائم الدولية.
  • اصلاح السجون: يجب ان يتم اصلاح نظام السجون لضمان معاملة السجناء والمحتجزين الذين ينتظرون المحاكمة معاملة إنسانية.
    • انهاء حالات الاختفاء القسري وتحسين الظروف الحالية: توجد تقارير تفيد ان المعتقلين الجدد بما فيهم مسؤولون سابقون في حكومة الأسد، محتجزون بمعزل عن العالم الخارجي. يجب على الحكومة السورية التعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر لمراقبة وضع السجناء وضمان إمكانية تواصلهم مع عائلاتهم. وتعد زيارات الأهل والمحامين حقًا من الحقوق الأساسية للمعتقلين. وأيضا على وزارة العدل تحضير قوائم بأسماء المعتقلين وجعلها متاحة للعامة.
    • التحقيق والتطهير: ينبغي على وزارة العدل إنشاء سجل محدّث لكافة السجون وموظفيها. كما ينبغي اغلاق السجون المرتبطة بجرائم حكومة الأسد بشكل دائم، مع الحفاظ على سجن صيدنايا وتحويله الى متحف عام. ويجب على وزارة العدل اقتراح إجراءات شفافة لعملية التدقيق والتطهير لكافة العاملين الحاليين في السجون. بالإضافة الى تطوير مجموعة إجراءات موحدة للمهام في السجون وبرامج تدريبة الزامية للعاملين.

تعد هذه المهام مخصصة للمرحلة الحالية على المدى القريب، أما على المدى المتوسط، فينبغي على الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية ووزارة العدل معالجة هواجس العدالة الأخرى، بما في ذلك:

  • اعداد مقترحات لمعالجة استرداد الممتلكات وإيجاد اشكال أخرى من التعويضات (آلية جبر الضرر)، بالإضافة الى الإصلاحات المؤسساتية (بما في ذلك عملية الغربلة والتطهير لمسؤولي النظام السابق العاملين خارج نطاق القضاء والسجون)
  • الحفاظ على السجل المدني وتعيين مسؤول لتحديثه وفق معايير متفق عليها.
  • إنشاء نظام موّحد للبطاقات الشخصية، مع إمكانية اصدار بطاقات جديدة عند الحاجة.
  • الحفاظ على صكوك الملكية وإيجاد نظام للمحاكم العقارية للنظر في النزاعات حول الملكية.

 الهيئة الوطنية للمفقودين

وقّع الرئيس الشرع على المرسوم رقم (١٩) أيضًا في ١٧ أيار/مايو، والقاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين. وقد أُنشأت هذه الهيئة للكشف عن مصير المفقودين في سوريا وضمان العدالة لأسرهم. وعيّن المرسوم رئيس الهيئة وكلّفه بتشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي خلال مدة لا تتجاوز ٣٠ يوماً من تاريخ المرسوم. ويُعد المرسوم ١٩ أقل تقييدا من المرسوم رقم ٢٠، إذ لا يحدد مجموعات معينة من المفقودين أو مرتكبي الجرائم. لذلك قد يشمل نطاق عمل الهيئة الوطنية للمفقودين عشرات الآلاف من المفقودين من قبل حكومة الأسد وكذلك الذين فقدوا لدى تنظيم داعش وغيره من جماعات أخرى.

تُكلّف الهيئة بالبحث والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسريًا وتوثيق الحالات وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، إضافة الى تقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم. وتهدف للاستجابة للمعاناة الطويلة التي عاشتها أسر المفقودين بسبب فقدان أحبائهم. لذا يجب أن يكون توثيق بيانات المفقودين أولوية قصوى لإضافتها في قاعدة البيانات الوطنية.

يتعين على الهيئة الوطنية للمفقودين والهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية وضع بروتكولات للتنسيق معًا ومشاركة الأدّلة، حيث ستكون المعلومات المتعلقة بالمفقودين ذات صلة بمقاضاة الانتهاكات والفظائع، لا سيما المتعلقة بمراكز الاعتقال.

علاوة على ذلك، ينبغي على كل من الهيئة الوطنية للمفقودين ووزارة العدل اتخاذ الخطوات التالية:

  • الحفاظ على مواقع القبور الجماعية: في الأشهر التي تلت سقوط الحكومة السابقة، قامت عائلات وصحفيون ومنظمات المجتمع المدني بعمليات استخراج عشوائية للجثث من القبور على أمل تحديد هوية الرفات. مما يضرّ بالأدلة الحيوية ويعقّد عمليات تحديد الهوية في المستقبل. يجب على الهيئة الوطنية للمفقودين وضع خطة للحفاظ على مواقع القبور الجماعية والبدء بتنفيذها.
    • تنظيم عمليات استخراج الجثث: اعداد قانون يعرض على مجلس النواب لتجريم التلاعب بمواقع القبور، وتحديد جهة مركزية داخل وزارة العدل مفوّضة بعمليات استخراج الرفات. وريثما يتم وضع استراتيجية شاملة يجب ألا يتم الموافقة على استخراج الجثث إلا في حالات الطوارئ، مثل ظهور الرفات على السطح، أو الحاجة لإزالتها بسبب اعادة اعمار عاجلة.
    • حملة توعية: إطلاق حملة عامة تحث المجتمعات على حماية مواقع القبور، وتوعيتهم بأهميتها في عمليات تحديد الهوية. يجب أن يقوم أعضاء الهيئة بإجراء حملات تثقيفية عبر القنوات التلفزيونية والاذاعية المحلية، والتنسيق أيضا مع عائلات المفقودين لدعم الحملات والمشاركة فيها.
    • عملية التسجيل: يجب أن تتاح للأُسر السورية في جميع انحاء البلاد فرصة تسجيل مفقوديهم شخصيا في المكاتب او العيادات المتنقلة، ويجب على الهيئة الوطنية للمفقودين اقتراح خطة لهذه العملية، تتضمن:
    • نموذج التسجيل: تطوير نموذج موحد لتسجيل حالات المفقودين، بالإضافة الى مواد تدريبة للموظفين الذين سيجرون المقابلات مع العائلات. وينبغي أن تتم عملية التسجيل عبر مقابلات مع موظفين مُدربين بدلا من النموذج الالكتروني. وتخزّن جميع الحالات في قاعدة بيانات مركزية.
    • خطة التواصل: وضع خطة لإجراء عملية تسجيل للمفقودين والمختفين قسريا على مستوى البلاد، مصحوبة بتواصل مكثف مع العائلات لحثّهم على المشاركة وتثقيفهم بشأن خيارات التحقيق في حالات المفقودين، وتطمينهم بعدم تعرضهم لاي أعمال انتقامية نتيجة مناقشتهم علانية أمر أحبائهم المفقودين. ينبغي على الهيئة الوطنية للمفقودين وضع خطط مخصصة لتحديد مواقع مكاتب التسجيل والعيادات المتنقلة وعدد الموظفين المطلوب في كل منطقة، ويمكن للهيئة الوطنية للمفقودين اقتراح تعيين وتدريب كادر من الموظفين، او التعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمات المجتمع المدني والاستعانة بموظفيهم في هذا الصدد.
    • الوضع القانوني: اعداد قانون يُعرض على البرلمان، لإنشاء وضع قانوني خاص بالمفقودين المسجّلين، كي يسمح لعائلاتهم التي أكملت عملية التسجيل من تسوية الميراث وحضانة الأطفال وغيرها من المسائل القانونية، اثناء انتظار معرفة مصيرهم.

على المدى المتوسط، ستحتاج الهيئة الوطنية للمفقودين الى اعداد خطة موسعة لعملية تحقيق شاملة، تُختتم باستخراج الرفات وتحديد هويتهم واعادتهم.

 الخلاصة:

يُشّكل إنشاء هيئتين منفصلتين خطوة فعّالة نحو تحقيق الهدف الأساسي من العدالة الانتقالية. وكما ورد في التوصيات أعلاه، فإن حملات التواصل والمشاورات العامة يعدّان مفتاح نجاحهما. يعترف الإعلان الدستوري ويُقر بحق الضحايا والناجين في معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة. ولذلك على الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمفقودين مراعاة هذه المبادئ وهما تخطوان أولى خطواتهما نحو عدالة شاملة لجميع السوريين.

 ________________________________

للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.