حرصًا على أن تأخذ العدالة مجراها في دوسيلدورف
"لا يجب أن نكتفي بأن ندع العدالة تأخذ مجراها وحسب، وإنما علينا أن نحرص على ذلك أيضا ". لطالما تكررت شكوى منظمات المجتمع المدني السوري من حرمانها من فرصة الاطلاع على تفاصيل المحاكمات التي تُجرى في أوروبا بخصوص الجرائم المرتكبة في سوريا لا سيما في ظل عدم إمكانية استفادة الجمهور من خدمات الترجمة الشفوية إلى اللغة العربية التي توفرها المحكمة للمتهمين في أغلب الأحيان. ومن هنا تأتي الأهمية الكبرى للقرار الذي صدر مؤخرا عن المحكمة الإقليمية العليا في دوسيلدورف، ووافقت بموجبه على إتاحة استخدام خدمة الترجمة الشفوية إلى العربية من طرف مراقب المحكمة الذي يحضر جلساتها بالنيابة عن المركز السوري للعدالة والمساءلة، وهو ما يساهم في تأمين حقوق الضحايا، وتمكين الرأي العام السوري من متابعة إجراءات سير القضايا الجنائية ذات الصلة.
وتسعى المحاكم الوطنية في كثير من الدول إلى ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية المتصلة بالنزاع السوري، وذلك عن طريق ممارسة ولايتها القضائية خارج إقليمها أو أراضيها (والتي تتضمن مبدأ الولاية القضائية العالمية)، وتندرج تلك الممارسة ضمن تدابير تحقيق العدالة لضحايا مئات القضايا المنظورة حتى تاريخه من السوريين، فضلا عن كونها من الإجراءات المؤقتة لسد الثغرة القضائية الحاصلة حاليا إلى أن يصبح بالإمكان تطبيق حل شامل للمسألة على هذا الصعيد. ولكن فيما يخص الكثير من القضايا المنظورة في ألمانيا وهولندا وغيرهما من الدول، يُحرم المتضررون، وهم الضحايا السوريون تحديدا، من فرصة الاطلاع على مجريات سير القضايا والمحاكمات. ويُعزى ذلك إلى مجموعة من العوامل بما فيها بُعد المسافة الجغرافية الفاصلة بين أماكن إقامة السوريين ومقار المحاكم التي تنظر في تلك القضايا، ومستوى الوعي بطبيعة الإجراءات القانونية، ومحدودية تواصل تلك المحاكم ودوائر الادعاء العام مع الجمهور، وما إلى ذلك. وعندما تغطي وكالات الأنباء تفاصيل تلك المحاكمات، تقتصر تغطيتها الإعلامية على بعض الجلسات برغم أن بعض المحاكمات تستغرق شهورا أو سنوات قبل أن تصل إلى مراحلها الختامية في أروقة المحاكم ومنظومة القضاء.
وإن عدم توفر خدمة الترجمة الشفوية إلى اللغة العربية يعد عقبة رئيسية أخرى تحول دون اطلاع المعنيين على مجريات سير تلك القضايا ووقائع الجلسات. وعلى سبيل المثال، تُجرى جلسات المحاكمات المتعلقة بسوريا أمام محاكم ألمانيا باللغة الألمانية، وتقتصر الاستفادة من خدمة الترجمة الشفوية إلى العربية على المتهمين كجزء من حقهم في الحصول على محاكمة عادلة. ويصعب على السوريين المقيمين في ألمانيا متابعة مجريات الأمور القانونية والقضائية باللغة الألمانية على الرغم من أن بعضهم أصبح يجيد تلك اللغة بالحد الأدنى. كما أن إجراء المحاكمة في جلسات علنية يعد من الحقوق الأصيلة المتعلقة بحق الحصول على محاكمة عادلة. وهذا هو السبب الذي دفع المركز السوري للعدالة والمساءلة إلى طلب الاستفادة من خدمات الترجمة الشفوية إلى اللغة العربية التي توفرها المحاكم للمتهمين (والمدعين أيضا).
وفي محاكمة أنور رسلان في كوبلنتس بألمانيا، رفضت المحكمة بادئ الأمر طلب المركز السوري للعدالة والمساءلة باستخدام خدمة الترجمة الشفوية إلى العربية المتوفرة للمتهم. ولكن المركز السوري للعدالة والمساءلة استأنف قرار الرفض أمام المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا من خلال مجموعة من المحامين وبتنسيق مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، ونجح في استصدار أوامر مؤقتة تلزم المحكمة التي تنظر في القضية بتوفير خدمة الترجمة الشفوية لممثلي الصحافة المعتمدين رسميا. ومنذ صدور ذلك القرار، عدّل البرلمانالألماني قانون الجرائم المرتكبة ضد القانون الدولي، وأقر صراحةً بأهمية تمكين غير الناطقين بالألمانية من متابعة سير المحاكمات ذات الصلة بالجرائم الدولية. ولسوء الحظ، لم تتضمن التعديلات النص تحديدا على توفير الترجمة الشفوية، وتركت المسألة لتقدير المحكمة صاحبة الاختصاص في القضية.
ويقودنا ذلك إلى الحديث عن قضية كلٍ من محمد أ.، وإسماعيل ك، وهما يُحاكمان أمام المحكمة الإقليمية العليا في دوسيلدورف بتهمة ارتكاب جرائم على خلفية انتمائهما المزعوم إلى تنظيم داعش. وسعى المركز السوري للعدالة والمساءلة من خلال برنامجه الخاص بمراقبة المحاكمات إلى حضور وقائع الجلسات، وطالب المحكمة بالسماح له بالاستفادة من خدمات الترجمة الشفوية إلى العربية المتاحة للمتهمين باستخدام أجهزة استقبال بث الترجمة الفورية (السماعات) التي زُوِّد المتهمان بها. ورفضت المحكمة طلب المركز بادئ الأمر بزعم أن الأمر غير ممكن من الناحية الفنية. وبعد أن لفت المركز عناية محكمة دوسيلدورف إلى قرار المحكمة الدستورية العليا بهذا الخصوص، عاودت المحكمة تقييم الوضع، ووافقت مؤخرا على السماح لمراقبي المركز بالاستفادة من خدمات الترجمة الشفوية المتوفرة للمتهمين. ويشكل ذلك سابقة مهمة، ويعرب المركز بهذه المناسبة عن امتنانه لما أبدته المحكمة من مرونة على هذا الصعيد بما يكفل للسوريين حقهم في الاطلاع على وقائع جلسات المحاكمة.
ولم يقتصر هدف المركز السوري للعدالة والمساءلة من إطلاق برنامجه لمراقبة المحاكمات على مسألة توثيق سجل تاريخي للجرائم المرتكبة في سوريا وحسب، وإنما حرص من خلال البرنامج أيضا على إطلاع السوريين على الحقيقة المتعلقة بأنظمة القمع وأشكال سوء المعاملة المرتكبة أثناء النزاع. وستصبح هذه السجلات التاريخية الموثقة أساسا ومنطلقا لآليات عدالة أكثر شمولا في المستقبل، وتتيح للسوريين حاليا أن يطلعوا على العدالة وهي تأخذ مجراها في محاكمة دوسيلدورف وما بعدها.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.