1 min read
حماية إعادة إعمار سوريا: لماذا يجب أن تكون مكافحة الفساد أولوية قصوى
جامع العرفان - جوبر

حماية إعادة إعمار سوريا: لماذا يجب أن تكون مكافحة الفساد أولوية قصوى

تدخل سوريا مرحلة جديدة تتّسم بتجدّد المشاركة العامة وتزايد الاهتمام الدولي بملف إعادة الإعمار. وقد ولّدت حملات التمويل الجماعي الأخيرة والمبادرات الأولية لإعادة الإعمار شعورًا بالأمل كان غائبًا لسنوات عديدة. غير أن هذه المرحلة تنطوي أيضًا على مخاطر كبيرة؛ إذ إن غياب الضمانات القوية قد يسمح بعودة الأنماط ذاتها من الفساد والاستحواذ السياسي التي ميّزت مؤسسات الدولة في ظلّ الحكومة السابقة، بما يقوّض جهود إعادة الإعمار والثقة العامة على حد سواء.

كان الفساد في ظلّ الحكومة السابقة متجذّرًا ومنهجيًا، وشكّل مكوّنًا أساسيًا من آليات بقائها وسيطرتها في سوريا على مدى عقود. وخلال النزاع، تصاعدت هذه الممارسات واُستخدمت بصورة استراتيجية لترسيخ السلطة ومعاقبة المجتمعات المعارضة. وكما وثّق المركز السوري للعدالة والمساءلة، مارست أجهزة المخابرات السورية سيطرة مباشرة على توزيع المساعدات الإنسانية، بما يضمن توجيهها لخدمة المصالح السياسية والاقتصادية للحكومة، بدلًا من إيصالها إلى المجتمعات الأشدّ احتياجًا. كما أظهر استطلاع رأي حديث أن 50% من السوريين يعتقدون أن الفساد ما يزال ينخر مؤسسات الدولة حاليًا، رغم أن 70% يرون أنه أقلّ مما كان عليه في ظلّ حكومة الأسد.

وبالنظر لهذه المعطيات، يتطلّب التدفق الجديد لتمويل إعادة الإعمار إدارة حذرة وآليات مساءلة فعّالة. إذ يجب تضمين ضمانات واضحة ضمن الإطار القانوني الجديد، لمنع تحوّل إعادة إعمار سوريا إلى أداة جديدة للفساد، بدل أن تكون خطوة نحو مستقبل أكثر عدلًا وشفافية.

إدماج المساءلة الاقتصادية في العدالة الانتقالية

كان الفساد في ظلّ حكومة الأسد ممنهجًا، وشكّل آليةً رئيسيةً استخدمتها الحكومة السابقة لتمويل جرائم الحرب وتنفيذها وضمان استدامتها. وبما أن الانتهاكات الاقتصادية، ولا سيما تلك المتعلقة بالإسكان والأراضي والممتلكات، أسهمت بشكل مباشر في تمكين ارتكاب الانتهاكات، فإن المساءلة عن الفساد يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ من الخطة الأوسع للعدالة الانتقالية.

إن معالجة الجرائم الاقتصادية إلى جانب جرائم الحرب يمكن أن تُسهِم في استرداد الأصول، وتضمن توزيعًا أكثر عدالة لموارد إعادة الإعمار مستقبلًا، وتُوفّر أدلة توضّح الكيفية التي شكّلت بها المصالح المالية أنماط العنف. وإذا أُهمِلت هذه الأبعاد الاقتصادية، فإن جهود إعادة الإعمار الجديدة قد تُخاطر بترسيخ الشبكات ذاتها التي موّلت القمع، وإعادة إنتاج هياكل الاستغلال بدلًا من تفكيكها.

وقد يتخذ إدماج المساءلة الاقتصادية في العدالة الانتقالية في سوريا أشكالًا متعددة ومتكاملة. إذ يمكن للتحقيقات المالية أن تتتبّع الأصول، وتجمّد الممتلكات غير المشروعة، وتكشف إساءة استخدام الأموال العامة أو أموال المساعدات الإنسانية. فعلى سبيل المثال، أُدين رفعت الأسد بتهم غسل الأموال والتهرّب الضريبي، ما أسفر عن مصادرة أصول تُقدَّر بمئات ملايين اليورو في إسبانيا وفرنسا، رغم أن المصير النهائي لتلك الأموال لا يزال مجهولًا. إن ملاحقة الجرائم الاقتصادية، سواء في الخارج أو داخل سوريا، من شأنها أن تعزّز الشفافية، وتمنع المزيد من تحويل الموارد، وتُقوّي ثقة الجمهور بالمؤسسات في مرحلة ما بعد النزاع. ويمكن إعادة توجيه الأصول المستردة إلى صناديق التعويضات، أو دعم استرداد المساكن والممتلكات، أو تمويل إعادة تأهيل المجتمعات المحلية، بما يربط المساءلة الاقتصادية بمنافع ملموسة للضحايا.

كما يمكن دمج الأدلة التي يتم جمعها في محاكمات جرائم الحرب والفظائع، إذ تُسهم هذه الأدلة في إثبات مسؤولية القيادة وكشف أنماط التواطؤ. ومن خلال إدماج المساءلة الاقتصادية ضمن إطار العدالة الانتقالية، تمتد المساءلة إلى ما هو أبعد من الأفراد المرتكبين للانتهاكات، لتشمل الهياكل الاقتصادية الأوسع التي غذّت العنف، بما يضمن أن تكون عملية إعادة الإعمار عادلة ومنصفة.

 الدوائر المتخصصة بمكافحة الفساد: ضرورة أساسية

إضافةً إلى ملاحقة الانتهاكات السابقة، سيحتاج نظام العدالة في سوريا في مرحلة ما بعد النزاع إلى آليات قادرة على التحقيق في قضايا الفساد الحالية على أعلى المستويات وملاحقتها قضائيًا. غير أن السلطة القضائية القائمة تعاني من تحديات كبيرة على مستوى القدرات القضائية؛ إذ غادر العديد من القضاة المؤهَّلين خلال الحرب أو جرى إقصاؤهم من قبل الحكومة السابقة، كما تدهور التعليم القانوني، وغالبًا ما يفتقر القضاة المتبقّون إلى التدريب على المعايير الدولية ومفاهيم العدالة الانتقالية.

ويُعد إنشاء دوائر متخصصة بمكافحة الفساد ضمن الجهاز القضائي القائم حلًا عمليًا وقريب المدى. وستُعنى هذه الدوائر بقضايا الفساد على المستوى الرفيع، مثل الاختلاس، وتحويل أموال إعادة الإعمار، وسوء استخدام المساعدات، وإساءة استغلال الأصول العامة، والإثراء غير المشروع. ويمكن لهذه الدوائر المتخصصة أن تتطور تدريجيًا لتصبح مؤسسة أكثر استقلالية مع تحسّن القدرات القضائية. وتدعم التجارب الدولية هذا النهج؛ إذ أنشأت دول مثل أوكرانيا وإندونيسيا محاكم متخصصة بمكافحة الفساد للنظر في القضايا المعقّدة التي عجزت المحاكم العادية عن التعامل معها، ما يبيّن أن الهيئات المتخصصة يمكن أن تكون فعّالة في السياقات التي يكون فيها الفساد متجذّرًا ومنهجيًا.

ولضمان المصداقية، ينبغي إنشاء لجنة مستقلة لاختيار القضاة تتولى تدقيق الترشيحات القضائية الجديدة، بما في ذلك التعيينات الخاصة بالدوائر المتخصصة. ويجب أن تضم هذه اللجنة ممثلين عن المجتمع المدني، وأعضاء مؤهلين من الجهاز القضائي الحالي، وخبراء دوليين أو سوريين ذوي خبرة دولية واسعة. كما ينبغي أن يتمتع القضاة العاملون في هذه الدوائر بضمانات الاستقلال الوظيفي، وبتمويل مستقل، وبحماية من التدخلات السياسية.

كما يجب دعم الدوائر المتخصصة بفرق تحقيق متخصصة، وقدرات في مجال التدقيق الجنائي والتحقيقات المالية، وأنظمة آمنة لإدارة القضايا. وفي المرحلة الأولى، يمكن لهذه الدوائر أن تعمل بالتنسيق مع فرق العدالة الانتقالية الأوسع للتحقيق في الجرائم الاقتصادية السابقة، بالتوازي مع بناء قدرتها على ملاحقة قضايا الفساد الجارية.

ومن خلال بناء قدرات متخصصة داخل المؤسسات القائمة، يمكن لسوريا معالجة الفساد بالتوازي مع إعادة بناء مصداقية القضاء واستعادة ثقة الجمهور في نظام العدالة خلال المرحلة الانتقالية.

تعزيز الرقابة المالية العامة في سوريا

يُعد الجهاز المركزي للرقابة المالية الجهة القائمة في سوريا المعنية بالإشراف على الأموال العامة، ومنع الفساد، وضمان المساءلة المالية في جميع الوزارات والجهات التابعة للدولة. وخلال فترة الحكومة السابقة، كان الفساد منظّمًا ومتجذّرًا في قطاعات تمسّ بشكل مباشر سبل عيش المواطنين.

ولكي تمضي عملية إعادة الإعمار على نحو مسؤول، يجب تحويل الجهاز المركزي للرقابة المالية إلى هيئة مستقلة تتبع مباشرةً للبرلمان بدلًا من السلطة التنفيذية، على أن يُعيَّن المراقب العام بقرار من أغلبية برلمانية مؤهَّلة ولمدة محددة. كما ينبغي أن تكون ميزانيتها مكفولة بموجب القانون، وبعيدة عن أي تدخل سياسي، لضمان عدم التلاعب بقرارات التمويل للتأثير على نتائج عملها.

ويجب أن تتمتع الهيئة بعد إصلاحها بصلاحيات استدعاء غير مقيّدة، وبحق الوصول الكامل إلى سجلات جميع الوزارات والمؤسسات العامة، وأي جهة خاصة تتلقى أموالًا مخصّصة لإعادة الإعمار، سواء من الجهات المانحة أو من حملات التمويل الجماعي. كما ينبغي إخضاع جميع المشتريات والعقود العامة التي تتجاوز حدًا ماليًا معيّنًا للتدقيق، وإتاحتها للعموم، بما يشمل الإفصاح الكامل عن معايير إرساء المناقصات، وهويات مقدّمي العروض، والمالكين المستفيدين، ومصادر التمويل. ومن شأن إنشاء بوابة إلكترونية شفافة ومتاحة للجمهور أن يتيح للمجتمع المدني ووسائل الإعلام والمواطنين مراقبة الإنفاق المرتبط بإعادة الإعمار في الوقت الفعلي.

استعادة الممتلكات بعد النزاع

تُعدّ استعادة الممتلكات أحد أكثر التحديات إلحاحًا في مرحلة ما بعد النزاع في سوريا. فقد نزح ملايين السوريين، ودُمّرت منازلهم، وصودرت ممتلكاتهم أو جرى الاستيلاء عليها خلال النزاع. ولا يمكن لأي عملية تعافٍ مستدامة أن تتجاوز هذه الخسائر، إذ إن إعادة المساكن وتسوية النزاعات المرتبطة بها تُعدّ أمرًا محوريًا لإعادة بناء الثقة، والتماسك الاجتماعي، وسيادة القانون. وكان نظام الملكية في سوريا معقّدًا حتى قبل الحرب، إذ جمع بين سندات الملكية الرسمية، والتسويات غير الرسمية، والترتيبات العرفية. وقد زاد النزاع من تعقيد هذه المسائل من خلال الدمار واسع النطاق، والنزوح القسري، والتلاعب بالأدوات القانونية، بما في ذلك المصادرة وإعادة تقسيم المناطق، لتسهيل سلب الملكية.

يجب أن يُقرّ برنامج شامل لاستعادة الممتلكات يراعي الأشكال المتنوعة لحقوق الملكية، بما يشمل الوثائق الرسمية، والحيازة العرفية، والمطالبات الموروثة. كما ينبغي إنشاء آلية محايدة لتسجيل المطالبات، والفصل في النزاعات، وإنفاذ قرارات استعادة الممتلكات، مع ضمان حماية الإجراءات القانونية الواجبة لكلٍّ من المالكين المُهجّرين والشاغلين الحاليين. ويجب أن يوازن البرنامج بين الكفاءة والعدالة، وأن يوفّر سبل انتصاف، مثل العودة، أو التعويض، أو السكن البديل، وأن يشمل مراقبة دولية لمنع الفساد. كما ينبغي إدماج استعادة الممتلكات ضمن إطار أوسع للعدالة الانتقالية، نظرًا لأن سلب الملكية غالبًا ما يتقاطع مع انتهاكات أوسع لحقوق الإنسان.

إن حجم هذا التحدّي هائل. فكثير من السوريين المُهجّرين لم يمتلكوا يومًا سندات ملكية رسمية، كما دُمّرت السجلات، وتعرّض السكان لنزوح متكرر، ما يعقّد عمليات التحقّق والبتّ في المطالبات. وتُبرز النزاعات بين المالكين الأصليين والشاغلين الحاليين الحاجة الملحّة إلى عملية مصمَّمة بعناية، شاملة ومنصفة.

ويتعين على الحكومة السورية الجديدة وضع إطار عمل مفصّل لمعالجة مسألة فقدان الممتلكات في عموم سوريا، يكفل حق الأفراد في العودة بحرية إلى منازلهم الأصلية دون تمييز، ويحدّد التزام الدولة بالمساعدة في عودة اللاجئين والنازحين، وتيسير استعادة الممتلكات أو توفير تعويض عادل بوسائل بديلة عندما يتعذّر الاسترداد. كما ينبغي إلغاء أي تشريعات أو سياسات تعيق حق الفرد في العودة، وسنّ تشريعات مكمّلة تتيح إنشاء هيئة مختصّة باستعادة الممتلكات، تتمتع بالصلاحية والسلطة للبتّ في نزاعات الملكية وتحديد التعويضات المناسبة للضحايا على المستوى الفردي.

تمكين المجتمع المدني، والرقابة المحلية، والشفافية العامة

لا يمكن للمؤسسات الرسمية وحدها أن تضمن المساءلة. إذ يجب منح المجتمع المدني، والمجتمعات المتضرّرة، والمواطنين أدوارًا فاعلة في الرقابة والشفافية والمشاركة. ويتعيّن، بدايةً، تمكين منظمات المجتمع المدني من العمل في سوريا دون تدخل حكومي. ولتحقيق ذلك، ينبغي اعتماد ضمانات قانونية لحماية الصحافة الاستقصائية، وسنّ تشريعات لحماية المبلّغين عن الفساد، وإتاحة دعاوى المصلحة العامة، بما يمكّن الأفراد والمنظمات من كشف الفساد، والطعن في سوء الإدارة، وطلب المراجعة الإدارية أو القضائية.

كما ينبغي إخضاع جميع مشاريع إعادة الإعمار والتطوير الكبرى لمشاورات عامة. ويتوجب إجراء تقييمات للأثر الاجتماعي والاقتصادي، ونشر نتائجها، وتوثيق ملاحظات المجتمعات المحلية. ويجب أن تكون عمليات اتخاذ القرار شفافة وتشاركية وخاضعة للمساءلة أمام المتضرّرين من النزاع. وفقط من خلال مشاركة مدنية فعّالة يمكن لعملية إعادة الإعمار أن تكتسب الشرعية، وتستعيد الثقة الاجتماعية، وتمنع إعادة تشكّل شبكات جديدة من الفساد.

الخلاصة

يتطلّب تحقيق عملية إعادة إعمار عادلة بناء هيكل متكامل للعدالة والرقابة يتّسم بالاستقلالية، والشفافية، والمرونة، ويستفيد من دروس الماضي في سوريا. وينبغي أن يشمل هذا الهيكل إنشاء دوائر متخصصة بمكافحة الفساد، وإصلاح الجهاز الأعلى للرقابة المالية، وإرساء آلية عادلة لاستعادة الممتلكات، إلى جانب إطار تشاركي شامل يضمن دورًا فاعلًا للمجتمع المدني.

لا شكّ أن مسار إعادة الإعمار في سوريا معقّد، لكنه في الوقت ذاته مليء بالفرص. فمن خلال الجمع بين مؤسسات قوية ومشاركة فعّالة من المواطنين، يمكن لسوريا ضمان أن تسهم عملية إعادة الإعمار في تعزيز الحوكمة والمجتمع معًا. وتمثّل هذه الجهود استثمارًا في الثقة، والتماسك الاجتماعي، وسيادة القانون. ومع التخطيط الدقيق، والمشاركة الشاملة، والرقابة الصارمة، يمكن لإعادة الإعمار أن تصبح عملية تحوّل حقيقية، لا تقتصر على إعادة بناء البنية التحتية فحسب، بل تعمل أيضًا على استعادة الحقوق، والكرامة، والثقة لجميع السوريين.

 ________________________________

للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.