1 min read
إهمال الأمم المتحدة القاتل في شمال غرب سوريا: استحقاق تفعيل إجراءات المساءلة

إهمال الأمم المتحدة القاتل في شمال غرب سوريا: استحقاق تفعيل إجراءات المساءلة

مع غروب 5 فبراير/ شباط الماضي، بقيت الحاجة الماسة للحصول على المساعدات الإغاثية هي الشاغل الرئيسي لنحو 4.6 مليون نسمة من سكان مناطق شمال غرب سوريا الواقعة تحت فصائل المعارضة، وبينهم حوالي 3 ملايين نازح شُردوا من ديارهم بفعل المعارك التي تدور رحاها في البلاد.  وفي ظل الحصار الذي تفرضه الحكومة السورية على المنطقة، وعقب سنوات من القصف الجوي العشوائي، أمسى الكثير من المدنيين المقيمين في تلك المناطق محرومين من الحصول على أبسط السلع الأساسية التي اقتصر دخول النزر اليسير منها إلى المنطقة عن طريق معبر باب الهوى منذ 2020 كونه المعبر الحدودي الوحيد المفتوح مع تركيا.  وكان بديهيا بالتالي أن تتضاعف الحاجة إلى جهود الإنقاذ والإغاثة صبيحة اليوم التالي بعد أن ضرب زلزالان مدمران المنطقة.

وعلى الرغم من بعض الإخفاقات، تعززت قدرات الاستجابة للطوارئ في تركيا بفعل وجود مؤسسات حكومية فاعلة، وهيئة إدارة الكوارث والطوارئ (آفاد) فضلا عن الدعم المالي والمادي المقدم من الأمم المتحدة والعشرات من حكومات الدول الأخرى. ولكن في المقابل، نسيالجميع شمال غرب سوريا.  وفي الوقت الذي امتدحفيه وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث، الجهود التي بذلها مكتبه لتنسيق أعمال ما يقرب من خمسة آلاف فريق استجابة لحالات الطوارئ خلال أول 72 ساعة من عمر الكارثة، تجاهل حقيقة مفادها عدم وصول ولو فريق إنقاذ واحد، أو حتى قافلة إغاثة واحدة من الأمم المتحدة إلى عشرات الآلاف في شمال غرب سوريا ممن كانوا تحت الأنقاض، أو ممن كانوا منهمكين في محاولة العثور على مأوى يقيهم برد الشتاء القارس في ظل النزر اليسير من الإمدادات وشح أماكن الإيواء المؤقتة.

وعندما وصلت مساعدات الإغاثة الأممية إلى مناطق شمال غرب سوريا عن طريق معبر باب الهوى في نهاية المطاف، اُحبطتطواقم الاستجابة الأولية المحلية عندما اتضح لها أن المساعدات هي عبارة عن حزم المساعدات الإغاثية المعتادة ولا تشمل معدات الإنقاذ التي كانوا بأمس الحاجة إليها كي يحاولوا إنقاذ العالقين تحت الأنقاض من قبيل مثاقب الحجر المحمولة التي تعمل بالهواء المضغوط، وقاطعات قضبان الحديد ، ومعدات وأجهزة الاستشعار لأغراض البحث والإنقاذ، وكلاب البحث المدربة، وغير ذلك من الأدوات الضرورية جداً.  وجراء نقص المواد، أُجبر أفراد فريق الدفاع المدني السوري على وقف عمليات الإنقاذ في شمال غرب سوريا عقب مرور 108 ساعات فقط.  وأما في تركيا، فكفلت المعدات المتوفرة بشكل كافٍ الاستمرار بانتشال الناجين من تحت الأنقاض حتى بعد مرور 13 يوماً على وقوع سلسلة الهزات الأولى.

وبالإضافة إلى ذلك، تُرك أفراد فرق الاستجابة المحلية في شمال سوريا وحدهم لمحاولة تعبئة أي إمكانات واردة في المنطقة التي تعاني أصلا من نقص شديد وحاد، بينما كان غريفيث منهمكا في إجراء لقاءات موسعة مع الوزراء الأتراك، وحريصاً على تعبئة الفرق التابعة لنظام الأمم المتحدة لتقييم الكوارث والتنسيق، ونشرها في تركيا والمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية في سوريا.  وألقى مسؤولو الأمم المتحدة باللائمة على عدم صلاحية الطريق المؤدي إلى معبر باب الهوى، وتسببه بتأخر وصول قوافل الإغاثة بينما استمر نقل جثث السوريين الذين قضوا نحبهم تحت أنقاض المباني في تركيا بسلاسة عبر الحدود من دون عائق على ما يبدو! وشدد مسؤولو الأمم المتحدة أيضاً على أهمية التفاوض المتأني من أجل فتح معبر حدودي بديل بينما تُرك الآلاف تحت الأنقاض بلا حول ولا قوة في هذه الأثناء.  كما أن قيام أطراف أخرى في النزاع بعرقلة إيصال المساعدات الإغاثية، واعتذارغريفيث لاحقاً عن أوجه القصور التي شابت عملية الإغاثة، لا يعفي الأمم المتحدة من مسؤوليتها عن الأخطاء المشينة التي كان ثمنها عدداً لا يُحصى من الأرواح.  وبالنسبة لأفراد الدفاع المدني والكثير من قاطني مناطق شمال غرب سوريا، فلقد سبق السيف العذل، وكانت استجابة الأمم المتحدة غير كافية وجاءت بعد فوات الأوان.

وبالإضافة إلى مسؤولية مكتب منسق شؤون الإغاثة في حالات الطوارئ عن التقاعس الحاصل في إرسال مساعدات الإنقاذ والإغاثة العاجلة إلى شمال غرب سوريا، تقع المسؤولية أيضا على مكتب الأمم المتحدة للشؤون القانونية الذي يترأسه وكيل الأمين العام للشؤون القانونية والمستشار القانوني للأمم المتحدة السيد ميغيل دي سيربا سواريز.  وعلى النقيض من الرأي القانوني الذي يجيز مساندة إيصال المساعدات الإغاثية عبر الحدود، رفض مكتب الشؤون القانونية أن يجيز العمليات الإنسانية قبل الحصول على موافقة الحكومة السورية، أو استصدار قرار بهذا الخصوص من مجلس الأمن.  وسبق لمجموعة مرموقة من فقهاء القانون أن ساقوا حججاً قانونية دامغة في 2014 تدفع باتجاه مشروعية العمليات الإنسانية عبر الحدود وعدم مخالفتها للأحكام القانونية، معربين عن أسفهم في الوقت نفسه إزاء الإفراط في الحذر في تأويل أحكام القانون الدولي الإنساني. كما نُشرت دراسة تحاجج مجدداً لصالح مشروعية العمليات الإنسانية العابرة للحدود قبل أسابيع فقط من وقوع الزلزال، وصدر تقرير معمق ومستفيض بهذا الخصوص بتكليف من مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة ذاتها.

وأخبرت مصادر ديبلوماسية المركز السوري للعدالة والمساءلة أن عدداً من ممثلي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قد فاتح مكتب الشؤون القانونية خلال الأيام التي عقبت الزلزال بشأن استصدار قرار من المكتب يجيز تقديم المساعدات إلى السوريين في منطقة شمال غرب سوريا. وعلى الرغم من الطرح القوي الذي ساقه ممثلو تلك الدول، رفض مكتب الشؤون القانونية أن يصدر رأيه القانوني بهذا الخصوص.  واستمر عوضا عن ذلك نهج الأمم المتحدة القائم على "مقاربة الديبلوماسية السرية أو الهادئة" بزعم تفادي أن "تصبح المساعدات موضوعا مسيسا أكثر وأكثر".

وجادلت الحكومة السورية وحليفتاها في مجلس الأمن، الصين وروسيا، وزعمت أن عمليات الإغاثة عبر الحدود من دون موافقة الحكومة تشكل انتهاكاً للسيادة الوطنية لسوريا. ولكن سبق لمحكمة العدل الدولية وأن أوضحت أن توفير الإغاثة الإنسانية لأشخاص داخل بلد آخر لا يمكن اعتباره تدخلاً غير مشروع بصرف النظر عن انتماءات أولئك الأشخاص أو أهدافهم السياسية لا سيما عقب وقوع كارثة إنسانية من قبيل حصول زلزال على سبيل المثال.  لا وبل ظلت المشروعية القانونية للعملية والتداعيات الجيوسياسية لعملية استجابة أكبر حجما تشكل الشغل الشاغل للديبلوماسيين في الأمم المتحدة ممن كانوا ينظرون في إمكانية تنفيذ عملية عبر الحدود.  وفي ضوء الثمن الباهظ للتلكؤ والتأخير، كان من الأجدر بمسؤولي الأمم المتحدة أن يضعوا مثل هذه الاعتبارات جانباً، وأن يباشروا على عجل بتوفير الإغاثة والمساعدات عبر الحدود.  وكان سكان شمال غرب سوريا بحاجة فعلية إلى مساندة فورية عبر الحدود، وهم يستحقون تلك المساعدة بالتأكيد.  لذا، لا بد من محاسبة المسؤولين عن الفشل في تلبية تلك الاحتياجات سواء أكان التقصير ناجماً عن الإهمال أم عن سابق إصرار.

إن ثمن التغاضي عن تلك الأخطاء واضح، وينطوي على فقدان أعداد أخرى لا تحصى من أرواح الأبرياء.  وسبق وأن كان لحالات الإهمال من طرف الأمم المتحدة تبعات قاتلة في سوريا.  وفي 2016، كان مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية متواطئا في تبييض صفحة الحكومة السورية عندما وافق على إدخال تعديلات على خطة الاستجابة الإنسانية 2016 نزولا عند رغبة الحكومة السورية في أن ترسم صورة إيجابية لنفسها.  وفي 2020، أعد المركز السوري للعدالة والمساءلة تقريراً حول قيام الأمم المتحدة بالإفصاح عما بحوزتها من معلومات عن إحداثيات مواقع المشافي التي جرى استهدافها بقصف جوي لاحقاً.  وشكل الأمين العام للأمم المتحدة مجلساً للتحقيق داخلياً في الموضوع، ولكن تقاعست الأمم المتحدة عن تحمل المسؤولية في نهاية المطاف على دورها في تعريض حياة المدنيين للخطر. وعلى نحو مشابه، ثمة الكثير من الحالات المشينة في مناطق أخرى من قبيل هاييتي التي ثبت من خلالها أن جهود العدالة لم تؤتِ أكلها عقب مرور 10 سنوات على ضلوع الأمم المتحدة بشكل مباشر في انتشار وباء الكوليرا، ويظهر ذلك أن النظام السائد حالياً قاصر عن محاسبة الأمم المتحدة على إخفاقاتها المتكررة.

وفي الوقت الذي ثبت فيه قصور إجراءات المساءلة الصادرة عن الأمم المتحدة في الماضي، ثمة فرصة سانحة أمام المنظمة كي تتحرك الآن وتصوب أوضاعها من خلال قبولها بتحمل المسؤولية عن التقاعس في تنفيذ المهام الموكلة إليها.  وفي ضوء هذه الإخفاقات وغيرها من حالات الفشل الأممية السابقة، يدعو المركز السوري للعدالة والمساءلة إلى إجراء تحقيق داخلي فعال لمعرفة أسباب تأخر جهود الإنقاذ والإغاثة الأممية عقب الزلزال.  وينبغي لأهم الدول الأعضاء لا سيما الولايات المتحدة والبلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تمارس الضغط على الأمين العام للأمم المتحدة كي يسلك مسارا تصحيحياً يكفل إصلاح الضرر الذي لحق بصورة الأمم المتحدة، ويعيد ثقة السوريين بها بعد أن فُقدت منذ أمد بعيد.

وينبغي للأمم المتحدة أن تنشئ هيئة للتحقيق الداخلي في حالات الفشل والإخفاق، بما في ذلك الإجابة على الأسئلة التالية: 1) لماذا لم يجز مكتب المستشار القانوني تنفيذ عملية إنسانية عبر الحدود على الرغم من وقوع كارثة طبيعية وفي ظل عدم صدور قرار عن مجلس الأمن بهذا الخصوص؟  2) لماذا لم يبادر أعضاء مجلس الأمن من باب الأولوية إلى إدراج الوضع في شمال غرب سوريا على جدول أعماله بينما قرروا الخوض في المسألة بعد مرور ما بين 5 إلى 7 أيام؟  3) لماذا لم يتم تخويل مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، أو لماذا لم يعتبر المكتب نفسه مخولا بتنفيذ عملية إنسانية عبر الحدود؟ ولماذا لم يتم استخدام معبر باب الهوى الذي وافق عليه مجلس الأمن أصلا؟  كما ينبغي لهيئة التحقيق أن يوعز بإعداد تقرير كامل ونشره من أجل البت نهائياً في مسألة توفير المساعدات عبر الحدود وما إذا كانت بحاجة إلى استصدار قرار من مجلس الأمن بهذا الخصوص أم لا.

وحتى مع إنشاء هيئة التحقيق الداخلي، فليس ثمة آليات داخلية واضحة لمحاسبة موظفي الأمم المتحدة.  ولهذا السبب، يطالب المركز السوري للعدالة والمساءلة كلاً من منسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث، ووكيل الأمين العام للشؤون القانونية، ميغيل دي سيربا سواريز أن يثبتا أن الاعتذارات المقدمة ليست مجرد كلمات جوفاء، وأن يقدما استقالتيهما إقراراً بخذلان الأمم المتحدة لسكان شمال غرب سوريا.  كما ينبغي لهيئة التحقيق أن توصي باستحداث إجراءات فعلية لتحقيق المساءلة بما في ذلك إمكانية الاستغناء عن خدمات الموظفين، وتعويض الضحايا.  كما يتعين على الأمم المتحدة عدم الاكتفاء بمجرد الإقرار بأخطائها، ولكن أن تتخذ خطوات تبين أنها تتحمل كامل المسؤولية عما حصل، وعما كان ينبغي أن يحصل أعقاب الزلزال الأخير ولم يحصل بسبب تقاعسها.

________________________________

للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.