غَيْض من ماء، فَيْض من حرب: نقص القمح في سوريا
يشكل كل من الجفاف، والآثار الاقتصادية الناشئة عن عقد كامل من الحرب، والاجتياح الروسي لأوكرانيا وصفة تضمن انعدام الأمن الغذائي في سوريا. حيث يواجه السوريون في جميع أنحاء البلاد أزمة إنسانية متفاقمة، خاصة أن 90٪ من السوريين يعيشون تحت خط الفقر ووطأة انخفاض قيمة العملة وارتفاع الأسعار. تتفاقم آثار ارتفاع تكاليف الغذاء مع انخفاض إنتاج القمح، وتناقص مخزون سوريا من القمح المستورد، وتراجع قدرة روسيا على توفير القمح والمعونات. حيث أشارت التوقعات بداية 2022، والتي أخذت بعين الاعتبار الإنتاج المحلي والواردات، أن سوريا ستعاني نقصا بمقدار مليونَي طن من القمح. ويبدو أن الخيارات الآخذة في الانحسار تنذر بمجاعة وكارثة إنسانية تؤثر على حوالي 12 مليون سوري، أي نصف سكان البلاد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
الجفاف
أنهكت ظروف الجفاف التي شهدتها البلاد خلال العقد الماضي المشهد الزراعي السوري، حيث تعتمد السلة الغذائية السورية في شمال شرق البلاد على المياه من نهر الفرات، ولكن في 2021، انخفض منسوب مياه النهر إلى أقل مستوى مسجل حتى الآن، معرضا أكثر من 2,000 فدان من الأراضي الزراعية المروية للخطر. كما تفاقمت أزمة إنتاج القمح أكثر بسبب الحرائق وانخفاض نسبة هطول الأمطار. ففي الحسكة، انخفض إنتاج المحاصيل في 2021 بنسبة 95٪ مقارنة بعام 2020. وأسفر شح مياه الأمطار والري والذي تزامن مع ارتفاع كلفة البذور والطاقة والأسمدة، عن تنبؤات تشير إلى أن إنتاج القمح لعام 2022 سيكون أقل من محصول 2021 الذي كان أصلا مخيبا للآمال. وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، لم يبذر العديد من المزارعين في المنطقة بذار القمح في موسم 2021، ليقينهم من عدم الجدوى الاقتصادية لزراعته وحصاده في 2022.
وفيما يمكن أن يُعزى الانخفاض في إنتاج القمح جزئيا إلى التغير المناخي، إلا أن جزءا كبيرا من هذه الأزمة هو من صنع الإنسان. فتاريخيا، لم تفلح سوريا وجيرانها في التوصل إلى صيغة منصفة للتشارك بمصادر المياه. وخلال السنوات الأخيرة، استخدمت أطراف النزاع المياه كسلاح. حيث قطعت الحكومة السورية المياه عن ملايين المدنيين، وحجب تنظيم داعش المياه بشكل متكرر عن السكان الواقعين تحت حكمه، واتُهمت تركيا بإيقاف عمليات الضخ من محطة علوك للمياه. وفي كانون الثاني/يناير 2022، قصفت روسيا محطة المياه في إدلب.
الاقتصاد
انتشرت في 2020 صور لسوريين اضطروا إلى الانتظار في ممرات قفصية للحصول على الخبز، ومنذ ذلك الوقت والاقتصاد السوري آخذ في الانحدار. وفي الفترة ما بين 2021 وكانون الثاني/يناير 2022 انخفضت قيمة الليرة السورية بمقدار 19٪ وتدنت أجور العمالة غير الماهرة أكثر من ذلك. تصل قيمة السلة الغذائية الأساسية، وفق تقديرات برنامج الأغذية العالمي، إلى 231,004 ليرة سورية مقارنة بحوالي 76,000 ليرة سورية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، مُلوّحًا بتضخم هائل. بدأت الحكومة السورية بإيقاف الدعم عن البضائع والخدمات الإنسانية لمئات الأشخاص، ومن دون دعم وأجور تضاهي ثمن البضائع والخدمات، سيواجه العديد من الناس مجاعة.
بَيد أن الدعم لا يقوم إلا بدور ضئيل في مكافحة أزمة أكبر تلوح في الأفق. فسوريا لا تملك قمحا كافيا لإطعام سكانها، وبالرغم من أن الحكومة رفعت سعر شراء القمح لتُحفز المزارعين على الإنتاج، إلا أنها لم تتمكن من تدارك العجز الموجود. ولملء الفجوة، لجأت الحكومة إلى الاستيراد، ولكن العقوبات المفروضة على الحكومة السورية تسببت في عزلها، وعجزٍ في احتياطي العملة الصعبة لديها، وحصر الخيارات المتاحة لها لشراء القمح. ومع بدء نفاد احتياطي العملة الصعبة لدى سوريا، أوقفت الحكومة استيراد عدد من البضائع، التي تشمل مواد غذائية، لمدة ستة أشهر في محاولة لإعادة توجيه الجهود نحو استيراد القمح.
وتواجه روسيا وبيلاروسيا، وهما الموردان الأساسيان للقمح لسوريا المزيد من العقوبات الاقتصادية، حيث قطعت روسيا بالفعل صادرتها من القمح لعدة بلدان. وفي الوقت الذي وقفت فيه سوريا إلى جانب روسيا سياسيا، أوقفت روسيا العمل باتفاقية تم توقيعها في نهاية 2021 لتصدير مليون طن من القمح لسوريا بسبب ارتفاع أسعار القمح عالميا، وتُركت سوريا لتتفاوض على سعر أفضل. ومنذ ذلك الوقت، قطع الاجتياح الروسي لأوكرانيا الصادرات الأوكرانية من القمح مما تسبب في انخفاض الكميات المتوفرة عالميا وبالتالي ارتفاع الأسعار، كما أدى إلى فرض المزيد من العقوبات على الأموال الروسية. ومن هنا أصبحت قدرة روسيا على دعم سوريا في أزمة القمح هذه موضع تساؤل. ومع الارتفاع الحالي لأسعار القمح والوقود في العالم، يتوجب على سوريا شراء ما يكفي من القمح لتلبية الطلب بغض النظر عن استنزاف قدراتها المالية وارتفاع الأسعار.
لا يزال تقديم المساعدة الإنسانية لسوريا معقدا بسبب خطر تحويل الحكومة السورية للمساعدات ومنع الروس وصولها عبر الحدود إلى المناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة السورية. ويبقى المعبر الوحيد المفتوح لتلك المناطق هو معبر باب الهوى والمهدد بالإغلاق في تموز/يوليو 2022. كانت مداولات تجديد فتح المعبر لسنة 2021 شائكة، ولم تكن لتنجح في النهاية لولا الدبلوماسية الأمريكية مع روسيا. ولكن وفي إثر الاجتياح الروسي لأوكرانيا، تعثرت الدبلوماسية الأمريكية – الروسية تماما. يعتمد السوريون في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة السورية على هذه المساعدات الإنسانية، الأمر الذي يجعل آلية عمل هذا المعبر أمرا في غاية الأهمية خاصة في ظل النقص الحالي في كميات القمح والمجاعة المرتقبة.
التوصيات
ينبغي أن تكون أزمة القمح محورا رئيسيا لمؤتمر الجهات المانحة الوشيك عقده، بروكسل 6. علينا كذلك تعلم الدروس من خيبة الأمل التي أصابتنا في مؤتمر بروكسل 5، حيث يتعيّن على الجهات المانحة في مؤتمر بروكسل 6 أن تنظر في تجميد العقوبات على المعاملات المتعلقة بالقمح والمساعدات لتيسير وحماية العمل الإنساني. وينبغي على المانحين النظر في تقديم مساعدات مباشرة من القمح من خلال طرف محايد إلى كافة أرجاء سوريا، متضمنة المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. وإن توفير القمح بدلا من النقد يمكن أن يقلل من مخاطر تحويل المساعدات. وفضلا عن ذلك، يجب أن يتم الضغط على روسيا لتسمح بالمراقبة الدولية على توصيل المساعدات الإنسانية من خلال الحكومة السورية لضمان عدم تسريبها لجهات أخرى. وهناك حاجة للمزيد من التنسيق بين المجتمع المدني والجهات المانحة، وبين آليات العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والدول الأوروبية لتوضيح الاستثناءات الممنوحة للمساعدات الإنسانية لضمان ألا يستمر السوريون العاديون في دفع ثمن أفعال الحكومة السورية.
وفي إطار الجهود الإنسانية الرامية إلى توفير الإغاثة الفورية للملايين الذين يواجهون المجاعة، فلابد من الضغط على روسيا علنا لتقديم القمح كمساعدات. وبصفتها طرفًا في النزاع، فإن روسيا تتقاسم المسؤولية عن الأزمة المتفاقمة. لقد استغلت الحكومة الروسية والأقلية الحاكمة أزمتي القمح واحتياطي العملة الصعبة في سوريا للتملص من العقوبات وفرض رسوم أعلى من أسعار السوق على الحكومة. على الولايات المتحدة والجهات المانحة الأخرى النظر في تقديم المساعدات للمزارعين للتخفيف من تكاليف زراعة وحصاد القمح، والتي تشمل مشاريع الري والمساعدات المالية. ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل مع قوات سوريا الديمقراطية لتطوير سياسات ولوائح بيئية تحمي الأراضي الزراعية وتضمن حصول المزارعين على سعر سوق عادل لجني الأرباح. كما يجب على تركيا زيادة المياه إلى سوريا وضمان ألا تتعرض محطة علوك للمياه لانقطاعات متواصلة عن العمل.
ولذا يجب أن يستمر مجلس الأمن في الضغط على روسيا لتجديد آلية عمل معبر باب الهوى وإعادة فتح جميع المعابر الحدودية، وعلى الأمم المتحدة في ذات الوقت أن تعمل مع المنظمات الإنسانية لوضع خطة عمل في حال تم إغلاق هذا المعبر. يجب أن تركز المحادثات الإنسانية على الخطوات العملية اللازمة لضمان استمرار وصول المساعدات الإنسانية المحايدة وغير المنحازة، والتي قد تصبح شريان الحياة الوحيد للعديد من السوريين.
__________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.