1 min read
داخل محاكمة دبّاغ #1: البيان الافتتاحي لرئيس المحكمة القاضي رافيو

داخل محاكمة دبّاغ #1: البيان الافتتاحي لرئيس المحكمة القاضي رافيو

محاكمة علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود

أو "محاكمة دباغ"

محكمة الاستئناف – باريس، فرنسا

تاريخ الجلسة: 21 أيار/مايو 2024

 تحذير: تتضمن بعض الشهادات أوصافًا للتعذيب.

يُرجى ملاحظة أن هذا التقرير ليس نسخة حرفية لمحضر المحاكمة؛ بل مجرّد ملخّص غير رسميّ لجلسات المحاكمة.

في هذا التقرير، [المعلومات الموجودة بين قوسين معقوفين هي ملاحظات من مراقبينا في المحكمة] و"المعلومات الواردة بين علامتي اقتباس هي أقوال أدلى بها الشهود أو القضاة أو المحامون". كما حُجِبت أسماء الشهود والمعلومات التي قد تحدّد هويتهم.

[ملحوظة: يواظب المركز السوري للعدالة والمساءلة على تقديم موجز للإجراءات مع حجب بعض التفاصيل حمايةً لخصوصية الشهود وصَونًا لنزاهة المحاكمة.]

أبرز النقاط: يقدّم التقرير الأول لمراقبة المحاكمة الخاص بالمركز السوري للعدالة والمساءلة تفاصيل اليوم الأول من محاكمة علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود في باريس بفرنسا. ألقى رئيس المحكمة في يوم المحاكمة هذا بيانًا افتتاحيًا، وأدلى ثلاثة شهود بشهاداتهم بصفتهم خبراء في الموضوع. إذ كان اثنان منهم أستاذين في الجامعة وأجريا أبحاثًا تتعلق بسوريا، وكانت الشاهدة الثالث صحفية كتبت كتابًا عن ملف قيصر.

 يوم المحاكمة الأول – 21 أيار/مايو 2024

البيان الافتتاحي لرئيس المحكمة القاضي رافيو وتلاوة لائحة الاتهام

[فات مراقبة المحاكمة أول دقيقتين أو ثلاث من المحاكمة عندما بدأ القاضي رافيو بتقديم جدول المحاكمة]

سَرَد القاضي رافيو أسماء الشهود وشدّد على أنه لا يجوز لهم حضور الجلسة قبل الإدلاء بشهاداتهم. وأكد على حجز غرفة خاصة للشهود. وأوضح أنه سيجري الاستماع إلى الأطراف المدنية وإلى الشاهد مازن درويش يوم الخميس بعد الظهر. سأل القاضي رافيو عما إذا كان الجدول يناسب المدعي العام والأطراف المدنية.

لخّص القاضي رافيو بعد ذلك الوقائع كما وردت في لائحة الاتهام التي أعدها قضاة التحقيق، والتي أصدروها في تاريخ 29 آذار/مارس، 2023. وأوضح أن لائحة الاتهام لا تعكس رأيه الشخصي.

في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2015، استمع المكتب المركزي لمكافحة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الكراهية (OCLCH) [مكتب الشرطة الفرنسية للتحقيقات في الجرائم الدولية] إلى السيد عبيدة دبّاغ، وهو مواطن فرنسي من أصل سوري، بصفته جزءًا من تحقيق أولي، بعد الاستفادة من ملف مكوّن من صور جرائم ارتكبها نظام بشار الأسد، في إشارة إلى ملف قيصر. ذكر عبيدة دبّاغ حالة شقيقه وابن شقيقه اللذين اختفيا في 3 و4 تشرين الثاني/نوفمبر 2013. وفي 5 تشرين الأول/أكتوبر 2015، فُتِح تحقيق أولي [أجراه المدعي العام] بتهم الاختفاء القسري، تبعه في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2016 فَتْحُ تحقيق قضائي [أجراه قاضيا تحقيق] ضد X بتهم التعذيب والتواطؤ في التعذيب والاختفاء القسري والتواطؤ في الاختفاء القسري، إضافة إلى جرائم ضد الإنسانية ارتُكِبت في سوريا منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2013.

[تحدث رئيس المحكمة القاضي رافيو ببطء لتسهيل عملية الترجمة الشفوية]

انضمت كل من الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان (LDH) والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH) والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير (SCM) إلى القضية بصفتهم أطرافًا مدنية. وفي 6 أيلول/سبتمبر 2018، أرسلت الأطراف المدنية شهادات وفاة، أُعلِن فيها عن وفاة مازن وباتريك في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، و25 كانون الثاني/يناير 2014، على التوالي. وأُصدِرت شهادات الوفاة في 1 آب/أغسطس 2018. إضافة إلى ذلك، قدّم عبيدة دبّاغ معلومات تتعلق بواقعة طرد عائلة دبّاغ من منزلهم في دمشق.

وقد أدى ذلك إلى إضافة تهم تكميلية من القتل غير المتعمد والتواطؤ في هذه الجرائم، والإضرار المتعمد للحياة التي تشكل جرائم ضد الإنسانية، والتواطؤ في الاختفاء القسري بصفتها جريمة ضد الإنسانية ارتُكبت بين تشرين الثاني/نوفمبر 2013 وحتى يومنا هذا، فضلًا عن جرائم الحرب المتمثلة بالابتزاز وإخفاء [تمويه] الابتزاز.

خلال التحقيق القضائي، جُمِعَت مجموعة واسعة من المعلومات:

  • وثائق مختلفة من منظمات غير حكومية وجمعيات (لجنة العدالة الدولية والمساءلة (CIJA) والآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) ولجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية (COI) والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير (SCM) والشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR) ومقرها المملكة المتحدة وما إلى ذلك)؛
    • من بين هذه الوثائق، استلم قضاة التحقيق ملف قيصر وتقريرًا أعدّه خبير ألماني حول الموضوع [تقرير روتشيلد].
  • شهادات من دبلوماسيين وصحفيين ومواطنين سوريين وضحايا ومسؤولين سابقين في النظام انشقوا وأدلوا بشهاداتهم.

خلفية القضية

أصبحت سوريا بعد استقلالها في عام 1946 نظامًا جمهوريًا برلمانيًا. وتبع ذلك انقلاب أدّى إلى منح حافظ الأسد حق الوصول إلى الرئاسة. وخلفه بشار الأسد عام 2000. ووفقًا لتقرير صادر عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية بتاريخ 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، فقد بلغ عدد سكان سوريا 22 مليون نسمة، منهم 74% سُنّة و10% علويون و3% شيعة غير علويين و10% مسيحيون و3% دروز. وكانت عائلة الأسد تنتمي إلى الأقلية العلوية.

وفي أوائل شهر آذار/مارس 2011، أدت حركة احتجاجية إلى قمع دموي واعتقالات تعسفية على يد النظام. وكانت أجهزة المخابرات منتشرة في كل مكان في المجتمع وأدّت دورًا رئيسيًا في حملة القمع هذه. وكانت جميع الأجهزة مرتبطة بمكتب الأمن الوطني، المرتبط مباشرة بالرئيس.

كانت هناك أربعة أجهزة مخابرات منفصلة. ووفقًا لقاضي التحقيق، فقد كانت جميع هذه الأجهزة متورطة بانتظام في الانتهاكات (الاعتقالات والاختفاء القسري والتعذيب وما إلى ذلك). ووفقًا لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد اعتُقِل 215 ألف مواطن سوري واختفى 80 ألف مواطن. واعتُبر هذا دليلًا على ممارسات مُؤسّسيّة ومنظمة. ونُفِّذَت أيضًا سياسة مصادرة ممتلكات السوريين المفقودين ونهبها. وفيما يتعلق بالمفقودين، لم تُسلّم الجثث إلى العائلات وبدأت عملية إصدار شهادات الوفاة لإخفاء ظروف الوفاة ومكانها. ومنذ أيار/مايو 2018، أُرسِلت المئات من شهادات الوفاة هذه إلى العائلات. وتضمّنت أسبابًا مزعومة للوفاة، مثل التعرّض لنوبة قلبية وتوقف التنفس.

تحمل عائلة دبّاغ الجنسية الفرنسية السورية. وكانت والدة مازن دبّاغ تحمل الجنسية الفرنسية. وكان لمازن ثلاثة أشقاء، عبيدة وFM5 اللذان يعيشان في فرنسا، و FM7 الذي يعيش في ألمانيا. وكان والدهم، صالح، يشغل مناصب في الحكومة السورية. وكان مازن متزوجًا من FM1، وأنجب منها طفلين، ابنًا يدعى باتريك عبد القادر وابنة تدعى FM2.

إن عبيدة دبّاغ، أحد المدعين في القضية، متزوج من حنان. ووفقًا للمعلومات القضائية، فقد درس مازن في البعثة العلمانية الفرنسية حتى حصل على شهادة البكالوريا وبعد ذلك درس الأدب الفرنسي. وعاش في دبي لمدة خمس سنوات، حيث عمل في مجال تقديم الطعام بالمطارات. وعند عودته إلى سوريا، عمل في المدرسة الفرنسية في دمشق بصفته مستشارًا ثم عمل مستشارَ تعليم رئيسيًّا. وكان ابنه طالبًا في السنة الثانية يدرس علم النفس.

اعتُقِل باتريك في وقت متأخر من مساء يوم 3 تشرين الثاني/نوفمبر، واعتُقِل والده في اليوم التالي. واعتقل صِهره FM3 في ذلك اليوم أيضًا وأُطلِق سراحه بعد يومين. وقد أظهرت شهادة FM3 أنه نُقِل هو ومازن إلى المزة، بالقرب من المطار. وروى FM3 أنهما بقيا واقفَين لأكثر من 14 ساعة ويداهما مقيدتان خلف ظهريهما ومطأطأي الرأس. ثم اجتمع الرجال مجددًا، وأكد الابن لوالده أنه تعرّض للتعذيب. ثم فُصِل الرجال الثلاثة عن بعضهم في 5 تشرين الثاني/نوفمبر. وأُطلق سراح FM3 في 6 تشرين الثاني/نوفمبر، 2013.

أفاد عبيدة أن شقيقة زوجته جاءت إلى دمشق لمحاولة تأمين إطلاق سراحهما. إذ دفعت 15 ألف دولار لوسيط بهدف تأمين نقلهما، وأبلغها هذا الشخص بعد ذلك أن مازن وباتريك قد توفيا بعد أربعة أشهر من اعتقالهما، أي في آذار/مارس 2014. ولم يكن الوسيط يعرف سبب اعتقالهما. وكان FM5، شقيق مازن، يعتقد أن سبب اعتقالهما هو مشاركته في مخيم للاجئين الفلسطينيين.

في 6 أيلول/سبتمبر، 2018، أرسلت الأطراف المدنية شهادات وفاة إلى قاضي التحقيق. وقد حصل عبيدة دبّاغ على هذه المعلومات من محامٍ في دمشق. ومن المفترض أن تاريخي وفاتهما كانا 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 بالنسبة لمازن، و21 كانون الثاني/يناير 2014 بالنسبة لباتريك عبد القادر. وقد استُلِمت هذه الوثائق في إطار حملة واسعة النطاق لإرسال شهادات وفاة. ولم يُذكر فيها سبب الوفاة أو مكانها.

ركّز القاضي رافيو بعد ذلك على إجراءات مصادرة الممتلكات. ففي 6 تموز/يوليو، 2018، خلال جلسة استماع جديدة، أوضح عبيدة دبّاغ أن عبد السلام محمود قد استولى على منزل شقيقه مازن في تموز/يوليو 2016 للعيش فيه. وأوضح أنه كانت لكل واحد من الإخوة الأربعة حصة في هذا المنزل. وقد صودرت حصة مازن بقرار قضائي لصالح إدارة المخابرات الجوية. إذ طُلب من الزوجة والابنة مغادرة المنزل في نهاية عام 2016.

في 26 أيلول/سبتمبر، 2018، سلَّمَ محامي عبيدة وثائق تتعلق بالإخلاء من هذا العقار: وهي عقد إيجار من مركز المالية العامة في دمشق لصالح إدارة المخابرات الجوية، والتي حدّدت الإيجار الخاص بالسكن بقيمة 30 يورو سنويًا، خلال فترة 5 سنوات من 26 تموز/يوليو، 2016 إلى 26 تموز/يوليو، 2021. تضمّنت هذه الوثائق أيضًا صورة لإخطار الإخلاء لصالح وزارة المالية السورية الذي عُلّق على المنزل بعد مغادرة الزوجة والابنة.

رفضت FM1 و FM2 دعوة للمثول أمام القاضي الفرنسي خوفًا من الانتقام.

حدّد قضاة التحقيق أنّ على إدارة المخابرات الجوية مسؤولية في حالات الاختفاء هذه، والتي وُثِّقَت بفضل عدة عناصر، من بينها التقارير التفصيلية للمنظمات المذكورة أعلاه. وكان سجن المزة -الذي يمكن أن يستوعب ما يصل إلى 15,000 سجين- تحت سلطة إدارة المخابرات الجوية، وكانت ممارسات التعذيب فيه تجري بطريقة منهجية.

حدّد قضاة التحقيق أيضًا تسلسلًا هرميًا يمكن تحميله المسؤولية. إذ كان علي مملوك رئيسًا للمخابرات العامة وأمن الدولة. وُلد في حي العمارة، أحد أحياء دمشق، في 19 شباط/فبراير، 1946 وأصبح رئيسًا لمكتب الأمن الوطني، وهي أعلى سلطة، في تموز/يوليو 2012. وظل رئيسًا لهذا المكتب حتى حزيران/يونيو 2019 على الأقل. ويُعد أحد المنفّذين الرئيسيين لسياسات الرئاسة وقراراتها لقمع المعارضة.

كان جميل حسن مديرًا لإدارة المخابرات الجوية. وهو علوي ينحدر من غربي محافظة حمص. بدأ حياته المهنية في المخابرات الجوية. إذ كان يعمل مساعدًا خاصًا لعلي مملوك، وفي عام 2009 أصبح مديرًا لإدارة المخابرات الجوية وبقي في هذا المنصب حتى عام 2019. وكان يدير هذا القسم في الوقت الذي اعتُقل فيه باتريك ومازن، وكذلك عندما توفيا. وذكرت شهادات كثيرة أنه كان موجودًا في المزة.

شغل عبد السلام محمود منصب مدير فرع التحقيقات في إدارة المخابرات الجوية قبل آذار/مارس 2011 وحتى تشرين الثاني/نوفمبر 2012 على الأقل. ولم يكن هناك ما يشير إلى أنه ترك منصبه بعد هذا التاريخ. وقد ذُكِر اسمه في مرسوم فرنسي مؤرخ في 7 حزيران/يونيو، 2018 يُطبق نظام العقوبات [على الشخصيات السورية] وحدّده بأنه استخدم وسيطًا لابتزاز 15 ألف دولار من خلال تقديم معلومات لزوجة مازن. وبحسب ما ورد، فقد كان لا يزال يعيش في منزل عائلة دبّاغ. وقد نصّ آخر عقد للمنزل على أن المقيم ينبغي أن يكون عضوًا في المخابرات الجوية. لذلك، من المؤكد أنه كان عضوًا في هذه الإدارة حتى عام 2016 على الأقل. وذكر اثنان من الشهود الثلاثة الذين قدمتهم لجنة العدالة الدولية والمساءلة أن عبد السلام محمود حقّق معهما.

صدرت ثلاث مذكرات اعتقال في 19 آذار/مارس، 2023، وانتهت الإشعارات العدلية في 31 آذار/مارس، 2023.

المسؤولية الجنائية التي حددها قضاة التحقيق

كانت هناك توثيقات كثيرة [لإثبات المسؤولية الجنائية للمتهم]، مثل شهادات الشهود. وأكدت كل من الآلية الدولية المحايدة والمستقلة والعديد من المنظمات غير الحكومية والصحفيين أيضًا مسؤولية كبار الشخصيات، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية السورية ورؤساء جميع أجهزة المخابرات تحت قيادته.

برفضه سياسة القمع الشامل للمظاهرات والمعارضين، ساهم علي مملوك في ارتكاب جرائم دولية منذ عام 2011. وكان مدير مكتب الأمن الوطني وقت وقوع الاعتقالات والوفيات. وفي ذلك الوقت، كان هو القائد الأعلى لأجهزة المخابرات، وكان رئيسه المباشر بشار الأسد. وأظهرت الوثائق أنه كان على دراية كاملة بالمدنيين الذين وصفهم بالإرهابيين، وأنه كان رجلًا ميدانيًا، يتنقل بين الفروع المختلفة.

كان جميل حسن مديرًا لإدارة المخابرات الجوية. ووُصِف بأنه مسؤول يتمتع بنفوذ خاص ومتورط في عمليات القمع. وبالتالي، كان يتلقى تقارير استخباراتية يومية. ووَصف الشهود وجوده في مطار المزة وتحدثوا عن صلاحيته في الإبقاء على المعتقلين أحياء أو قتلهم. ووَصَفَ جميل حسن نفسه بأنه "رجل قاسٍ". وكان يعطي تعليمات لمرؤوسيه وكان بالضرورة على علم بممارسات التعذيب لأنها كانت تنفّذ على يد أقسامه.

تولى عبد السلام محمود قيادة فرع التحقيقات في إدارة المخابرات الجوية بعد آذار/مارس 2011. واتهمه الشهود بإصدار أوامر التعذيب ضدّ المعتقلين في المزة. ووُصف بأنه قاسٍ للغاية؛ إذ تحوّلَت جهازه إلى مسلخ خلال صيف 2011.

تطرّق القاضي رافيو بعد ذلك إلى الفصل المتعلق بأمر الإحالة الخاص بقضاة التحقيق الذي ركّز على الحصانات. مشيرًا إلى عدم تمتع أحد من المتهمين بالحصانات التالية:

  • الحصانة الشخصية الممنوحة لرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو وزير الخارجية بموجب العرف الدولي.
  • الحصانات بموجب اتفاقيات فيينا لعامي 1961 و1963 فيما يتعلق بالموظفين الدبلوماسيين والقنصليين.
  • الحصانة الموضوعية التي يحق لأي مسؤول عام التمتع بها في أثناء أداء واجباته إذا وقعت ضمن نطاق سيادة الدولة، إذ قد يُخضع ذلك دولةً لقانون دولة أخرى. ولا تشمل هذه الحصانات أعمال الإدارة المحضة.

تضمنت لائحة الاتهام مناقشة لاستبعاد هؤلاء الأشخاص من هذه الحصانات. وأكد القاضي رافيو على ضرورة تطبيق القاضي الوطني للقانون الوضعي والقانون العرفي، اللذين يشملان -بالإضافة إلى مبدأ الحصانات- المسؤولية الجنائية عن الجرائم الدولية.

التهم المنطبقة

وفقًا للمادة 212-1 من القانون الجنائي الفرنسي، يُشتَرَط ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سياق محدد، يتضمن خطة متضافرة أو هجومًا عامًا ضد المدنيين. وهناك بعد جماعي للجرائم يمكن تحديده من خلال عدة عناصر مثل:

  • استخدام جميع مستويات السلاسل الإدارية والقضائية.
  • التقاط صور للجثث.
  • تنظيم إخفاء الجثث.
  • الطبيعة المنظمة والجماعية للتعذيب.
  • وجود خطاب إعلامي موجه ودعاية إعلامية.
  • عدد الضحايا ووفرة الوثائق المتاحة من الآلية الدولية المحايدة والمستقلة وما إلى ذلك.

وقد أكدت منظمات عدة تورّط كبار المسؤولين. وثبت أن الوقائع هي جزء من خطة متضافرة لضمان بقاء النظام.

وأضاف القاضي رافيو أن وجود هجوم شامل ومنهجي هو عنصر ضروري، وأن هناك معيارًا بديلًا لطبيعة الهجوم: فهو يُعد ذا خطورة كبيرة إذا نُفِّذ بشكل جماعي. وأضاف أن الهجمات تصبح منهجية إذا ظهرت بدرجة معينة من التنظيم، إذ إنه من غير المرجح أن تكون هناك مصادفة عندما تكون الأفعال مُحكمة التنظيم. وأوضح أن أرقام المنظمات الدولية تقدّم فكرة عن النطاق.

في 18 آب/أغسطس 2016، وثّقت مذكرة من منظمة العفو الدولية بشأن عدد الوفيات في الحجز 12,200 حالة وفاة في الفترة بين 15 آذار/مارس 2011 و31 كانون الأول/ديسمبر 2015. وتوفي 17,723 شخصًا في الاحتجاز، وهو رقم يشمل الوفيات التي وُثِّقَت والتي لم تُوثّق. وتدعم صور ملف قيصر الطبيعةَ الشاملة والمنهجية للاعتداء.

خلص تقرير خبير من الإدارة العامة للأمن الخارجي الفرنسية [DGSE] بشأن ملف قيصر في عام 2015 إلى أن الوثائق كانت جديرة بالثقة. وأوضح الشاهد قيصر، وهو جندي سابق أجريت معه مقابلة دون الكشف عن هويته، أنه وثّق جرائم النظام. ومن بين الصور كانت 23 جثة وُصِفت بأنها جثث إرهابيين بعد مظاهرة في درعا. ومنذ عام 2012 فصاعدًا، زاد عدد الجثث بشكل كبير ولم يعد قيصر يذهب إلى المشفى، بل إلى مشفىً عسكري. ثم ذهب إلى مرآب بالقرب من المزة حيث وُضِعت علامة على كل جثة برقمين، أحدهما على الجبين والآخر على قطعة من الورق. كان الرقم الموجود على الجبين يمثّل رمز فرع الأمن ورقم المعتقل، والرقم الموجود على الورقة كان يمثل الرقم الذي أُعطِيَ في المشرحة. وظهرت على الجثث علامات هزال متوافقة مع التجويع بوصفه وسيلة للتعذيب [وما إلى ذلك]. وخلص فريق التحقيق إلى أن ذلك كان دليلًا قاطعًا على تعذيب المعتقلين فضلًا عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب المرتكبة ضد السوريين، إذ كان السكان المدنيون الهدف الرئيسي.

ثم تطرق القاضي رافيو إلى تحليل سابقة قضائية في ألمانيا أشار إليها قضاة التحقيق. ففي 24 شباط/فبراير 2021، اعتبر الحكم الصادر عن المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنتس أن الأحداث التي وقعت منذ عام 2011 تمثل هجومًا عامًا ومنهجيًا ضد السكان المدنيين. إذ استخدمت قوات الأمن العنف ضد المتظاهرين السلميين.

ثم تناول القاضي رافيو التُّهم الموجهة إلى المتهمين الثلاثة بالتفصيل، بالترتيب الذي حجبه قاضيا التحقيق [التُهم متشابهة لكل متهم، لكن القاضي رافيو قرأها بشكل منفصل]:

  • بين 3 تشرين الثاني/نوفمبر، 2013 و1 آب/أغسطس، 2018، التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية تتمثل في السَّجن والحرمان من الحرية الجسدية والتعذيب والاختفاء القسري والقتل العمد بحق مازن وباتريك دبّاغ. وشمل التواطؤ التحريض على ارتكاب هذه الجرائم وإعطاء تعليمات لارتكابها. وبصفته قائدًا أعلى، سمح علي مملوك لمرؤوسيه بارتكاب هذه الجرائم دون اتخاذ جميع التدابير الممكنة لمنع تنفيذها و/أو الإحالة إلى السلطات المختصة للتحقيق والملاحقة القضائية.
  • بين 19 كانون الثاني/يناير، 2014 و9 تشرين الأول/أكتوبر، 2018، التواطؤ في الابتزاز وإخفاء [تمويه] ممتلكات جرى اغتصابها في أبو رمانة بدمشق. جرت عملية الاستيلاء والمصادرة بعد سجن مازن دبّاغ وتعذيبه وإخفائه قسرًا ووفاته، ثم وُضعت الممتلكات تحت تصرف إدارة المخابرات الجوية. وقد ارتُكبت هذه الأفعال ضد أشخاص محميين بموجب القانون الدولي لحالات النزاعات المسلحة ولم تكن مبررة بالحاجة العسكرية. وبالتالي، فإنها تمثل جريمة حرب.

ذَكَر المدعي العام فيجيا بعد ذلك الوثائق المتعلقة بالحصانات التي أُرسِلت اليوم للأطراف المدنية: القرار المترجم لمحكمة العدل الاتحادية في ألمانيا بتاريخ 21 شباط/فبراير، 2024، وحكم محكمة العدل الدولية بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر، 2023 (في القضية التي رفعتها كندا وهولندا ضد سوريا)، ومحضر جلسة استماع [حُجب الاسم]، أستاذة في [جامعة] نانتير بتاريخ 7 كانون الأول/ديسمبر، 2022، ومحضر جلسة استماع لشاهد آخر وهو أستاذ جامعي، والترجمة الفرنسية للمؤهلات الواردة في قرار المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنتس بتاريخ 24 شباط/فبراير، 2021.

******

 شهادة الشاهد الخبير 1 زياد ماجد (ماجد)

وُلِد ماجد في بيروت في أيار/مايو 1970، ويعمل أستاذًا جامعيًا [في الجامعة الأمريكية في باريس] ويقيم حاليًا في فرنسا. وهو يعرف المتهمين منذ أن كانوا أعضاء مشهورين في النظام السوري، وفي لبنان أيضًا. استنتج رئيس المحكمة القاضي رافيو أن ماجد لا تربطه بالمتهم أي علاقات شخصية أو مهنية، وأنه شاهد خبير في موضوع القضية. وأدى ماجد اليمين بصفته شاهدًا.

أوضح ماجد أنه سيعرض تحليله حول ثلاثة مواضيع: إنشاء نظام الأسد وتأسيسه، وسنوات حكم بشار الأسد، ومركزية نظام السجون.

1.     إنشاء نظام الأسد وتأسيسه

نالت سوريا استقلالها عام 1943، وانسحبت القوات الفرنسية منها في عام 1946. ومن عام 1958 إلى عام 1961، تأسست الجمهورية العربية المتحدة بالاشتراك مع مصر. وحدّد حزب البعث العربي الاشتراكي أن الأمة العربية لا بد أن تتحد مجددًا بعد الاستعمار والحكم العثماني. واستولى حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في 8 آذار/مارس 1963. كان حافظ [الأسد] أحد العقول المدبرة للانقلاب، وقد أشرف على المخابرات الجوية، وهو ما عزّز مكانته وأسهم في تطوير أجهزة المخابرات الجوية فيما بعد.

وفي عام 1966، نفّذ حافظ انقلابًا ثانيًا وأزاح القادة التاريخيين لحزب البعث. إذ بدأ بصفته وزيرًا للدفاع، وسيطر على الجيش وأجهزة الأمن. وفي عام 1970، قاد حافظ انقلابًا ثالثًا، أطاح فيه برفاقه السابقين ورسّخ قبضته على السلطة. ومن هناك، راوده هاجسان؛ أولًا: إقامة نظام حصين من أي انقلاب آخر، وثانيًا: التشبث بالسلطة لأطول فترة ممكنة.

وفي عام 1971، اعتلى حافظ الأسد رئاسة البلاد بسلطة مطلقة. وأقام هذه السلطة وفقًا لثلاث فلسفات:

  1. قاعدة اجتماعية موالية من خلال الطائفية. إذ أذاع رواية حول التهميش التاريخي للعلويين لتحويل المجتمع سياسيًا وإيهام الناس بأن العلويين تحت حماية الأسد.
  2. الاستخدام المفرط للعنف. غالبًا ما كان قادة العلويين يتناحرون، فاستطاع حافظ أن يُلهب الصراع بين الأجهزة المختلفة. ولم يكن جميع القادة علويين، لكن الأغلبية الموالية بشدة كانوا من طائفته.
  3. الليبرالية الاقتصادية. لقد عمل على إصدار قوانين/سياسات ليبرالية للبعض، مثل التجار والبرجوازيين في المدن الكبرى، بينما قال إن السياسة ليست مجالهم.

علاوة على ذلك، استخدم حافظ السياسة الخارجية لإخفاء السكان السوريين عن بقية العالم. وكان صناع القرار يكتفون بالحديث عن دور سوريا في لبنان والعراق والقضية الفلسطينية وغيرها.

بعد احتلال [هضبة] الجولان عقب حرب الأيام الستة عام 1967، زعم حافظ أنه انتصر في حرب أكتوبر عام 1973 وأنه قادر على إعادة بناء سوريا. وفي عام 1976، جلب غزو لبنان المال إلى الخزينة السورية. وكانت الثورة الإيرانية عام 1979 لحظة مهمة أيضًا بالنسبة لحافظ، إذ عقد تحالفًا مكَّنَه من الوساطة بين الإيرانيين ودول الخليج. وتمكّن الإيرانيون من الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط بفضل تعاون حافظ معهم.

وهذا وضعه في قلب اللعبة الإقليمية، فأعطى النظام دفعة جديدة أخفى من خلالها ما كان يجري في الداخل. وبينما ازداد عدد السكان زيادة مطردة، واجهت التطورات السياسية عنفًا غير مسبوق؛ إذ فرض النظام حالة طوارئ منذ عام 1963، إلا أنه سَمَح لأحزاب معينة بالبقاء نشطة، مثل الحزب الشيوعي والحزب القومي وغيرها من التشكيلات تحت قيادة حزب البعث.

وبين عام 1979 وعامي 1982-1983، انقسم الحزب الشيوعي وجُرِّم في نهاية المطاف. ثم بدأت أحزاب أخرى معارِضةٌ لموسكو بمعارَضة النظام، مثل جماعة الإخوان المسلمين. واندلعت مواجهة مع النظام عام 1979 أدت إلى هجمات على ثكنات الجيش، وحملات لاعتقال المعارضين، وغيرها من أشكال القمع. ونصّ القانون على أن العضوية في تنظيم الإخوان المسلمين يمكن أن تؤدي إلى الإعدام. كما اعتُقِل الشيوعيون الذين انسحبوا من التحالف مع النظام.

فضلا عن ذلك، ارتُكبت مجزرتان. ففي عام 1980، أُعدِم مئات السجناء من جماعة الإخوان المسلمين وجماعات أخرى في سجن تدمر. وفي عام 1982، في حماة، قُتل عشرات الآلاف من الأشخاص أو اختفوا. وكانت هذه الأحداث صادمة؛ لأن النظام تجاوز كل الخطوط الحمراء للعنف. إذ أراد حافظ الأسد أن تكون أيدي الجميع ملطخة بالدماء لإجبارهم على البقاء معًا.

بعد ذلك، ارتفعت جدران الخوف. واختفى الآلاف وسُجنوا. وصَمَت المجتمع، ولكن المعارضة لم تنضب تمامًا. نُفي كثيرٌ من الناشطين خارج البلاد، ولكنهم استمروا في العمل. واستمرت مقاومة الحكومة، ولكن المجتمع لم يُعبّر عن معارضته بشكل علني.

واختفى العديد من اللبنانيين في سوريا خلال الحرب بين حافظ الأسد وياسر عرفات.

ومع غزو العراق للكويت، تحالف حافظ الأسد مع الولايات المتحدة ضد صدام. في السابق، كانت هناك إدانة أجنبية لبعض الأحداث: مثل وفاة ميشيل سورا [باحث فرنسي]، وعمليات أخذ الرهائن، واغتيال السفير الفرنسي لدى لبنان على يد دمشق. لكن أصحاب المصلحة أصبحوا آنذاك ملزمين بالتفاوض مع حافظ الأسد. وبعد [غزو] الكويت، أرسل حافظ قوات وحصل في المقابل على سيطرة شبه كاملة على لبنان.

وفي التسعينيات من القرن الماضي، أعدّ حافظ الأسد ابنه باسل لتخليد سلطته، لكنه توفي في حادث سيارة عام 1994. فاستدعى الأب بعد ذلك ابنه الثاني، وفي غضون 6 سنوات، أزاح حافظ بعض الشخصيات الثقيلة التي يمكن أن تهدّد بشار، وأحاطه بمستشارين مخلصين من بينهم ماهر الأسد وعائلة مخلوف. وفي عام 2000، كان بشار يبلغ من العمر 34 عامًا فقط، لكن الدستور كان ينصّ على أن الرئيس يجب أن يتعدى عمره أربعين عاما ليتولى الرئاسة، فعُدّل الدستور.

2.     سنوات حكم بشار الأسد

ورث بشار نظامًا قويًا. وحاول أن يظهر أن شبابه كان فرصة للانفتاح. وكانت هذه رسالة موجهة بشكل أساسي للغربيين ليظهر لهم أنه يشبههم. ولكن الشيء الوحيد الذي تغير هو خصخصة أجزاء من القطاع الاقتصادي، فعاد بالنفع على أبناء عمومته/خؤولته. ورُوّج لصورة زوجين شابين [بشار وزوجته أسماء]، لإبعاد صورته عن صورة والده العسكري الذي كان نادرًا ما يبتسم. وخلال ربيع دمشق، ازدهرت صالونات السياسة وجمعيات/رابطات تعمل على تنظيم الاجتماعات العامة ومناقشة السياسة وإنهاء حالة الطوارئ وعودة المنفيين وإطلاق سراح السجناء السياسيين. ولكن بعد عام، لم يتغير شيء. وبدءًا من شباط/فبراير 2001، كانت هناك حملة قمعية ضد ربيع دمشق. إذ اعتُقِل مُنظمو صالونات السياسة وسُجنوا بالتهم نفسها كما هو الحال دائمًا (تهديد السيادة، وغيرها من التهم المعتادة).

استمر النظام في فرض هيمنته عن طريق العنف. واستهدفت سلسلة اغتيالات في بيروت معارضي دمشق، ومن بينهم الحريري.

وفي عام 2005-2006 بعد إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وقعت سلسلة أخرى من الاعتقالات وسُجنت شخصيات بارزة. إذ اغتيل الشيخ أحمد، الذي كان يتمتع بسلطة رمزية في الدوائر الصوفية، وقُمِع الأكراد الذين ثاروا أيضًا [في سوريا]. وفي عام 2008، ارتكب السجانون في سجن صيدنايا مذبحة بحق المعتقلين لمحاولتهم التمرد.

وفي عام 2011، توقع قلّةٌ من الناس اندلاع انتفاضة في سوريا، ولكن من المثير للدهشة أن الثورة اندلعت في آذار/مارس 2011 وظلت سلمية نحو عامين. ونادى الناس سلميًا بإسقاط النظام، وطالبوا بالمساءلة. ووثّق كثير من السوريين [ما كان يحدث]، أملًا في تجنب تكرار مجزرة حماة، التي كانت مجزرة خلف الأبواب المغلقة، وأملوا في أن يحظوا بالحماية الآن، لأن العالم يمكن أن يراهم. ولكن ذلك لم ينجح على الإطلاق. إذ جرى التعذيب على نطاق واسع، وانتشرت شهادات مرعبة من سجناء سابقين. وكان نظام السجون العمود الفقري للقمع.

ميّز الشاهد الخبير ماجد عدة جوانب في استخدام العنف:

استمرت وتيرة العنف في سوريا بالتصاعد. لم يعتقد ماجد أبدًا أن العنف كان عشوائيًا، بل كان مستهدفًا، وفقًا لإحدى الفلسفات. فعلى سبيل المثال، اغتيل ممثلون كان بإمكانهم تأدية دور سياسي على نطاق وطني؛ لأن خطابهم لم يكن محليًا ومجتمعيًا وريفيًا فحسب، بل كان بإمكانهم التحدث إلى جميع السوريين. وكان هدف النظام هو إضعاف الجوانب الوطنية للثورة.

وحمل العنف طابعًا طائفيًا؛ فبينما كان عدد عمليات القتل في المناطق الكردية والدرزية والمسيحية قليلا، استهدف النظام المناطق الريفية السُنيّة، أي في أوساط الفئات المهمشة. إذ استهدف النظام مخيم اليرموك وجوبر وغيرها. وفي هذه المناطق، قتل النظام المئات، بينما في المواقع الأخرى، نفّذ اغتيالات موجَّهة دون ارتكاب مجازر. وقد عكس ذلك الرغبة في خلق رواية طائفية؛ من خلال إظهار أن السنّة هم الذين يثورون. وبهذه الطريقة، خُيِّر السوريون بين نظام الأسد، الذي يعتني بالمجتمعات، وبين الإسلاميين. وكانت الحصارات التي نُفذت في مخيم اليرموك والغوطة وحلب الشرقية وحمص وغيرها، جزءًا من منطق سحق السكان المهمشين.

فسّر ماجد الهجمات الكيماوية والقصف على أنها محاولة لإظهار استمرار تمتع الأسد بالسلطة المطلقة والإفلات من العقاب، وأنه يمكنه حتى تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها أوباما. وكانت هذه رسالة إلى مجتمعه الخاص بأنه يتمتع بالسيطرة الكاملة، وفي الوقت نفسه رسالة إلى قاعدته الاجتماعية لإظهار أنه يمكنه حتى تسميمهم بالغاز دون أن يحدث شيء.

وفي عام 2013، بدأت أعداد كبيرة من السوريين بالبحث عن ملجأ في مكان آخر. ولم يكن من الصدفة حينها ظهور تنظيم داعش في سوريا والعراق، إلى جانب حزب البعث. وواجه السوريون مشاكل جمّة في تلك الفترة، منها العنف ورحيل ملايين الأشخاص والنزوح الداخلي والتجزئة الإقليمية للمناطق.

وفي هذا الوقت، شاع أن يُصبح الأشخاصُ الذين اعتُقِلوا وأطلق النظام سراحهم أهدافًا لتجنيد الجهاديين، جاعلا سوريا مركزًا للجهاديين الذين أرادوا الذهاب والقتال [في سوريا والعراق]. إذ كان النظام متأكدًا من أن الجهاديين أو المجندين الذين أطلق سراحهم بعد عام 2011 كانوا يعزّزون صفوف هذه الجماعات.

وكان العنف الجنسي شكلًا آخر [من أشكال العنف]، وتبنّاه النظام على نطاق واسع. أدت هذه الجريمة إلى شلّ جميع أجزاء المجتمع وهدمها؛ أي الضحايا وعائلاتهم وبيئتهم الاجتماعية. وفي سلسلة مثيرة للجدل من عمليات الاغتصاب، أراد النظام أن يُظهر للسوريين أنهم كانوا مثل الأقنان (العبيد) في العصور الوسطى وأنهم خاضعون لأسيادهم من النظام.

وفي مقاطع الفيديو الاستدلالية، يمكن للمرء أن يشاهد مرارا السجانين يطلبون من الناس أن يقولوا إن الأسد هو ربّهم.

3.     سوريا، سجن كبير

إن بيئة السجن هي المكان الذي تجلت فيه قوة النظام بأكثر أشكاله قسوة. إذ يُظهر تنظيمها الإداري [حدث انقطاع قصير للترجمة باللغة العربية بسبب مشكلة فنية] الرغبة في السيطرة على كل شيء وضبطه.

ويُعد السجن أيضًا وسيلة لشل مجتمع بأكمله؛ فمع وجود الآلاف من الناس في السجن، لن تجرؤ العائلات على التحدث علنًا بسبب أملها غير المنقطع في عودة أحبائها. وعلى وجه الخصوص، بُنِيَ اقتصاد كامل حول هذه الفكرة، مع الوعود المقدمة للعائلات بعدم تعذيب أحبائها أو إرسال الطعام إليهم، بينما يكون الناس غالبًا قد توفوا بالفعل. ويرتبط هذا الاقتصاد الذي يتبع أساليب المافيا بالنظام.

إضافة إلى ذلك، كانت هناك ثقافة الشائعات، فلم يكن أحد يعرف من توفي أو أين هم أو إلى أين يمكن أن يُنقلوا. وألحقت هذه الشائعات ضررًا نفسيًا. وكانت العائلات تتلقى شهادات وفاة دون إعادة الجثث أبدًا، وهو ما منعهم من الحداد وغذى آمالًا كاذبة بأن المعلومات قد تكون خاطئة. وزرعت الشائعات اليأس وخلقت توقعات متضاربة.

مارست أجهزة الأمن التعذيب والترحيل بحق العديد من الأشخاص، وهو أمر لا يزال محفورًا في ذاكرة جميع السوريين. ففي فيلم وثائقي، قال معارض سوري إن السجانين أبلغوا السجناء بأن لهم الحق في قتل 10% منهم، وإنه كان عليهم تقديم تبرير بعد ذلك. وأوضح هذا المعارض أيضًا أنه في عهد الأسد، لم تعد هذه النسب موجودة، وأصبح تأثير التعذيب غير محدود.

ومن خلال التوثيق المستند إلى الكتب والأفلام الوثائقية والمناظرات، بالإضافة إلى شهادات السوريين الذين سردوا أهوال ما جرى، يعتقد ماجد أن محاربة الإفلات من العقاب باتت ممكنة أكثر. وأوضح أن هذه الجلسة تمثل بداية المعركة ضد الإفلات من العقاب التي طالما انتظرها السوريون.

أسئلة رئيس المحكمة القاضي رافيو لماجد

سأل القاضي رافيو عما إذا كان ماجد يعُدّ الأساليب الشبيهة بالمافيا، التي يتبعها النظام في اقتصاده، جزءًا من منظمة. فأوضح ماجد أن هناك سياسة منهجية متبعة. على سبيل المثال، سَمح القانون رقم 10 الذي صدر في أيار/مايو 2018 للنظام بإعادة الاستيلاء على ممتلكات الأشخاص الذين لا يستطيعون إثبات ملكيتهم، رغم معرفة أن ملايين الأشخاص كانوا نازحين. وأضاف أن هناك سياسة منهجية فيما يتعلق بالممتلكات، بالإضافة إلى سياسة عدم تدخل مدعومة وميسرة فيما يتعلق بترك المجال لعائلات الجنرالات [للاستيلاء على ممتلكات المعتقلين]. ويؤكد القانون رقم 10 الرغبة في سرقة ممتلكات الناس والاستيلاء عليها. وأظهرت العديد من مقاطع الفيديو، من بينها تلك المؤيدة للنظام، احتفالات بالاستيلاء على ممتلكات الناس في منازلهم الخاصة. ولتعميق الانقسام الطائفي، يُطلَق على هذه الأسواق اسم "أسواق السُنّة".

سأل القاضي رافيو عن ممارسة إصدار شهادات الوفاة من أيار/مايو أو حزيران/يونيو 2018، وأراد معرفة سبب إقدام النظام السوري على هذه الخطوة، في حين أنه لم يفعل ذلك من قبل. وقال ماجد إن هذا الإجراء جاء بناءً على نصيحة روسية. فبعد آخر معركة عسكرية كبرى في 2017-2018، استعاد النظام السيطرة على درعا وضواحي دمشق وحلب وحمص. ومن المحتمل أن يكون النظام الروسي قد نصح بإغلاق ملفات الأشخاص المفقودين. وهناك وجهة نظر أخرى تشير إلى أن النظام اعتقد أن التطبيع مع الدول العربية والغربية قد يكون ممكنًا، لذلك أراد تقليص قوائم المفقودين. وبالفعل، بدأ التطبيع بعد ذلك، لكنه لم يتقدم بشكل كبير، خصوصًا مع الدول الغربية.

ولم يكن القاضي رافيو متأكدًا مما إذا كان الأمر يدخل ضمن اختصاص ماجد، لكنه أراد الحصول على معلومات حول عدد الأشخاص الذين ربما كانوا مسجونين منذ عام 2011. فأجاب ماجد بأن هناك تقديرات تشير إلى وجود نحو 6 إلى 7 ملايين نازح داخلي، ونحو العدد نفسه من اللاجئين السوريين في الخارج. وأوضح أن مغادرة سوريا أصبحت أكثر صعوبة. وفيما يتعلق بالمعتقلين، ذكر ماجد أن من الصعب جدًا تحديد رقم دقيق، لكن المنظمات السورية وثّقت حالات الاختفاء وتشير إلى وجود نحو 100 ألف شخص مفقود، إذ تتراوح التقديرات ما بين 90 إلى 110 آلاف شخص حسب المصدر. وأكد أن هناك أسماء وتواريخ، وهو ما يجعل الأرقام دقيقة. وأكد ماجد أن العدد قد يصل إلى مئات الآلاف، لكنه لا يستطيع أن يعطي رقمًا محددًا.

أسئلة القاضي سيميوني (قاض مساعد 1) لماجد

سأل القاضي سيميوني ماجد عمّا إذا كان يعتقد أن الصحافة السورية كانت تغطي المحاكمة. فقال ماجد إنه حاول البحث على الإنترنت لكنه لم يعثر على أي شيء. لكنه يعلم أن هناك تعليقات وشتائم وتهديدات على وسائل التواصل الاجتماعي. وأوضح أنه لم يلاحظ أي تغطية من جانب النظام، لكنه شاهد كثيرا من المقالات وتغطية حقيقية في الإعلام اللبناني. وأضاف ماجد أن جزءًا كبيرًا من السوريين لا يعتمدون على الإعلام الرسمي السوري للحصول على الأخبار، لأنهم يدركون أنه مجرد دعاية سياسية. لذلك، عندما يبحث السوريون عن المعلومات فإنهم يلجؤون إلى المواقع الإخبارية والقنوات التلفزيونية.

أسئلة الطرفين المدنيين الأول والثاني لماجد

عبرت المحامية بيكتارت عن شكرها لماجد على وضوح التفاصيل التي قدّمها. وأشارت إلى حديثه حول تولي بشار الأسد السلطة والسنوات التي سبقت الثورة في عام 2011. ثم سألته عمّا إذا كان بإمكانه التحدث بشكل أكثر تحديدًا عن المجتمع المدني، ومشهد المنظمات غير الحكومية والجمعيات السورية، وتوضيح ما إذا كانت موجودة آنذاك وما إذا كانت تمتلك مجالًا للمناورة. فسأل ماجد عمّا إذا كانت تشير إلى الفترة الممتدة من تولي بشار الأسد السلطة حتى عام 2011. فأكدت بيكتارت ذلك.

أشار ماجد إلى أن قادة الأنشطة غير القانونية، الذين كانوا من المثقفين والفاعلين السياسيين الذين سُجنوا، بدأوا بالكتابة بعد إطلاق سراحهم، مثل الكتابات في الصحافة اللبنانية. وفي بعض الأحيان، كانوا لا يزالون يتعرضون للتهديد أو يُعتقلون. وظلت صفتا الشجاعة والكرم سائدتين في أوساط المثقفين. وبالنسبة للحقوقيين، نُفِّذت أعمال توثيق، وذكر ماجد اسم "رزان زيتونة" مثالا. وأضاف أن المحامين أجروا أنشطة تهدف إلى توسيع نطاق القانون والحريات. ففي بلدة داريا أُطلقت مبادرة نبيل شربجي لخلق وعي سياسي دون لفت انتباه أجهزة النظام. وبرزت أيضًا مبادرات ثقافية، إذ كانت البيانات الصحفية تُنشر من حين لآخر، مثل بيان يدعو إلى إنهاء حالة الطوارئ (بيان عام 1999)، وبيان آخر من صانعي الأفلام، والذي كانت له أهمية بالغة، وغيرها من البيانات، وذلك في عامي 2000 و2001. وأنجزت اللجان، التي بدأت بالعمل في عدة مناطق لإنشاء شبكات، أعمالًا هامة، ولكنها سرعان ما اعتُقِلت وجرّمها النظام. ومنذ عام 2011 فصاعدًا، عاد هذا النشاط إلى الازدهار مرة أخرى، من خلال التنسيقيات في المدن والقرى، والأنشطة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتشكيل مجموعات من المحامين للدفاع عن المعتقلين، وغير ذلك. كان الناس يعتقدون أن هذا المجتمع كان مكبوتًا ومقموعًا، ولكن كان هناك الكثير من الطاقة والشجاعة. استمر هذا الأمر لبضع سنوات بعد 2011، وامتد في الشتات السوري، إذ توجد العديد من البرامج، خاصة فيما يتعلق بالتوثيق وأعمال الكثير من الحقوقيين.

أشارت بيكتارت إلى أن ماجد ذكر أربعة أجهزة مخابرات، وطلبت منه تقديم مزيد من التفاصيل حول هذه الأجهزة، مع التركيز على إدارة المخابرات الجوية. فأوضح ماجد أن هناك عدة أقسام، وغالبًا ما تحدث تنقلات بين هذه الأقسام. وفي بعض الأحيان، قد لا يكون رئيس القسم هو المسؤول عن اتخاذ القرار. ووصف شبكة المخابرات في سوريا على النحو التالي:

  • المخابرات التي تتعامل مع الشؤون الخارجية: في حالة سوريا، هي جهاز في غاية القوة، إذ تُدير العلاقات مع دول مثل العراق ولبنان وتركيا، وتكون مسؤولة عن الابتزاز والعمليات. وقد أُسندت إدارتها إلى أفراد من عائلة الأسد ولعبت دورًا محوريًا في النظام.
  • أما الأمن الداخلي، فيُضمن من خلال عدة أنظمة: الأمن السياسي والمخابرات العسكرية والعديد من الإدارات الأخرى التي تتمتع بسلطات واسعة. وهناك فروع في المدن تتمتع بدرجات متفاوتة من السلطة.
  • تُعد إدارة المخابرات الجوية القسم الأهم. ففي عام 1966، وقع الانقلاب الثاني لحزب البعث العربي الاشتراكي. وفي عام 1970، أصبحت المخابرات الجوية تحت سيطرة حافظ الأسد، وهي القوة التي مكنت من الاستيلاء على السلطة. ومنذ عام 1971، أصبح حافظ الأسد مهووسًا بالبقاء في السلطة ومنع أي محاولات انقلابية أخرى، واعتمد على خدمات المخابرات الجوية، والتي يُعد أعضاؤها مقربين جدًا من عائلة الأسد والسلطة.
  • يلعب الحرس الجمهوري أيضًا دورًا بالغ الأهمية.

تُعد إدارة المخابرات الجوية والحرس الجمهوري الأكثر قوة. ولتعدد الأجهزة الأمنية أهمية كبيرة لأنه يتيح للأسد البقاء بصفته حكما بين هذه الأجهزة. ومن حين لآخر، أجريت "إصلاحات أمنية"، وفي عام 2011 أنشئ جهاز تنسيق لهذه الأجهزة: الأمن القومي، المعروف أيضًا بمكتب الأمن القومي. وهناك مذكرات اعتقال صادرة من لبنان تتهم أعضاء في هذا المكتب بإرسال قنابل لاغتيال شخصيات لبنانية.

أوضحت بيكتارت أن ماجد اختتم شهادته أمام قاضي التحقيق بجملة أرادت أن تذكره بها: "أود أن أوضح أن الإفلات من العقاب الذي ساد لفترة طويلة في سوريا والمنطقة هو السبب الرئيسي للعدمية. وإذا لم يتوقف، سنبقى في [فوضى]".

قال ماجد إنه لطالما رأى أن الإفلات من العقاب [لم تكن بقية الجملة واضحة لمراقبة المحاكمة]. ولم تُعقد أي محاكمات، ونادرًا ما كانت تُفرض عقوبات. ومع مرور الوقت، يصبح من أفلتوا من العقاب أكثر قوة، لأنهم لا يواجهون خطوطًا حمراء. وكأن القانون لم يكن مُصممًا لحماية السوريين، وهو ما يخلق تأثيرًا شاذًا يسمح للمسؤولين بالبقاء خارج نطاق المساءلة والتفاوض مع القوى الخارجية للحفاظ على السلطة. وهذا يخلق نوعًا من الثقافة التي تعيق تطبيق سيادة القانون وتؤدي إلى قتل مفهوم المواطنة والمساواة أمام القانون. وأضاف ماجد أنه بالنظر إلى ما حدث في سوريا، غالبًا ما استخدمت التشكيلات الجهادية حجة أن الناس يُقتلون على أي حال، وأنه لا القانون ولا المجتمع الدولي ولا التوثيق سينقذهم. لذلك، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذهم هو الرد على العنف بالعنف. وتستغل هذه القوى [غياب] سيادة القانون والعدالة. ويبرر المجرمون الذين أفلتوا من العقاب في المنطقة أفعالهم أمام بعضهم بعضًا، وهذه مسألة بالغة الأهمية من الناحيتين الثقافية والسياسية.

وفيما يتعلق بالبلد، الذي لا يزال مفتتًا ومغلقًا، سأل المحامي بودوا ماجد عمّا إذا كان يعد النظام قد استقر الآن أم أنه لا يزال هشًا وقابلًا للانهيار. وأراد الحصول على تحليلات أكثر حداثة. فأجاب ماجد بأن سوريا بلد مجزأ، إذ يسيطر نظام الأسد على منطقة واحدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير للروس والإيرانيين. تغطي هذه المنطقة نحو 65% من الأراضي، وتشمل الساحل والمدن الكبرى. والمنطقة الثانية تخضع لسيطرة القوات الكردية والأميركيين، وتغطي 20% من الأراضي، وتشمل بعض المدن متوسطة الحجم حيث التركيبة السكانية ليست كردية بالكامل. وتوجد توترات بين المجموعات المختلفة والتركيبات السكانية. وتسيطر قوى المعارضة المختلفة على 10 إلى 12% من الأراضي. وفي هذه المنطقة، تسيطر جبهة النصرة، التي تدعي أنها انفصلت عن تنظيم القاعدة، على إدلب. وهناك منطقة رابعة في الجنوب، وهي صحراء التنف، حيث توجد قواتُ معارضةٍ مدربةٌ لمحاربة تنظيم داعش، وقد ربطت قتال داعش بمحاربة النظام. ولا تزال هذه القوات هناك. أما المنطقة الخامسة فهي هضبة الجولان التي ضمها الإسرائيليون، ولكن لم يعترف أحد بهذا الضم سوى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

تفشى الدمار في كل منطقة من البلد بسبب حملات النظام والروس. وأصبحت البلاد على وشك الانهيار اقتصاديًا. كما أن اقتصاد الكبتاغون في تزايد؛ فهو يُصدّر إلى دول الخليج. وقد طالبت هذه الدول بوقف هذه الواردات مقابل تقديم استثمارات. أما بالنسبة للشعب السوري، فيُقدَّر أن نحو 60% إلى 80% منهم يعيشون تحت خط الفقر. كما أن معدلات البطالة مرتفعة للغاية، وفقدت الليرة السورية جزءًا كبيرًا من قيمتها. وأدى الزلزال إلى تفاقم بعض المشكلات. وفي ظل هذا السياق، لا تكاد تصل إلى سوريا أي استثمارات، وهذا يعني أن النظام يسمح بانتشار الفساد انتشارًا متزايد بين أفراده وبعض الميليشيات التي دعمها، والتي لم يتمكن أفرادها من العودة إلى وظائفهم السابقة. لذلك، يقيمون من وقت لآخر نقاط تفتيش ويطلبون المال. ولا تزال بنية الدولة تعتمد على منطق يتبع أساليب المافيا. إذ تمارس الدولة السورية، مرة أخرى، سيادتها بشكل رئيسي من خلال نظام السجون، بينما تستغل العديد من القوات الجوية الأجنبية الأراضي السورية، وتُدار العلاقات الدولية على يد أطراف أخرى. إضافة إلى أن الانهيار الذي يشهده لبنان لا يساعد الوضع أيضًا. وبالتالي، فإن الوضع الاقتصادي يشكل عبئًا ثقيلًا على السكان، والنظام يبحث عن شركاء يدعمون الاستثمارات. لهذا السبب، يُعدّ تطبيع العلاقات مع النظام قضية محورية.

لا يبدو أن اللاجئين في الخارج مرحب بهم. وأشار ماجد إلى اقتباس لبشار الأسد على موقع الرئاسة، إذ قال إن البلد أصبحت أكثر تجانسًا الآن، وأعرب عن سروره بذلك. وقد تحدث بشار الأسد ذات مرة عن "تطهير سوريا". وبالتالي، لم تُستوفَ الشروط اللازمة لعودة اللاجئين، ومعظمهم لا يرغبون في العودة. ففي ظل غياب القانون، قد تكون هناك تصفية حسابات عند عودتهم. ويبدو أن الوضع سيستمر على هذا النحو لفترة طويلة.

أشار المحامي بودوا إلى أن ماجد ذكر في عدة مناسبات أن سوريا تسعى لتأدية دور دولي، وهو ما قد يصرف الانتباه عن خطورة المشكلات الداخلية. وتابع بودوا قائلًا إننا نشعر اليوم أنه رغم كون الأسد منبوذًا، فإن مصطلح التطبيع آخذ في الانتشار، حتى داخل الدبلوماسية الفرنسية، إذ يُعد مرة أخرى لاعبًا رئيسيًا. وسأل بودوا عمّا إذا كان هذا يشجع بشار الأسد على الاستمرار بالنهج نفسه، خاصة فيما يتعلق بنظام السجون. فأجاب ماجد بأن التطبيع يحدث بالفعل مع بعض الدول العربية. إذ بدأت جامعة الدول العربية، مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين، اللتين لم تُغلقا سفارتيهما أو قنصليتيهما في سوريا. وتلتهما الأردن والسعودية بالتطبيع، على أمل تقليص التوسع الإيراني في سوريا. ولكن لم ينجح اندماج سوريا في جامعة الدول العربية، إذ تراجعت أهميتها بالنسبة للسعودية بعد المصالحة السعودية الإيرانية. وتواصل تركيا رفض المصالحة وتسيطر على أكثر من ثلث السكان السوريين في شمال شرق سوريا، حيث يعيش ثلاثة ملايين شخص. ويعيش نحو أربعة إلى خمسة ملايين سوري آخرين في تركيا؛ ولا توجد مؤشرات على التطبيع.

أما بالنسبة للأوروبيين، فقد صدرت تصريحات مؤسفة تستحضر الواقعية السياسية، ولكن لم يحدث أي تقدم ملحوظ نحو التطبيع أيضًا. وبدأت الأصوات ترتفع وتشير إلى أن بشار الأسد لديه معلومات حول الجهاديين يمكن أن تهم أجهزة المخابرات الأوروبية. وأُجري اتصال مع إيطاليا ومع أجهزة المخابرات الغربية. لكن بشار الأسد لا يستطيع اتخاذ أي قرار دون موافقة روسيا وإيران. ويلعب ملف قيصر وإجراءات العقوبات، من بينها قانون الكبتاغون، دورًا محوريًا في هذا السياق. وإن فكرة تطبيع العلاقات مع بشار الأسد لاحتواء عدوانيته هي مجرد وهم. وإن تاريخ الأسد بأكمله هو تاريخ قائم على الابتزاز لم ينجح قط؛ فهم يصلون إلى تسويات دون تقديم ما هو متوقع. ولا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن التطبيع ضروري؛ إذ لا يوجد ملاذ لإعادة اللاجئين إليه. بالإضافة إلى ذلك، سيبعث التطبيع مع الأسد حتما رسالة مفادها أن ما جرى مجرد حرب، ويمكن طي الصفحة للبدء من جديد.

وفيما يتعلق بملف قيصر، سأل رئيس المحكمة القاضي رافيو عمّا إذا كانت لدى ماجد أي فكرة عن سبب توثيق النظام لهذه الوفيات، وما إذا كان هذا التوثيق لا يزال مستمرًا. فقال ماجد إن ذلك أصبح سرًا من أسرار الدولة بعد قضية "قيصر". لكنه يعتقد أن هذه الفلسفة مرتبطة بهوس بيروقراطي يهدف إلى إظهار قدرته على التحكم بأصغر التفاصيل. فباستخدام الأرقام، يصل نزع الإنسانية إلى أقصى حدوده. ومن خلال الأرقام يمكن فهم مسؤوليات المكاتب والفروع وأماكن الوفاة. وهذا يتيح للنظام التحكم في الداخل وإظهار أن كل شيء تحت السيطرة وأن لا شيء يفلت من الرئيس. وأضاف أن هذه طريقة مهووسة إلى حد ما لممارسة السلطة على الأجساد والحياة. سأل القاضي رافيو عمّا إذا كان انشقاق هذا العميل [قيصر] قد أثر على تنظيم هذه البيروقراطية. فقال ماجد إنه ليست لديه أي فكرة عن ذلك.

أسئلة المدعية العامة (النائب العام) فيجيا لماجد

أشارت المدعية العامة فيجيا إلى كتاب Dans la tête de Bachar al Assad ["في رأس بشار الأسد" الذي كتبه ماجد]، والذي أضيف إلى ملف القضية. وشرحت كيف تناول ماجد تطور أجهزة المخابرات، واقتبست جزءًا من الكتاب حول الأمن السياسي والمخابرات العسكرية والجوية، المخصصين لتأمين الدفاع الجوي وحماية السفارات. لكنها أوضحت أنه يمكن لهذه الأجهزة التدخل دون تنسيق، إذ ينصبّ كل شيء نحو الرئيس. وسألت عمّا إذا كان من المستحيل تمامًا أن ينتهي المطاف بهؤلاء الأفراد، الذين هم مواطنون، في فرع المزة [فرع المخابرات الجوية] دون أن تكون لهم علاقة بسلاح الجو. في رأي ماجد، كانت أجهزة الاستخبارات قادرة على العمل عند تهديد النظام. ففي عام 2011، كانت أجهزة المخابرات الجوية تُعد الأكثر شراسة والأكثر قدرة على سحق أعداء النظام. وكان الأسد وإخوته يديرون العلاقات بين الأجهزة. ولم يكن من غير المألوف أن نجد في سجون هذه الأجهزة مواطنين ليست لهم علاقة بالجيش أو بسلاح الجو. وكما كانت الاستجابة التي أرسلت إلى درعا، يمكن لأجهزة المخابرات التدخل في أماكن أخرى. إذ مُنِحت هذه الأجهزة حرية التصرف في عدة مناسبات.

وأشارت المدعية العامة فيجيا إلى المرسوم التشريعي السوري رقم 69، وسألت ماجد عمّا يمكنه قوله بشأن مسألة الإفلات من العقاب وحظر التحقيقات ضد أعضاء الأجهزة الأمنية. فأجاب ماجد بأن المخابرات الجوية كانت تُعرف بالرعب المطلق، وتُعد الأكثر شراسة. فعلى سبيل المثال، كانت هناك سجون مخصصة في الأصل لفئات معينة، مثل فرع فلسطين في دمشق المخصص لمكافحة التجسس. ثم تحوّل هذا الفرع إلى سجن رهيب حيث كان يُسجن فيه فلسطينيون وغيرهم. وكانت تحدث تحولات لسلطة الأجهزة حسب الحاجة.

أما بخصوص الإفلات من العقاب، أشار ماجد إلى أن الفكرة كانت بجعل قادة هذه الأجهزة مُحصنين. والجهة الوحيدة التي تملك القدرة على ذلك هي الرئاسة، التي كانت تنقل هؤلاء القادة من منصب إلى آخر. ففي بعض الأحيان، قد تكون الترقية وسيلة للتهميش. إذ يمكن أن يبدو تعيين شخص مستشارًا للرئيس أمرًا مرموقًا، لكنه قد يكون أيضًا وسيلة لإبعاده عن قسم معين. ومن خلال هذا القانون والعديد من الممارسات والإجراءات الأخرى، تمثلت الفكرة في أن الشخص الوحيد الذي يملك الحق في التعامل مع هذه الأجهزة وقادتها هو الرئيس. وكان ذلك وسيلة للتأكيد على أن بشار هو المسؤول وأن كل شيء يعتمد على إرادته.

وتدخلت المحامية بيكتارت للعودة إلى مسألة التعذيب في مراكز الاعتقال. وأشارت إلى الصفحات 76 إلى 79 من الكتاب التي تتحدث عن الموت تحت التعذيب على نطاق واسع، والإدارة البيروقراطية للقتل بهدف إظهار أن الدولة تنظم ذلك، والنية في إرهاب عائلات الضحايا، وإصدار شهادات الوفاة دون تسليم رفات أحبائهم. وأكدت بيكتارت أن ما وصفه ماجد يتطابق تقريبًا مع ما شاهده مازن دباغ. وتساءلت عمّا إذا كان من الممكن أن تكون هذه سياسة دولة وما إذا كانت لدى ماجد أي فكرة عن كيفية تحول هذه السياسة، التي تهدف إلى تحطيم الناس، إلى سياسة دولة.

أوضح ماجد أن هذا الجزء يستند إلى العديد من الشهادات من فترات مختلفة، من عهد الأسد الأب والابن. وأوضح أنه في بعض الأحيان، كان التعذيب يحدث في بداية الاعتقال، وفي أحيان أخرى يستمر طوال فترة الاعتقال. وكان يتخذ أشكالًا مختلفة مثل الأمراض التي تُترك دون علاج، أو منع السجناء من استخدام المراحيض، والاكتظاظ الذي يؤدي إلى نوبات قلبية، والاختناق، وغيرها من أشكال التعذيب. وهذا يُظهر أن نطاق التعذيب تجاوز مجرد ممارسات في فرع معين أو تحت إشراف ضابط معين، بل كان ممارسة منهجية للدولة. لدرجة وجود مصطلحات محددة لوصف أشكال معينة من التعذيب، وهو ما يدل على أن الأمر كان مُنظمًا ويُنفذ وفق نظام محدد، نظرًا لحدوثه في جميع أنحاء الأراضي السورية. بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم الأشخاص الذين اعتُقِلوا بعد عام 2011 لم تُطرَح عليهم أسئلة كثيرة. وكان من طُلب منهم تقديم معلومات تحت التعذيب غالبًا من الناشطين، على سبيل المثال عن طريق قلع أظافرهم للحصول على كلمات مرور حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وغالبًا ما كانت الأهداف تُحدد في البداية، ولكن مع مرور الوقت، كانت تُختلق أسباب جديدة. وكان هدف فكرة "سوريا الأسد" هو أن يدفع الناس لكتابة تقارير، حتى لو أن معظم السوريين لم يفعلوا ذلك. وكل هذا يعدّ جزءا من ثقافة القمع التي تتبناها الدولة، وإن هذه الممارسات ليست تصرفات منفصلة.

طلبت بكتارت من ماجد أن يشرح الفرق بين مراكز الاعتقال في فرع فلسطين وسجن صيدنايا لتوضيح نظام السجون للمحكمة. فأوضح ماجد أن هذا التوزيع الكلاسيكي الذي كان موجودًا قبل عام 2011 قد تغير بالفعل قبل ذلك. كان سجن صيدنايا مثل سجون حلب وحمص حيث كانت هناك سجون مدنية أكثر. وكانت هناك سجون عسكرية لأسباب أخرى. كان فرع فلسطين وسجن تدمر معروفَين بأنهما الأصعب، حيث كان يُرسَل أعضاء التشكيلات اليسارية وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين إليهما. وكانت هناك خريطة توزيع تعتمد على ملف السجين وما يجب على السجن التعامل معه. وبعد عام 2011، اُنشئت مراكز اعتقال في مبانٍ حُوِّلت إلى سجون. إذ كانت السجون المدنية مكتظة، لذا كان من الممكن احتجاز أي شخص في تلك المراكز [مراكز الاعتقال]. بعد ذلك، تغيرت الأمور، لكن ظلت الفروع الأصعب هي المزة وجميع المطارات العسكرية، وسجن صيدنايا، وفرع فلسطين وفروع أخرى تحمل أرقامًا، لكن مواقعها غير معروفة. قال ماجد إنه لا يستطيع تقديم تمييز واضح بناءً على المعلومات التي يملكها.

[عُرِضت خريطة لسوريا تظهر مناطقها الإدارية، والتي تُسمى المحافظات]. علّق ماجد على الخريطة وشرح المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام، والمناطق التي كانت تحت سيطرة القوات الكردية، وأوضح أن المناطق في الجنوب كانت تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية لمراقبة الروابط بين العراق وسوريا، وهناك أيضًا صحراء التنف وهضبة الجولان، وغيرها. وذكر ماجد القاعدة العسكرية الروسية على الساحل ووجود القوات الإيرانية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.]

--- ---

قال رئيس المحكمة القاضي رافيو إنه نسي أن يذكر أنه وفقًا للقانون الفرنسي، يمكن محاكمة المتهمين الذين لم يجرِ الاستماع إليهم خلال جلسة المحاكمة ولم تصلهم استدعاءاتهم. وأوضح أنه في حالة المتهمين اليوم، كان بإمكانهم إرسال محامٍ لتمثيلهم. وأضاف أنه من الممكن محاكمة المتهمين بإجراء غيابي، وهذا يعني أنه إذا اتُخذ قرار، يمكنهم تقديم اعتراض، وتصبح هذه الإجراءات باطلة ولاغية ويكون هناك حكم جديد [صادر عن المحكمة الابتدائية] مع إمكانية الاستئناف. وأضاف أنه لا يجوز للمحكمة تعيين محامين لتمثيل المتهمين في المحاكمات الغيابية.

أعرب محامو الأطراف المدنية عن مشكلة تتعلق بسماعات الترجمة الخاصة بالحضور الناطقين باللغة العربية، بعد أن أشار المدعي إلى وجود مشكلات في الاتصال.

[عُلِّقت الجلسة في الساعة 1:00 بعد الظهر واستؤنفت في الساعة 2:26 بعد الظهر]

******

شهادة الشاهد الخبير 2 فرانسوا بورغا (بورغا)

ذكّر رئيس المحكمة القاضي رافيو بأن القانون يحظر التقاط صور للمحاكمة، وأنه لا يجوز لمس سماعات الرأس.

بورغا، الذي وُلِد في عام 1948، يبلغ الآن من العمر 77 عامًا وهو متقاعد حاليًا من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، حيث كان يشغل منصب مدير الأبحاث. وتولى إدارة المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في دمشق. يقيم الآن في مدينة إكس أون بروفونس. سأله القاضي رافيو عمّا إذا كان يعرف المتهمين. فقال بورغا إنه لا يعرفهم بشكل شخصي، لكنه أكد أن علي مملوك معروف جيدًا لدى المهتمين بالشأن السوري.

أدى بورغا اليمين. وأوضح القاضي رافيو أن المدعية العامة استدعته ليدلي بشهادته أمام المحكمة.

بدأ بورغا بتوضيح مصدر المعلومات التي سيستند إليها في حديثه اليوم. وأوضح أنه كان مقيمًا في دمشق حتى كانون الثاني/يناير 2012، بعد اندلاع الثورة. إذ سُمح لعدد ضئيل جدًا من موظفي السفارة الفرنسية بالبقاء، ولكنهم أُجبروا على المغادرة في كانون الثاني/يناير 2012، بعد أربع سنوات من وجودهم هناك. من هنا اكتسب بورغا معظم معرفته. وبعدها انتقل إلى بيروت، التي شكلت مرصدًا متميزًا للأزمة السورية، حيث يمكن للمرء أن يكون مطّلعًا بشكل جيد. وفي بيروت، شارك بورغا في إدارة تأليف كتاب بعنوان "لا ربيع لسوريا". ولفترة طويلة، كانت هناك علامة استفهام [في نهاية العنوان]، لكنها أُزيلت عند نشر الكتاب. ركز المديرون على التحدث إلى أشخاص عاشوا الأزمة بأنفسهم، إذ كانت تلك هي الأصوات التي سعى بورغا لنقلها. وقبل تقديم أي تحليل، عَرَض بورغا ثلاث صور لتلخيص نهجه.

  • في عام 2011، اقترب بورغا من المظاهرات دون أن يشارك فيها ووجد أنها كانت سلمية تمامًا. وتذكر الهتافات عندما مرت المظاهرات بجوار الأحياء المسيحية. وأوضح أنه من باب التيسير، كانت المظاهرات تبدأ بعد صلاة الجمعة من المساجد، ولهذا السبب ذهب بعض الأصدقاء من الديانة المسيحية إلى المساجد. وفي في كل مرة كانت تمر المظاهرات عبر الأحياء المسيحية، كانوا يهتفون "الشعب السوري واحد، واحد، واحد!".
  • في تموز/يوليو 2011، زار بورغا مدينة حماة برفقة آلان غريش بعد مجزرة مروعة ارتكبتها قوات الأمن. أظهر لهم السكان محتويات هواتفهم المحمولة: إذ كانت تحتوي على صور جثث دامية وكل أشكال التمثيل بالجثث التي وقعت قبل ثلاثة أيام. ["ولاء وردة، إنها غالية" (لم تكن هذه العبارة واضحة لمراقبة المحاكمة)].
  • بعد ثلاثة أشهر، وجد بورغا نفسه وجهًا لوجه مع أحمد طلاس، أحد أفراد عائلة وزير الدفاع السابق، الذي قدم وصفًا كاملًا لما حدث في المظاهرة وما شاهده. وأشار بورغا إلى مدونة "عين على سوريا" التي كان يديرها فلاديمير غلاسمان وإينياس لوفيريي، وهو دبلوماسي فرنسي قريب نسبيا من أجهزة الأمن، ومدرس سابق للغة العربية يتمتع بخبرة كبيرة في هذا المجال. قال أحمد طلاس إن المظاهرة التي مرت أمامهم، والتي شارك فيها مئات الآلاف من الأشخاص، كانت سلمية تمامًا. إذ كان المحافظ قد منع إطلاق النار، وفجأة دوت طلقات نارية من ساحة الساعة. وجرى التعرّف على الجناة بعد فتح تحقيق. وعلم بورغا أنهم أكراد علويون، واتضح أن لا صلة لهم بـ[غير مسموع].

اقتبس بورغا عن فلاديمير غلاسمان قوله: "تكشف شهادة أحمد طلاس أن أعضاء خلية كانوا يسعون عمدًا لتصعيد العنف، إذ أطلقوا النار عمدًا بهدف القتل. ونظموا هجمات وهمية. وقد تأثر الجنرال طلاس بحقيقة عدم وجود أي مسيحيين بين الضحايا، لأن الهجوم كان مصممًا لتخويف المسيحيين".

قال أحد طلاب المعهد الفرنسي للشرق الأدنى لبورغا صارخًا: "أنا إنسان، ولست حيوانًا". وكان هذا الرجل، الذي رآه بورغا بعد بضعة أشهر، أميرًا لكتيبة من المعارضة الإسلامية. وهذا يُظهر أن السلطات كانت ترغب في تحويل هذا الصراع إلى صراع مسلح.

انتشر ما حدث في تونس ومصر مثل العدوى، ولكن سيكون من الخطأ تجاهل موقف النظام. فقد تصرف النظام بشكل معاكس تمامًا لما كان يدّعيه، وفعل بالضبط ما كان يتهم به معارضيه.

إذ اتهم النظام معارضيه بأن لهم علاقات مع قادة أجانب. في القضية الحالية، صُنِّف مازن بأنه مُسلم متشدد، لكنه اختار أن يسمي ابنه باتريك. ولو كان متشددًا حقًا، لما أطلق على ابنه هذا الاسم. كان النظام يتحدث دائمًا بلغة علمانية، لكنه كان يتصرف بطريقة عقائدية. وكثيرًا ما وُصفت الأزمة بأنها غامضة. وكثيرًا ما تحدث بورغا عن الأزمة السورية ودعا مخرج فيلم العودة إلى حمص للحوار. إذ تناول الفيلم مسيرة لاعب كرة قدم شهير يوضح أن الأزمة السورية ليست معقدة، بل بسيطة، وأوضح أنها ثورة شعب ضد دكتاتوره. لقد بذل النظام كل ما في وسعه لمنع الناس من رؤية الأزمة من هذا المنظور.

عَمِل النظام على تفكيك جبهة معارضيه، والتي كان لا بد من تقليصها إلى طائفة واحدة، وكانت الطائفة الأكثر خطورة، بالطبع، هي طائفة الأغلبية. لقد بذل النظام كل ما في وسعه لجعل الناس يعتقدون بأن الثورة هي ثورة سُنيّة بحتة. وكان هدفه الأساسي هو أن يُشعر المسيحيين بأنهم مهددون من هذه الثورة، بينما كان في الواقع ينفذ عكس ما كان يروج له في خطابه السياسي. في سوريا، كان من غير المقبول الحديث عن وجود تنوع ديني. ولكن في دمشق عام [2011]، بدأت الملصقات بالظهور في شهر آذار/مارس. وحتى وإن كان يتعذر تمييز المجتمعات ظاهريًا، إلا أن تنوع المجتمع كان واضحًا في أنماط اللباس. وكانت الملصقات تُظهر ممثلين عن المجتمع السوري وهم يجيبون جميعًا عن السؤال نفسه: "عندما يسألني أحدهم عن ديني، أقول إني سوري". كان هذا بمنزلة إشارة من النظام إلى أن استراتيجيته كانت مبنية على التفريق الطائفي.

كان النظام يعتزم ترسيخ هذا الخطاب بطريقة عملية أيضًا: كان القمع يُمارس بشكل مختلف حسب الانتماء الطائفي. إذ كان الدروز يُستهدفون بالغاز المسيل للدموع، في حين أن السنّة في حمص ودمشق كانوا يُستهدفون بالرصاص الحي. كان الأمر لعبة تقسيم عبر الانتماءات الدينية.

كان النظام، الذي يدّعي رفض الطائفية، يلعب على هذا الوتر بين قواته الشيعية وداخل صفوف حزب الله اللبناني. إذ كان الناس يسمعون روايات عن الدفاع عن مقام السيدة زينب، وهو مزار شيعي. وكان النظام أيضًا يعمل على سحق الطائفية المحتملة لدى المسيحيين.

وهناك طريقة أخرى لتلخيص استراتيجية النظام. إذ تمكن النظام من نقل المواجهة، التي خسرها في الساحة السياسية، إلى ساحة أمنية تحولت إلى صراع مسلح. وكان هدفه خلق حد أدنى من العنف بين معارضيه يكفي لتبرير استخدام الأسلحة. وكان النظام دائمًا يسبق المتظاهرين بخطوة عنيفة. إذ إنه رد بإطلاق الرصاص الحي أمام الخطاب السلمي. وعندما أطلقت المعارضة أول رصاصة حية، رد النظام بقذائف آر بي جي. وعندما استخدم المتظاهرون قذائف الآر بي جي -ولم يتجاوزوا ذلك- أصبحوا هدفًا لقصف عشوائي تمامًا. ومنذ البداية، صعد النظام سُلم العنف. ومنذ البداية، استُخدم البعد الجنسي، وقد استغرق الأمر وقتًا طويلًا لفهم أن هذا كان منهجيًا منذ اندلاع الصراع.

كان أطفال درعا أول من اقتُلعت أظافرهم، وعندما جاء آباؤهم لأخذهم قالوا لهم: "أنجبوا مزيدًا [من الأطفال]، أو أحضروا لنا زوجاتكم".

ذكر بورغا مثالًا آخر يُظهر التناقض بين ما كان النظام يدعيه حول معارضيه وبين ما كانوا عليه في الواقع، والذي يمكن ربطه بباتريك دباغ. ففي دمشق، كانت هناك جمعية ناشئة للتحليل النفسي، وهو ما لم يكن التيار السائد. وطلبت رئيسة الجمعية، التي كانت في باريس آنذاك، من المعهد الفرنسي للشرق الأدنى عقد اجتماع في مقره. وقررت هذه السيدة تكريس نفسها للعمل بين الأديان بمجرد اندلاع الثورة. لكنها اعتقلت وزُج بها في السجن بعد عودتها لاحقا إلى سوريا. إذ كان النظام يخشى المعتدلين وليس المتطرفين. وفي الواقع، أراد النظام أن يظهر المتطرفون علنا، وغذّى فكرَهم. وكما يعرف الجميع، أطلق النظام سراح أشخاص كانوا قد وُصفوا بالفعل بالجهاديين لأنه كان يعلم أنهم سينضمون إلى صفوف المتطرفين.

لقد ارتكب النظام فظائع. إذ عُثِر على المغني إبراهيم قاشوش وقد قُطِعت حباله الصوتية. وبُتِرت ساقا رجل متهم بالدوس على صورة لبشار. وحرصت المخابرات على أن يعرف الناس ما حدث. اقتبس بورغا مرة أخرى عن فلاديمير غلاسمان قوله: "منذ الأشهر الأولى للحرب، ارتكبوا جرائم حقيرة جدا، إذ عذبوا طفلًا يبلغ من العمر 13 عامًا وخصوه [...] وقد سربوا مشاهد تعذيب لا يمكن تحملها".

ولتشويه سمعة المعارضة، تجنب النظام الجهاديين بعد إطلاق سراحهم. وقد استُخدم القصف الجوي ضد المعارضة الأكثر قانونية وهيكلية. وكان القمع ضد العسكريين محددًا ومروعًا. وقد أجرى بورغا مقابلة مع جندي رفض إطلاق النار على المتظاهرين في درعا. إذ اعتُقل عشرون منهم وأوقِفوا لمدة عشرة أيام، وكانوا يظنون أنهم سيموتون، ولكن أُطلق سراحهم في النهاية وأعيدوا إلى وحدتهم.

طرح بورغا نقطة ثانية حول تَدويل هذه الأزمة. وقال إنه إذا كان الناس قد اجتمعوا اليوم، وإذا لم تكن أي هيئة قضائية سورية قادرة على القيام بالمهمة التي كانت تؤديها المحكمة، فذلك لأن النظام قد نجا. وكان ذلك لأن هذه الأزمة انتقلت بسرعة إلى أيادٍ أجنبية.

اقترح بورغا التمييز بين التَدويل على مستوى الدولة وعلى مستوى الكيانات دون الدولة. فالجهات الفاعلة الحكومية هي التي دعمت النظام أو المعارضة. وتتمتع الدول التي دعمت النظام بصفات ثبات لا جدال فيها، ألا وهي روسيا وإيران. ويمكن وصف سوريا بأنها محمية روسية إيرانية؛ إذ كانت مواقف روسيا وإيران ثابتة في دعم النظام. وكان الإيرانيون الشيعة يحبون أن يقولوا إنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية: بغداد وصنعاء وبيروت ودمشق. وأوضح بورغا أنه حظي بفرصة لمناقشة القادة الإيرانيين في إيران وأخبرهم أنهم يتباهون ويتظاهرون بأن دبلوماسيتهم تركز على الناس، لكنهم كانوا يدعمون ديكتاتورًا. وكان ردهم أن المسألة متعلقة بالأمان.

أخذ بورغا يشرح أسباب دخول روسيا الحرب. ففي إحدى المرات تحدث عن الأمر في الإمارات العربية المتحدة، إذ قال إن بوتن أراد إزعاج الغرب لأنهم دخلوا إلى منطقة نفوذه لإزالة نقاط ارتكازه الإقليمية. فسارع المعارضون [للنظام] إلى إبلاغ الروس بأنهم سيغادرون القواعد في طرطوس. فرد مستشار بوتن [على بورغا] بأن بوتن كان ينتقم لهزيمة السوفييت في أفغانستان. وقال بوتن إنه يحارب في سوريا، لكيلا يضطر إلى القتال غدًا، عند أبواب موسكو. وفي عام 2014، كان لدى بورغا اتصال بشخص حضر اجتماعًا بين بشار وبوتن وسمع [بوتن يقول] "طالما أنني رئيس روسيا، ستكون رئيسًا لسوريا".

كان أولئك الذين ساعدوا المعارضة هم الأتراك والغربيون، ومن بينهم الفرنسيون. ولتبسيط الأمور، قال بورغا إن الثورة السورية القانونية والطائفية أدت إلى ثورتين متجاورتين أخفتا الحركة الأولى، وهما: الثورة الكردية التي حشدت الانتباه التركي، إلى جانب الطرف المتطرف والجهادي. وفي مقال نشره بورغا في صحيفة لوموند [الصحيفة الفرنسية الرئيسية]، أوضح أن فرنسا ركزت فقط على عواقب تصرفات النظام. والذي كان الدفاع عنه أسهل بكثير في نظر الجمهور. إذ كان هناك نظام علماني وأشرار ملتحون. وكانت فرنسا تريد خلق معارضة سورية بالصورة التي تريدها، لكنها لم تقبل أن يكون لدى السكان درجة من التدين.

كان أولئك الذين دافعوا عن النظام يفعلون ذلك بفعالية كبيرة، بينما سرعان ما تراجع أولئك الذين دافعوا عن المعارضة. وقد قدر بورغا أن نسبة الأضرار التي تسبب بها تنظيم داعش إلى ضحايا النظام كانت واحد من عشرة. وكان الغرب سيركز على الموصل وينسى الثورة القانونية. وقال بورغا إن هناك ثلاث آليات أدت إلى ظهور هذه الجماعات المتطرفة وأبعدت الفاعلين الغربيين عن محاربة النظام. وأضاف أن هذه الآليات أنتجت تطرفًا طائفيًا شلّ الفاعلين الوطنيين وصرف انتباههم عمّا كان ينبغي أن يكون عملهم.

اجتمع جهاديون من 80 دولة مختلفة. وأعطوا سوريا طابعًا وطنيًا وزمانيًا مختلفًا، لأنهم كانوا يقاتلون على مستوى العالم الإسلامي. وكانت أساليب عملهم والهجمات الانتحارية والخطاب الطائفي علامات بارزة.

كانت الآليات الثلاث التي عرضها بورغا هي كالآتي:

  • حشد "السُنّة الغاضبين"، وهم أولئك الذين تركتهم الأنظمة السياسية العالمية وراءها وشعروا بالاستبعاد من منتدياتهم السياسية ورغبوا في عيش تجاربهم الدينية.
  • الخطأ المنهجي الفادح الذي ارتكبته الولايات المتحدة في العراق، إذ طردت مئات الآلاف من الجنود العراقيين من الجيش إلى الشارع. إذ كانت نواة تنظيم داعش تتكون من جميع هؤلاء الجنود الذين صاروا بلا عمل ودون أي موارد. ومن المهم جدًا التأكيد على هذه النقطة. ولهذا السبب لم يواجه تنظيم داعش أي معارضة من السكان في الموصل.
  • النظام السوري نفسه، بطريقتين: الأولى التي ذكرها بورغا بالفعل، والثانية كانت استخدام حيل الحشد الطائفي. إذ حشد النظام الأفغان ليأتوا ويحرروا مقام السيدة زينب. واستخدم اللغة نفسها التي استخدمها تنظيم داعش، ولكن باسم الانتماء الشيعي. إن النظام هو المسؤول بلا شك عن كل الفظائع التي ذكرها ماجد.

أسئلة المحاميَين بكتارت وبودوا لبورغا

أشارت المحامية بكتارت إلى ما قاله بورغا حول خطاب النظام بعد اندلاع الثورة السورية وطلبت منه توضيح الخطاب الحالي. وتساءلت عمّا إذا كان لدى بورغا أي تعليق على المقابلات مع بشار الأسد نفسه. فلم يرَ بورغا أن لديه معرفة كافية ليقدم معلومات عن الحياة اليومية للنظام. وعلى أية حال، يمكن للناس أن يروا أن النظام قد باع البلد عمليًا للأجانب ويحاول تغيير نسبة السكان الديموغرافية لجعلها شيعيةً في المقام الأول. وأكد بورغا على ضعف أداء الاتصالات المتعلقة بالأزمة السورية. إذ لم يكن هناك مصالح للنظام فقط، بل حاولت حكومات دولية أخرى فرض مصالحها.

كان جان لوك ميلونشون [سياسي فرنسي من اليسار المتطرف] ينكر دائمًا استقلالية الفاعلين السياسيين السوريين، وحدد هذا، مع الأسف، خطاب قسم كبير من اليساريين العرب. لذلك، كان كل من هاجم بشار في موضع مشتبه به. وقد قدس هذا الخطاب المعارضة لإسرائيل، التي يُعدّ بشار بطلها. وقال بورغا إنه كثيرًا ما يقتبس أقوال ياسين الحاج صالح، الذي شتم اليساريين العرب بشكل أخوي بالقول إن عليهم التوقف عن التفكير بأن [السوريين] ليسوا فاعلين.

ولم يكن هناك أي تجديد هيكلي للنظام السوري.

أشار المحامي إلى تحليل بورغا لخصائص القمع وسأله عمّا يمكنه أن يقوله للمحكمة عن ظاهرة الاختفاء القسري. فقال بورغا إنه كان يتحدث قبل ساعة إلى امرأة سورية ذكرت أختها التي اختفت، تاركة أطفالها بمفردهم لمدة ثلاثة أيام. وأوضح أن الاختفاء القسري هو أساس الأزمة.

وأضاف أن تطبيق الفيسبوك حُظِر في عام 2011، وبعد ثلاثة أشهر سُمح به مرة أخرى. وفي تشرين الأول/أكتوبر إلى تشرين الثاني/نوفمبر، حدثت موجة من الاعتقالات. إذ اختفى 1,500 شخص. وفي بعض الحالات، تمكنت عائلاتٌ من تحديد مكان أحبائها. ففي حالة السيد دباغ، هناك شهادة من شخص رآه في مركز للشرطة. [جملة غير واضحة]. اتضح أن الأجانب كانوا يتلقون معاملة خاصة، فلم يكن بالإمكان تحديد مواقعهم.

أشار المحامي بودوا إلى أن بورغا تحدث عن دولة تدعي العلمانية لكنها تلعب على الوتر الطائفي. وبما أن بورغا كان موجودًا في عام 2011، طلب منه بودوا أن يتحدث عن تجاربه الشخصية وما شعر به على أرض الواقع. وتساءل بودوا عمّا إذا كان ذلك إرهابًا، كما هو موضح في الملف. وبالنظر إلى العمل الجماعي على كتاب [لا ربيع لسوريا]، أراد بودوا معرفة ما يتذكره بورغا عن الجرائم المذكورة من خلال هذه الشهادات وأراد منه أن يشارك أفكاره حول الانطباع الذي حصل عليه من كثرة استخدام التعذيب الذي سمع عنه.

علّق بورغا على البيئة المهنية. وأوضح أن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى كان هو الهدف التقليدي للتحقيقات مع الدبلوماسيين. خلال الأسابيع الأولى، كان موقف السفارة [الفرنسية] هو منح مصداقية لخط النظام. واستدعت وزارة الخارجية السيد شوفالييه، لكنه في البداية، دعم النظام إلى حد ما. وكان الرجل من جهاز المخابرات يردد السردية التي ابتلعها زملاؤه. واستمرت هذه السردية لمدة ثلاثة أسابيع ثم تغيرت. ومنذ بداية تموز/يوليو، كان بورغا في حماة ورأى أسوأ الفظائع بأم عينيه. إذ شاهد هو وزميله هذه الفيديوهات مع الصوت. وقُبِض على صحفي مستقل من صحيفة لوموند [صحيفة فرنسية] بسرعة كبيرة، وكذلك المحلل النفسي [الذي أشار إليه بورغا سابقًا]. وبدأ القمع في وقت مبكر.

يعد كتاب "القوقعة" للكاتب مصطفى خليفة وصفًا تفصيليًا لسجن تدمر. وفي الوقت الحالي، يوشك بورغا على إنهاء تحرير كتاب حول تعذيب السجناء الليبيين والمصريين. إذ أخبره السجناء المصريون أن هناك لحظة يحاول فيها الجلادون إجبارهم على الاعتراف بشيء ما [تحت التعذيب]، ولكن بمجرد انتهاء تلك اللحظة، يتوقف التعذيب. أما في سوريا، فقد كان الوضع مختلفًا تمامًا؛ فلمدة عشر سنوات في تدمر، كان السجناء محشورين في زنزانة لا يمكن للجميع فيها أن يستلقوا في وقت واحد. وفي كل يوم جمعة، كانت الزنزانة تُفتح، ويخرج ثلاثة سجناء أو أربعة ليُشنقوا. وعندما كان السجناء يُخرجون على النقالات، كانوا يتعرضون للضرب. لقد وصل التعذيب في سوريا إلى مستوى [لم تتمكن مراقبة المحاكمة من سماع بقية الجملة].

ذكر بورغا صديقة له من حماة، أخبرته قصة يمكن أن تعطي للمحكمة فكرة عن الوضع. وأوضح أنه خلال القمع في حماة، قبل القصف العنيف، أطلقوا النار على جميع الرجال في المبنى الذي كانت تعيش فيه، وكانت أعمارهم تتراوح بين 8 و85 عامًا. إذ قُتِلوا جميعًا وكُوِّم بعضهم فوق بعض. وأضاف أن عمه هرب وتوفي بعد ثلاثة أسابيع؛ إذ فقد عقله.

لم يمارس التونسيون عُشر العنف الذي مورس ضد السوريين. وفي اليمن، كانت تحدث فضيحة إذا اعتُقِلت امرأة، بينما في سوريا، كانوا يعتقلون النساء بكل بساطة.

أشارت المحامية بكتارت إلى أن بورغا تحدث عن مدى تأثير مجزرة حماة على سوريا وحصيلة القتلى التي تراوحت بين 15 إلى 45 ألف قتيل. وسألت بكتارت عن سبب عدم إمكانية تحديد رقم دقيق لعدد القتلى. فأجاب بورغا بأنه لم تكن هناك صورة واحدة لمجزرة حماة، ولم يكن هناك توثيق. وأضاف أن ما يحدث في غزة لا توثقه الصحافة، ولكن هناك مقاطع فيديو. وأخبر بورغا العرب بأن التمرد الأول كان في حماة. وكانت الصدمة كبيرة لدرجة أن المجتمع أدرك تمامًا ما كان يواجهه.

أسئلة المدعية العامة لبورغا

شكرت المدعية العامة فيجيا بورغا على الشهادة التي أدلى بها. وطرحت سؤالها الأول حول أجهزة المخابرات، مشيرة إلى أن بورغا قد استُمع إليه في محاكمة أخرى، وأوضح أنه بعد مجزرة حماة، لم يتوقع حزب البعث اندلاع الثورة، وبالتالي نقل النظام السلطات إلى أجهزة المخابرات. وسألت عمّا إذا كان بورغا يستطيع التحدث عن هذا التحول.

فقال بورغا إنه مدين بهذا التفسير لغلاسمان، والذي قال إن حافظ الأسد أدرك أن حزب البعث والجيش السوري كانا عديمي الفائدة. لذلك، بدءًا من نواة المخابرات، نقل السلطة إلى منظمات مستقلة ومتنافسة. وذكر بورغا قصة سوري عاد من فرنسا، واعتُقل عدة مرات. إذ اعتقله أولًا جهاز معين، ثم اعتقله جهاز ثانٍ، طلب منه المعلومات نفسها التي طلبها الجهاز الأول. وأشار بورغا إلى عبارة "كاتب تقارير"، موضحًا أن واحدًا من كل اثنين من السوريين أصبح "كاتب تقارير".

ذكر بورغا حكاية أخرى عن فتاة شابة كانت تذهب لركوب الخيل مع باسل [الأسد]. وعادت إلى إكس أون بروفونس [فرنسا]، حيث يملك الكثير من العاملين في الأجهزة الأمنية عقارات. فدعوها وقالوا لها: "صديقك هذا "بورغا" لم يعد في دمشق، بل انتقل إلى بيروت، لذا أصبح من الصعب متابعة تحركاته. وكانت عاملة التنظيف الخاصة به حمقاء؛ وكانت الأجهزة الأمنية تستدعيها كل أسبوع". وأشار بورغا إلى أنه كان يتجول أمام مقر المخابرات الجوية في الساعة السادسة صباحًا في أحد الأيام، ويلتقط صورًا للجداريات الضخمة. فظهرت دراجة نارية، ثم جاءت دراجتان، رغم أن الدراجات النارية كانت ممنوعة في دمشق. وطلبوا منه حذف الصور التي التقطها. وخلص بورغا إلى أن الوجود الطاغي للأجهزة الأمنية كان العلامة المميزة للنظام.

ذكرت المدعية العامة فيجيا المنافسة بين أقسام المخابرات وميولهم إلى تعيين قادة يكرهون بعضهم بعضًا. وتساءلت عمّا إذا كانت هناك محاولات للتنسيق بينهم، لأن ما أظهرته الإجراءات هو أنهم كانوا يتواصلون باستمرار، ويرسلون ملاحظات إلى مختلف الفروع والأقسام. وقالت فيجيا إن المرء يشعر وكأن هناك نوعًا من التداخل بينهم.

أجاب بورغا بأن علي مملوك أصبح الشخص المطلع على كل ما يجري، وكان أكثر اطلاعًا عندما يتعلق الأمر بالأجانب. إذ كان النظام دائمًا يخشى الغربيين. وهناك أسباب كافية للاعتقاد بأن مدير المخابرات كان على دراية تامة باحتجاز المواطنين الفرنسيين. ولا يعتقد بورغا أن أي شيء حدث دون علم علي مملوك.

أشارت المدعية العامة فيجيا إلى كتاب بورغا الذي أُدرج ضمن الأدلة، وتحديدًا إلى الصفحة 33، حيث تحدث عن السيطرة على حياة السوريين. واقتبست منه قائلةً "لقد توسعت أنشطة أجهزة المخابرات [...] وأصبحت هذه الحالة مصدرًا للإثراء من القاع إلى القمة [...]". وسألت بورغا عمّا إذا كان يرى أن هذا الوصف يعكس بُعدًا من الفساد المتفشي. فأجاب بورغا بأن أفراد أجهزة المخابرات كانوا يستفيدون ماديًا من الوضع. إذ كان جميع سائقي الدراجات النارية من العلويين. بينما كان سائقو سيارات الأجرة غالبًا من السنّة. وكان الأسلوب الذي اتبعته الأجهزة الأمنية للاستيلاء على فيلا الضحية واضحًا جدًا. وكانت أجهزة المخابرات موجودة في كل مجال. وكانت الأموال تسهل بعض المعاملات.

سألت المدعية العامة فيجيا عمّا إذا كانت لدى بورغا أي معلومات عن محاولات النظام لابتزاز السجناء عن طريق تقديم الوعود لعائلاتهم بإطلاق سراح ذويهم رغم أنهم كانوا قد توفوا بالفعل. فأجاب بورغا بأنه سمع عن ذلك من مصدر ثانوي. وكان الاستثناء في حالة دباغ أنها لم تنجح؛ في حين أنه عادةً، كان يمكنك معرفة مكان وجود الشخص بدفع المال.

عادت المدعية العامة فيجيا إلى موضوع خصوصية دمشق. إذ قال بورغا في كتابه إن شبكة الأمن كانت أكثر تشددًا. وسألت عن الأماكن التي كانت فيها هذه الشبكة قوية جغرافيًا، وما هي هذه الشبكة القوية بشكل خاص التي أشار إليها بورغا.

ذكر بورغا حيًا مسيحيًا في المزة، حيث شهدت المنطقة تطويرًا عقاريًا. أما بالنسبة للشبكة الأمنية، فقد كانت لدى بورغا حكاية أخرى. قال إن المظاهرات كانت تجري يوم الجمعة، وأنه كان بالإمكان ملاحظة أشخاص مشبوهين مساء الخميس. إذ كان النظام يرسل عمال نظافة بأعداد مبالغ فيها، وكان الجميع يعرف أن جميعهم علويون. لذلك، كان النظام يتخذ تدابير مسبقة ويضع عمال النظافة في المواقع التي يتوقع أن تحدث فيها المظاهرات. وعند المركز الفرنسي، كان بائع الصحف يحتفظ بقائمة كاملة لكل من يدخل ويخرج.

عرض رئيس المحكمة القاضي رافيو صورة جوية لمدينة دمشق، حيث ظهر المطار على الجانب الغربي منها. أوضح بورغا أن القصر الرئاسي يقع على سفح جبل قاسيون. وأضاف أن الرئيس يمتلك فيلا أكثر انعزالًا. قال القاضي رافيو إن جامعة دمشق كانت مرئية أيضًا. فقال بورغا إن هذا الحي شهد حريقًا تسبب فيه الفرنسيون، وأدى إلى مقتل 1500 شخص في عام 1925.

اقترحت المدعية العامة فيجيا عرض خريطة أكثر وضوحًا موجودة في الملف، والتي عرضها القاضي رافيو قائلًا إنها أقل وضوحًا. علّق بورغا قائلًا إن المدرسة الثانوية كانت قريبة جدًا من المكان الذي مات فيه الناس تحت التعذيب. وسألت فيجيا عمّا إذا كان بإمكانه تحديد موقع القصر الرئاسي، فأجاب بورغا بأنه كان على اليسار في منطقة يصعب الوصول إليها في جبل قاسيون. وأضافت المحامية بكتارت أنه كان من الواضح مدى قرب القصر الرئاسي من قاعدة المزة الجوية. وأكد بورغا أن القصر الرئاسي يقع على ارتفاع أعلى.

[عُلِّقت الجلسة في الساعة 3:52 بعد الظهر واستؤنفت في الساعة 4:30 بعد الظهر]

******

شهادة الشاهدة الخبيرة 3 غارونس لو كين (لو كين)

قدّم القاضي رافيو الشاهدة دوروثي كاميل غارونس لو كين، المُقيمة في مدينة رين (بفرنسا). وسألها عمّا إذا كانت تربطها أيَّة علاقة بالمتهمين، وهو ما نفته لو كين. وأدّت اليمين بصفتها شاهدة.

أوضحت لو كين أنها تعمل في الشأن السوري منذ عام 2011، وقد زارت البلد عدة مرات منذ اندلاع الثورة والحرب التي تبعتها. وبعد عام 2014، انصبَّ تركيزها على نظام السجون السورية. ففي عهد نظام حافظ، اختفى ما يقدر بنحو 17 ألف شخص. وفي تلك الفترة، كان الأمر أقرب إلى ترهيب الناس، ولكنه لم يكن في صميم سياسة النظام. ولكن منذ عام 2011 فصاعدًا، اشتدَّت وتيرة بطش النظام. إذ اعتقد بشار الأسد وأركان نظامه أنهم مُعرَّضون لفقدان السلطة، فشنّوا حملة قمع غير مسبوقة، وبدأوا حملات اعتقال أشخاص أكثر فأكثر. وكان يحدث الاعتقال عادةً دون مذكرة اعتقال. وأضافت لو كين قائلة إن الشخص كان يختفي بكل بساطة، وهو أمر يصعب علينا استيعابه هنا. إذ إن المرء قد يذهب لمجرد المشاركة في مظاهرة أو حتى لشراء الخبز، ويختفي. وُعُدت هذهّ طريقة للسيطرة على المعلومات. وأوضحت أن هناك أربعة أفرع مُخابرات [أجهزة مخابرات سورية]: [الجهاز الأول غير مسموع] والمخابرات العسكرية والأمن السياسي والمخابرات الجوية. وتنقسم هذه الأجهزة إلى فروع تُشرف على العديد من مراكز الاعتقال المنتشرة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. وقد تكون هذه المراكز موجودة في مراكز الشرطة، أو في الطابق الأرضي لأحد المباني، أو في صالات رياضية مهجورة، أو في أي مكان آخر. وعادةً ما تكون أجهزة المخابرات هي المسؤولة عن عمليات الاعتقال.

تابعت لوكين قائلة إنه يصعب تفسير الأمر، ولكنه أشبه بالاختفاء عن وجه الأرض. إذ تنقطع أخبارك عن أهلك تمامًا. والسبيل الوحيد للحصول على أي معلومة هو دفع "بقشيش" [رشوة] لأشخاص من النظام. وقد يظهر الشخص فجأةً في مرحلة ما، بعد أن يُحاكم على عُجالة في محاكمة صُورية. ثم يعود اسمه للظهور، ويُزَجّ به في السجن. وادّعت لو كين أن هناك فرقا بين مراكز الاعتقال والسجون.

لتوضيح كيفية اطِّلاعها على هذه الحقائق، أشارت لو كين إلى أن الفضل في ذلك يعود إلى [المعلومات والأدلة] التي جمعها السوريون. وأضافت لو كين مؤكدة أنه رغم أن هذه الجهود لاقت صدىً واسعًا في أوكرانيا مؤخرًا، لكن السوريين سبقوهم في جمع [المعلومات والأدلة] بزمن طويل وبطريقة مذهلة. بل إنهم درَّبوا أنفسهم على جمع الأدلة بشكل احترافي. فعلى سبيل المثال، عند تصوير مبنى مُدمَّر، لا يقتصر التصوير على المبنى نفسه، بل يشمل المناطق المُحيطة به أيضًا، لتحديد موقعه الجغرافي بدقة. وقد طالب الغربيون باتِّباع هذه المنهجية.

لقد أحسنوا جمع الأدلة والمعلومات لأنَّ [مذبحة] حماة عام 1982 لا تزال ماثلة في أذهان السوريين. ففي البداية، كان السوريون يفعلون ذلك لأنفسهم، ثم من أجل إيصالها للصحفيين، مثل لو كين التي تعذَّر عليها الوصول إلى هناك، ولتنبيه العالم والمنظمات المُختلفة [مثل المنظمات [غير مسموع]، من بينها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير].

ومن بين ما جمعوه، توجد صور تُعرف باسم "ملف قيصر"، التقطها شخص كان يعمل مُصوّرًا في الشرطة العسكرية التابعة للنظام. إذ كان يقع مقرّها في حيّ القابون بدمشق. وكان قيصر يعمل في الشرطة العسكرية لسنوات عديدة، إذ كان مسؤولًا عن تصوير جثث الجنود لأغراض القضاء العسكري، بغضِّ النظر عن سبب الوفاة، سواءً كان حريقا أو جريمة قتل أو غير ذلك. وكان يملأ الاستمارات اللازمة للقضاء العسكري. وفي آذار/مارس 2011، كُلِّف بالذهاب للتصوير في مشفى تشرين في الشمال، في حيّ برزة. وفي البداية، كانت على الجُثث أسماء، ولكنها استُبدلت تدريجيًا بأرقام مُكوَّنة من ثلاث خانات.

كان الرقم الأول يُشير إلى رقم المُعتقل، ثم رقم الفرع الذي يتبع له مركز الاعتقال. وفي كل صباح، قُبيل وصول المُصوّر، كان طبيب شرعي من الجيش يكتب رقمًا ثالثًا على ورقة بيضاء تُوضع على الجُثة. كان هذا الرقم الأخير يشير إلى تسلسل أرقام الجثث التي يُصوّرها هذا الفريق. إذ تبدأ هذه الأرقام من خمسة آلاف وصولًا إلى [غير واضح] مع إضافة رموز مثل 1A ثم 1B، أي أنها تُشكّل سلسلة من الأرقام. ومن الواضح أنَّ هذه الوفيات لم تكن طبيعية، فمعظم الجُثث كانت عارية أو بالملابس الداخلية فقط. وقد بدت عليها آثار سوء التغذية الشديد والتجويع. ولأن رقم مركز الاعتقال كان ظاهرا [على الجثة]، كان الأمر كما لو أن لديك توقيع المكتب، لأن هذا هو المكان الذي أتى منه المعتقل.

في محاكمة كوبلنتس، كان هناك تقرير أعده خبير يُدعى د. ماركوس روتشيلد. واللافت في الأمر أنَّ هذا الخبير، من خلال تحليله لما يربو على 27 ألف صورة تُوثِّق أوضاع 6,700 مُعتقل، كشف النقاب عن الطابع المنهجي للتعذيب وأساليب المعاملة التي تعرَّض لها هؤلاء المُعتقلون. وقد خلص التقرير إلى أنَّ التعذيب كان منهجيًا. وممَّا ساعد د. روتشيلد على استخلاص هذه الطبيعة المنهجية [المُتَّبعة في التعذيب وإساءة المعاملة] هو أنه [نفسه] ارتبك وخلط بين بعض الصور في بعض الأحيان.

تابعت لو كين موضحة أن السجون موجودة لتعذيب السوريين، لا للحصول على معلومات. فالغاية من التعذيب ليست انتزاع الاعترافات، بل لإسكاتهم. فما إن تمتدّ يد أحدهم عليك، حتى يُصبح جسدك وكأنه ساحة حرب. عندها، يبلغ المرء حدّ الانهيار، جسديًا ومعنويًا، ولا يعود بعده كما كان أبدًا. وفي بعض الأحيان يصعب تصوُّر ذلك، لكنَّ بعد الاستماع إلى شهادات الناجين تدرك أنَّ هناك مرحلةً فاصلة بين ما قبل التعذيب وما بعده.

ففي هذه المراكز، اكتظت الزنازين بالمعتقلين، ولم يُسمح لهم بالذهاب إلى المرحاض لقضاء حاجتهم إلا مرة أو مرتين في اليوم، هذا إذا حظوا بمعاملة حسنة. وكانوا يتناوبون على النوم. ويفقد المعتقل إحساسه بالزمان والمكان، ويُحرم من رؤية ضوء النهار، فيعيش في عالم آخر، بين الحياة والموت، لا سيَّما إذا كان يُعدّ شخصًا مفقودًا. ويستغرق الأمر من الغربيين وقتًا طويلًا لاستيعاب ذلك. ويُصاب الكثير من السجناء بانفصال عن الواقع. على سبيل المثال، بدأ [حُجب الاسم] الذي قضى سبعة أشهر في المعتقل، يُعاني من هلوسات. فقد شعر بيد تُلامس رأسه، فطلب من شخص أن يُعيد وضع يده على رأسه، ثم أدرك أنَّ ما شعر به لم يكن سوى هلوسة. وفي موضعٍ آخر، روى مشهدًا لم يتمكَّن فيه من التعرف على نفسه في المرآة.

لم تجد لو كين سبيلًا لمحاولة فهم ما جرى إلا بالعودة إلى مؤلفين احتُجِزوا في مراكز الاعتقال. إذ إنها شعرت بالحاجة إلى كلمات جديدة للتعبير عن ذلك. ومن بين ما قرأته لشارلوت ديلبو [كاتبة فرنسية اشتهرت بمذكَّراتها عن تجربتها بصفتها سجينة في معتقل أوشفيتز]، رسخت في ذهنها عبارةٌ تقول: "أولئك الذين عادوا لم يخرجوا حقًا". وأوضحت أنه قد يُطلق سراح المرء، لكنَّه لا يخرج حقًا. هذا الصدع يعني أن المرء يحمل ذكريات مزدوجة، ذكرى الاعتقال وذكرى ما خلَّفه من آثار.

ثم روت لو كين قصة [حُجب الاسم] الذي اعتقلته أجهزة المخابرات الجوية لشهرين إلى ثلاثة أشهر، وكان طوال تلك المدة يُردّد أنه "لا يقوى على الاتصال". ولم يجد الراحة إلا عندما كان يلفّ عمامة حول رأسه. وهكذا استعاد شيئًا من طمأنينته بعد خروجه من مراكز الاعتقال. وقالت لو كين إن التعذيب شيء يبقى بداخلك.

في رأي لو كين كانت حالات الاختفاء القسري نوعًا آخر من التعذيب. وأكّدت مرة أخرى أن الكلمات تعجز عن وصف هول هذا الأمر. فقد تحدثت عائلات المفقودين عن شعورهم بالدوار، وفجوات واسعة تُشبه ذُعر الحواس. إذ لا يبقى للإنسان ما يتشبَّث به سوى آخر الكلمات التي نطق بها [أحبَّاؤه]. يكاد المرء يقول إنَّ الاختفاء القسري ليس له وجود حقيقي، فالهدف منه هو إحداث صدع بين الأفراد والعائلات. فهو موت اجتماعي ورغبة في قتل السياسة ووسيلة لبسط السيطرة على الناس. وإن حجب المعلومات يُعدّ شكلًا من أشكال التعذيب.

أشارت لو كين إلى قصة [حُجب الاسم] P1، المتزوجة من [حُجب الاسم] P2. إذ اعتاد زوجها توزيع الحليب في الأحياء المحاصرة، واستغرق الأمر منها ستة أشهر للعثور عليه. وبعد ظهور اسمه مجددًا، نُقل إلى أحد السجون وتمكَّنت [حُجب الاسم] P1 من زيارته. وذكرت أنها لم تتعرف عليه في اللقاء الأول، حتى إنها طلبت منه قائلة "أرجوك يا [حُجب الاسم] P2، قل لي شيئًا يخصنا فقط". وأدركت أنه لم يعد يمشي على نحو طبيعيّ، وأنه فقد بصره. قالت لو كين إنه بمجرد لمّ شمل الأشخاص بأحبائهم، تتحوَّل حياتهم إلى سلسلة من الزيارات وإعداد الوجبات لهم، أو توفير المال لرشوة السجانين ليقدموا لهم بعض الاهتمام. لهذا السبب تعتقد لو كين أن الاختفاء القسري هو شكل من أشكال التعذيب المُمارس على العائلات. ففي كثير من الأحيان، لا يتمكن الشخص من العثور على أحبائه لأنهم لا يظهرون ولا يُزج بهم في السجن. وقد نجحت العديد من العائلات في العثور على أحبائها في ملف قيصر.

أشارت لو كين إلى الجمعية السورية للمفقودين ومعتقلي الرأي التي تتخذ من إسطنبول في تركيا مقرًّا لها، والتي نشرت صورًا لوجوه المعتقلين على موقعها الإلكتروني. قد يستغرب البعض من عدم وجود إحصائية دقيقة [لعدد الأشخاص في ملف قيصر]، إلا أنَّ الخبراء لم يتمكَّنوا من تحديد هويَّة بعض الجثث. ويُذكر أن 80% من هؤلاء المعتقلين كانوا من سجناء فرعي 215 و227، في حين أن 5% منهم كانوا من سجناء أجهزة المخابرات الجوية. وقد التُقطت صور قيصر في 24 مركز اعتقال داخل دمشق وضواحيها.

أوضحت لو كين أن تقديرات الجمعية السورية للمفقودين ومعتقلي الرأي تشير إلى وجود 1,500 عائلة كان ذويهم جزءًا من الملف. وبالنسبة للكثيرين، كان العثور على ذويهم بين هذه الصور أمرًا مريحًا، لأنهم عرفوا بهذه الطريقة [مصيرهم]. إذ إن العيش في ظلّ الغياب صعب، ومعرفة المصير تُعدّ راحة، لا سيَّما إذا تمكَّن المرء من التعرُّف على ملامحِ ذويه، إذ يعني هذا أنه لم يتعرَّض لتشويه كبير جرّاء التعذيب..

تحدثت مريم الحلاق، المؤسسة المشاركة لرابطة عائلات القيصر، عن شعورها بالارتياح عندما تمكَّنت من التعرّف على صورة ابنها، وهو طالب طب أسنان يبلغ من العمر 25 عامًا. إذ اعتُقل بعد أن تعرَّض للضرب في جامعته، ثمَّ اختفى. وبعد عامين أو عامين ونصف، تمكنت مريم من رؤية صورته، وشعرت بالارتياح لرؤية أن ابنها لم يتعرض لمعاملة سيئة للغاية.

وحتى بعد التعرّف على أحبائهم، لا تزال الشكوك تُراود بعضهم، ويتساءلون قائلين "ماذا لو لم يكن هو؟"، فهم لا يملكون الجثة ولا يعرفون ظروف الوفاة. وتشكّل هذه الصور أرشيفًا للغياب، وتجسيدًا للطمس والمحو. ويستمر هذا الغياب لأنّ جثث الضحايا أُلقيت في مقابر جماعية. وإن كلّ ما تريده مريم هو قبر لابنها، لتتمكن من الجلوس بجواره [غلبت لو كين عاطفتُها].

وقد أثارت إعجاب لو كين الروح القتالية التي يتحلَّى بها السوريون الذين يقاتلون ضد هذا النظام. وروت قصة [حُجب الاسم]، الذي كان مقربًا جدًا من شقيقه، وتعرّف عليه في صور قيصر. قال إنَّ شقيقه [حُجب الاسم] كان محبوبًا ولديه العديد من الأصدقاء. وأضاف أنه كان سعيدًا لأن [شقيقه] دُفن مع أربعة آلاف شخص آخر، ولم يُدفن وحيدًا. وكأنّ لسان حالهم يقول "تبًا لك يا بشار الأسد، فحتى في المقابر الجماعية، نحن معًا". إذ أظهرت هذه الرسالة للنظام مدى رفض السوريين الخضوع للخوف.

قالت لو كين إنها لا تعتقد أن الناس في الغرب سيستوعبون هذا الخوف على حقيقته أبدًا. وأوضحت أنه قد يتسنَّى لهم الاقتراب منه، لكنَّها تشكُّ في أنَّهم سيختبرونه بأنفسهم يومًا. ولهذا السبب تُعدّ قصة حنان وعبيدة مثالًا يُحتذى به. وقالت لو كين إنها هي و[حُجب الاسم] تابعاهما لعدة سنوات، وقد تملَّكهما الخوف، لكنَّهما لم يستسلما وواصلا المسير. وأدركت لو كين مدى قوتهما، وأضافت أنه لا شك في أنّ محاميهما والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وكذلك مازن درويش قد قدّموا لهما دعمًا سخيًّا.

ولأنّ النظام يسعى إلى فرض الصمت، فهو يريد قتل الذاكرة وخلق فراغ وخواء. فلقد عَمد [النظام] إلى إتلاف مئات من كتب مازن وألبومات الصور التي كان يمتلكها. وأضافت أن هذه المعركة تدور أيضًا حول الذاكرة وحول رواية الحقيقة.

أردفت لو كين قائلة إنه عندما يدرك المرء إلى أي حدّ يسعى التعذيب إلى فرض الصمت [توقفت عن الكلام وغلبتها عاطفتها]. في اليوم الذي أقامت فيه حنان وعبيدة عزاءً لمازن وباتريك في منزلهما، في أواخر عام 2018، وقُبيل وصول أصدقائهم لتقديم العزاء، دنا والد حنان من عبيدة وأعطاه ربطة عنقه، وبدا من الخارج وكأنه تجاوز المعاناة، رغم أنّ عبيدة كان يعيشها بدوره. وعندما نأخذ في الاعتبار أن والد حنان نفسه كان قد تعرَّض للتعذيب وأخبر عائلته بذلك، فإن المرة الوحيدة التي تحدث فيها عن ذلك كانت في المشفى. وقالت لو كين إنَّها تعجز عن وصف الأمر، لكن تسليم ربطة العنق قُبيل بدء العزاء كان بحدّ ذاته بمثابة صورة.

أسئلة رئيس المحكمة القاضي رافيو للو كين

سأل القاضي رافيو لو كين عمّا إذا كان بإمكانها أن تعطي المحكمة بعض الإحصاءات حول المعلومات التي وثّقها المصور العسكري، نظرًا لعملها على هذه الملفات وتأليفها كتابًا حول الموضوع. وأراد تحديدًا معرفة عدد الصور، وأشار إلى ذكر العدد 45 ألف.

أجابت لو كين بأن عدد الصور يتراوح بين 53 و54 ألف صورة. وقد شابَ تحديدَ الرقم الدقيق بعضُ اللبس في مرحلة ما. وأوضحت أن ملف قيصر يتكوّن من ثلاثة مجلدات فرعية: مجلد خاص بملفات المعتقلين، ومجلّد آخر خاص بملفات الجنود، بالإضافة إلى مجلد صغير يحتوي على صور لمدنيين قُتلوا. ويضمّ مجلد المعتقلين نحو 27 ألف صورة. أمّا الرقم 45 ألفًا فقد ورد لأنه من بين الـ27 ألف صورة الخاصة بالمعتقلين، كان آخر رقم دوّنه الطبيب الشرعي في الصورة الأخيرة يبلغ 11 ألفًا. في حين أن عدد الجثث الموثقة في ملف قيصر يبلغ 6700 جثة.

أراد القاضي رافيو توضيح ما إذا كانت لو كين تقصد الطبيب الشرعي التابع للنظام السوري. فأكّدت لو كين ذلك. ثم سأل القاضي عن تاريخ نشر الصور، والفترة الزمنية التي تغطيها. فقالت لو كين إنها نُشِرت في أواخر صيف عام 2023، وذلك لأسباب أمنية.

سأل القاضي رافيو لو كين عمّا إذا كان من الممكن تحديد مراكز الاعتقال من خلال الأرقام المُصورة. وذكّرها بأنها ذكرت ثلاثة مراكز اعتقال وأراد منها توضيح ذلك. فقالت لو كين إن الفرع 215 التابع لجهاز المخابرات العسكرية يمثل 50% [من الجثث المُصوّرة]، في حين أن الفرع 227 التابع للجهاز نفسه يُمثّل حوالي 30%، بالإضافة إلى صور أخرى تعود لأمن الدولة والمخابرات الجوية، وعدد قليل من الصور من الشرطة العسكرية، فضلًا عن صور من الفرع 248. فهم القاضي رافيو أن هناك خمسة أجهزة مختلفة على الأقل، فأوضحت لو كين أن الصور جاءت من 24 مركزًا، لكنّ غالبيّتها تعود للفرعين 215 و227.

أشار القاضي رافيو إلى المعتقلين من العسكريين والمدنيين الذين تحدثت عنهم لو كين، وسأل عن التمييز الذي وضعته بين العسكريين والمدنيين وما إذا كان جميع المعتقلين مدنيين. فأكّدت لو كين أن المعتقلين كانوا من المدنيين فقط.

طلب القاضي رافيو من لو كين أن تعطي المحكمة فكرة عن عدد الشهادات التي تلقتها من أشخاص اعتُقِلوا تعسفيًا، وقدّموا لها معلومات عن ظروف اعتقالهم. فأجابت بأنها جمعت نحو عشرين شهادة، وكانت شهادات مُطوّلة.

قال القاضي رافيو إن عددًا معينًا من الشهادات المقدَّمة في هذه المحاكمة تتعلق بأشخاص أُطلِق سراحهم في نهاية المطاف. في حين أن آخرين لم يُطلق سراحهم واختفوا. وسأل، بناءً على عمل لو كين، عمّا إذا كانت لديها أي معايير تُفسّر سبب إطلاق سراح بعضٍ دون غيرهم. وساقَ مثالًا [حول قضايا مثل قضية] صهر باتريك الذي أُطلِق سراحه وإشارته إلى تعرض باتريك للتعذيب. فقالت لو كين إنه لا ينبغي للمرء أن يبحث عن معايير ثابتة وراسخة في هذا النظام. وأضافت أنه لا يمكن الإفراج عن أي شخص دون واسطة، وكلما اتسعت دائرة معارف الشخص، سهل عليه استغلال علاقاته [لإطلاق سراحه]. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن من يعرف شخصًا ذا نفوذ سيُطلق سراحه حتمًا.

سأل القاضي رافيو عن الاعتقال التعسفي الذي ذكرته لو كين. وطلب منها أن توضّح المعايير التي كانت تستخدم لاعتقال الأشخاص الذين لم يكونوا معارضين للنظام. فأوضحت لو كين أن النظام استهدف في البداية الصحفيين والناشطين وغيرهم. ولكن بعد اعتقال هؤلاء الأشخاص، كانت تُنتزع منهم أسماء أشخاص آخرين تحت التعذيب لم يكونوا معارضين. وكان من الممكن اعتقالهم أيضًا؛ إذ كان يمكن للنظام أن يذهب ويعتقلهم. لم يكن هناك أيّ منطق أو معيار مُحدَّد للاعتقال. وقد بلغت وتيرة [الاعتقالات] ذروتها في عامي 2011 و2012 لدرجة أن الزنازين كانت مكتظة بالمعتقلين. وقد أفاد شهود من الفرع 248 بأنَّهم لم يعودوا يعرفون ما يفعلون بالجثث المكدَّسة.

أشار القاضي رافيو إلى وجود محاكمات أو محاكمات صُورية ذكرتها لو كين، وأراد معرفة الجهة التي كانت تُجري هذه المحاكمات. فقالت لو كين إن ذاكرتها لا تسعفها في هذه النقطة. وقالت إنهم أنشأوا ولاية قضائية خاصة في بداية الثورة، وكان يمكن محاكمة المعتقلين أمام هذه الولاية أو أمام محكمة عسكرية تقليدية. وأضافت أنه إذا كان الشخص يعرف القاضي شخصيًا [نهاية الحديث غير واضحة]. وأكّدت مرة أخرى على أنّ الأمور كانت تسير دون منطق.

سأل القاضي رافيو عمّا إذا كانت نسبة أحكام الإعدام التي صدرت معروفة. فنفت لو كين ذلك. سأل القاضي رافيو أيضًا عمّا إذا كانت نسبة الرجال والنساء والأطفال بين الضحايا الذين التقطت صورهم معروفة. فأجابت لو كين بأن معظم السجناء كانت تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عامًا. وأضافت أن بعضهم كانوا فتيانًا وأطفالًا. وأشارت إلى وجود امرأة واحدة فقط بينهم، لأنّ أماكن احتجاز الرجال والنساء كانت منفصلة. ففي بعض الأحيان يكونون في المبنى نفسه، لكن في طوابق مختلفة، وبالتأكيد ليس في الزنزانة نفسها. وأضافت أنّ وجود صور لنساء سيكون أمرًا مستغربا جدًا لاعتبارات الحشمة. وقد ظهرت هذه المرأة في الصورة وهي ترتدي كامل ملابسها. خلص القاضي رافيو إلى أن [احتجاز النساء] كان هامشيًا. فقالت لو كين إنها لن تذهب إلى حد القول بأنه كان هامشيًا، موضحة أنّ الأمر قد يقتصر على نطاق عمل فريق قيصر فحسب.

أشار القاضي رافيو إلى الأرقام الثلاثة التي شرحتها لو كين، وبالتحديد الرقم الثالث الذي كان يلصقه الطبيب الشرعي. وسأل عن مصير [الجثث] بعد ذلك. فأوضحت لو كين أنّ الجثث كانت تنقل بواسطة شاحنات مبردة، ثم امتلأت المشرحة بالجثث أكثر فأكثر. وكان من الصعب استيعاب هذا العدد الكبير من الجثث في شمال دمشق، لذلك نُقِلت الجثث إلى مشفى المزة العسكري. حيث كانت توضع الجثث في مرائب تقع جنوب المشفى العسكري، على بعد مائة متر من المدرسة الفرنسية الثانوية في دمشق. ويبدو أن بعض هذه الجثث بقيت هناك فترة من الزمن [غير مسموع].

سأل القاضي رافيو عمّا إذا كانت هذه الجثث نفسها هي التي نُقِلت لاحقًا إلى المقابر الجماعية. فأكّدت لو كين ذلك، وقالت إن هذه المواقع مسجلة. ودارَ الحديث عن وجود مقابر جماعية في منطقتي [موقعان لم تتمكن مراقبة المحاكمة من سماعهما بوضوح، يحتمل أن لو كين كانت تشير إلى مدينة القطيفة ونجها]. وسأل القاضي رافيو عمّا إذا كانت لو كين تعرف عدد المقابر الجماعية هناك. فنفت لو كين ذلك.

أسئلة محامية الأطراف المدنية الأولى للو كين

أشارت المحامية بيكتارت إلى أن الجميع تعاطفوا مع لو كين، وشكرتها على مشاركتها شهادتها، بوصفِها الصحفية التي أجرت مقابلات مع معظم الشهود. وأوضحت بيكتارت أن جلسة استماع قيصر أمام قاضي التحقيق قد أضيفت إلى ملف القضية. وركّزت بيكتارت على إجابتين لقيصر عندما سُئل عن سبب توثيق هذه الأهوال. فأجاب قيصر بأن الأمر كان مجرد روتين، وأن لا أحد كان يملك صلاحية لوضع حد له. وطلبت من لو كين التعليق على هاتين الإجابتين.

قالت لو كين إن كلمة "روتين" كانت تتردد على لسان قيصر باستمرار. وترى لو كين أن هناك فرقًا بين الفترة ما قبل آذار/مارس 2011 وما بعدها. وتعتقد لو كين أنه عندما تحدث قيصر عن الروتين، كان يقصد الإجراءات المتبعة، المتمثلة في الخروج إلى المواقع والتصوير والعودة إلى المكتب. فقد كان يطبع الصور على بطاقات، وبعد فترة، عندما يتراكم لديه عدد كبير من الصور، يضع صور عدة جثث على بطاقة واحدة. وتعتقد لو كين أنه عندما تحدث عن الروتين، كان يقصد تلك الإجراءات.

أوضحت المحامية بيكتارت أن قيصر ذكر في الجلسة نفسها أعضاء المعارضة الذين دعموه، وقال إن وصول هذه الملفات إلى المحاكم الجنائية الدولية قد يخلص سوريا من جميع القياصرة [غير واضح]. وقالت بيكتارت إن الملف كشف مدى وحشية هذا النظام واستخدامه القمع إلى حد الموت. ثم سألت لو كين عمّا إذا كان هناك تحول قبل قيصر وبعده.

أجابت لو كين بأنها غير متأكّدة من وجود تحول حقيقي، وأوضحت أنه ربما كان تحول دبلوماسيًا للغاية. فقد اطلعت طواقم السفارات على هذه الملفات، كما فعلت فرنسا. إذ طلبت فرنسا من مجلس الأمن [التابع للأمم المتحدة] إحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكن الصين وروسيا استخدمتا حق النقض (الفيتو) ضدها. وأضافت لو كين أنها كان لديها انطباع بأن هذه القضية بقيت حبيسة الإطار السياسي ولم ترتقِ إلى المستوى الإنساني، مستوى الشعوب، لاتخاذ إجراءات فعالة بشأنها. وأقرت بأن هذه القضية تفوق التصديق، وأن الصور تحتوي على شيء خفي وغير واقعي. وقد استغلها القادة الغربيون من الناحية السياسية. وأعربت لو كين أنها تأمل أن يتحقق في المحاكم القانونية، إذا كان هناك تحول بعد قيصر. وتعتقد أنه كان هناك تحول بعد قيصر في محكمة كوبلنتس بفضل خبرة د. روتشيلد. وأضافت أن هناك الكثير من الانتقادات ومحاولات التشكيك في صحة هذه الصور، وأنه إذا كان هناك تحول ما بعد قيصر، فهو في الحيز القضائي. وقالت لو كين إنه من الصحيح أنها لم تغير النظام السوري، لكن إدراجها في سياق قضائي يعطيها أهمية.

قالت المحامية بيكتارت إن الخوف كان مذكورًا مرات عديدة في الشهادات، وأبدت تفهمها لاعتقاد لو كين بأن الآخرين لا يمكنهم فهمه على الإطلاق. وطلبت من لو كين أن تقدم مزيدًا من التفاصيل حول طبيعة المخاوف التي كانت تسيطر على السوريين بالضبط. فقالت لو كين إنها تعتقد أنهم يخافون من الاختفاء. وأضافت أن هذا الخوف توارثته الأجيال، وكانت العبارة الشائعة التي تردد على الألسن هي "للجدران آذان". وأوضحت أن نسبة عملاء المخابرات بين السوريين كانت مرتفعة جدًا. وأشارت إلى قصة [حُجب الاسم]، الذي اعتُقل عاما ونصف، وكان التعذيب قد أثّر فيه بشدة، لكنه تضرر أكثر بكثير بسبب صمت المجتمع الدولي. وفي مرحلة ما، في شباط/فبراير 2020، عاد إلى سوريا. ومن الواضح أن أعضاء من النظام في برلين قد تلاعبوا به، وعند وصوله إلى المطار، أدرك خطأه [بالعودة إلى سوريا] واعتُقِل على الفور. وسرعان ما انتشر خبر اختفائه بين أبناء المجتمع السوري. وذات مرة، بينما كانت لو كين تأخذ شهادة أحد المعتقلين، أرسل لها رسالة على الفور يسألها عمّا إذا كان النظام على علم بأنهم يعملون معًا. وقالت لو كين إنها لم تكن تعلم الإجابة، وشعرت حينها بحماقة. فالخوف قد ينقلب على الإنسان في أي لحظة، وكأن كل شيء ينهار فجأة.

أشارت لو كين بعد ذلك إلى قصة شاب التقت به عند صدور الكتاب عام 2015. كان الشاب مولودًا في فرنسا لأبوين سوريين، وقد قال للو كين إنهم لم يكونوا يتحدثون عن بشار الأسد حتى وهم في فرنسا. فالأمر أشبه بالعيش على أرضية غير مستقرة طوال الحياة، إذ يمكن للمرء أن يتعثر في أي لحظة. لكن العيش على أرضية غير مستقرة أمر مستحيل. وأضافت لو كين أن شهودًا في محاكمة أخرى تعرضوا للتهديد. وقالت إن هذا يحدث حتى لو كان الشخص يعيش في أوروبا منذ سنوات طويلة، أو كان لاجئًا ولا تزال لديه عائلة في سوريا. هذا هو الأمر المخيف حقًا. فالأمر لا يقتصر على العائلة المُباشرة، بل يمتد ليشمل أبناء العم والأجداد. فالشهادة العلنية تثير مخاوف من أن يهاجم النظام أحباء الشخص وذويه.

عادت بيكتارت إلى موضوع ملف قيصر، مؤكدةً أن هناك مقابلة أجرِيت مع بشار الأسد بالفعل وطُرِح عليه هذا الملف. وطلبت من لو كين أن تصف رده والسياق الذي طرح فيه هذا السؤال عليه. فقالت لو كين بأنه وُوجِهَ به مرتين، مرة في ربيع عام 2014 عندما ظهر ملف قيصر، إذ نفى أن تكون الصور عائدة لسوريين أصلًا. أما المرة الثانية فكانت عام 2016، وأشارت لو كين إلى تحقيق فُتح في اسبانيا حول وفاة أحد السوريين. حينها قررت شقيقة المتوفى تقديم شكوى، والتقى على إثر ذلك مايكل إيسيكوف، الصحفي الأمريكي الذي يعمل لدى شركة ياهو (Yahoo)، ببشار الأسد وأخبره بأن هذه المواطنة السورية الإسبانية تعرفت على صورة شقيقها في ملف قيصر. فرد بشار الأسد قائلًا "ولكن من الذي راجع هذه الصور؟ يمكن أن تحدث تجاوزات فردية، ولكن لا توجد سياسة منهجية". لكن لو كين خلصت إلى أن الواقع يثبت أن الأمر يتعدى كونه مجرد أفعال فردية.

أسئلة محامي الأطراف المدنية الثاني للو كين

شكر المحامي بودوا لو كين على شهادتها المؤثرة. وأوضح أنه كان لديه سؤالان؛ يتعلق الأول بالمعايير التي اعتُمِدت لإطلاق سراح بعض المعتقلين دون غيرهم ممن تعرضوا للتعذيب في السجون. أما السؤال الثاني، فقد أراد المحامي أن يكون لديه فكرة عن النسبة المئوية للأشخاص الذين أطلق سراحهم في النهاية من بين عشرات الآلاف من المسجونين. فقالت لو كين إن الإجابة عن هذا السؤال معقدة للغاية، مشيرة إلى أن الإحصائيات المتوفرة تشير إلى اختفاء 95 ألف سوري في مراكز التعذيب. لكن الناس يعتقدون أن هناك أعداد أكبر بكثير من ذلك.

تطرّق المحامي بودوا إلى موضوع الانتشار الواسع للأجهزة الأمنية الذي ذكرته لو كين مرارًا. وسأل عمّا إذا كان التحكم في وسائل الاتصال المحمولة وأجهزة الحاسوب يمكن أن يفسر هذه الاعتقالات. فقالت لو كين إن الأمر، حسب علمها، عبارة عن مزيج من كل هذه العوامل: فخلال المظاهرات، كانت الاعتقالات تحدث على مرأى من الجميع ومصورة، وهناك مقاطع فيديو توثق لحظات اقتياد المدنيين في حافلات. إضافة إلى ذلك، كانت هناك عمليات تفتيش لحسابات الفيسبوك، والتي كانت تخضع لرقابة مشددة. وعند محاصرة أي حي، كان يمكن اعتقال السكان عند الحواجز أيضًا. وأوضحت أنه لابد أن يُنظر إلى الاعتقالات باعتبارها أداة لبث الرعب بين الناس. فبمجرد اعتقال شخص ما، كان يُمكن إرغامه على الإدلاء بأسماء أشخاص آخرين، وخلقت هذه الطريقة ما يسمى بتأثير كرة الثلج، وهكذا اتسعت دائرة الاعتقالات.

أسئلة المدعية العامة فيجيا للو كين

سألت المدعية العامة فيجيا لو كين عن عدد المفقودين، مدركة استحالة تقديم إجابة دقيقة عن هذا السؤال. ومع ذلك، أشارت إلى كتاب لو كين الذي أُدرج إلى إجراءات المحاكمة، إذ ذكرت فيه الرقم الذي قدمته الشبكة السورية لحقوق الإنسان وهو 215 ألف معتقل، نصفهم في عداد المفقودين. وذكرت لو كين أيضًا رقم 95 ألف معتقل. وقالت لو كين إنها استندت في شهادتها إلى إحصائيات هذه المنظمات. وبعد أن طلبت المدعية العامة مزيدًا من التوضيح، بيّنت لو كين أن الرقم 95 ألفًا يشير إلى عدد المفقودين الذي قدمته [الشبكة السورية لحقوق الإنسان]، والذين انقطعت اخبارهم عن عائلاتهم.

سألت المدعية العامة فيجيا عن شهادة رجل يدعى [حُجب الاسم] كان معتقلًا لدى فرع المخابرات الجوية. وسألت لو كين عمّا يمكن أن تقوله للمحكمة عن هذا الفرع. فقالت لو كين إنه عندما وصل [حُجب الاسم] إلى مطار المزة، جُرِّد من أمواله التي كان بحوزته واقتيد إلى زنزانة مكتظة للغاية. وظلّ يُنقل بين الزنازين، بعضها كانت منفردة، لأكثر من عام. وفي صيف عام 2013، نُقِل إلى أحد حظائر الطائرات. ووقع ذلك بعد الهجوم الكيميائي في آب/أغسطس 2013 والخط الأحمر الذي وضعه أوباما [غير مسموع]. وكان النظام السوري يتوقع هذه الضربة كثيرًا لدرجة أنه وضع المعتقلين في هذه الحظائر اعتقادًا منه بأنها ستكون هدفًا للقصف. لاحقًا، وُضع [حُجب الاسم] في زنزانة أخرى داخل المطار وأصبح "عامل سُخْرَة"، أي الشخص المسؤول عن إدارة توزيع الطعام وتنظيم دخول المعتقلين إلى المراحيض، مما أتاح له الخروج من الزنازين المكتظة. وقد نُقِل إلى المشفى العسكري حيث توفي العديد من المعتقلين وهم مستلقون على أسرّة المشفى. وكان يدخل رجل، كان يُلقب بـ"عزرائيل"، أي ملك الموت، غرف المشفى [لم يكن بقية الكلام مسموعٍ لمُراقب المحاكمة]. وفي مرحلة ما، تمكن [حُجب الاسم] من الذهاب إلى المراحيض والعودة إلى [غير واضح لمراقبة المحاكمة]، وأوضح للو كين أن أفضل مكان كان بالقرب من الباب لأن بعض الأبواب كانت تحتوي على فتحات تهوية أو فسحة أسفلها تسمح بدخول بعض الهواء للتنفس. وبصفته سُخْرَة، كان مازن يكلف في بعض الأحيان بإزالة الجثث.

تابعت لو كين حديثها قائلة إن تقرير روتشيلد كان واضحًا جدًا: إذ إنه لم يتمكن في 95% من الحالات من تحديد أسباب الوفاة. فبالإضافة إلى آثار الضرب، لم يستطع روتشيلد أن يحدد أي إصابة تسببت بالوفاة بصورة مباشرة، لأن الموت لم يكن بالضرورة ناتجًا عن ضربة، بل كان غالبًا بسبب الجروح المهملة التي لم تُعالج والجوع ونقص الضوء والهواء. وعندما يكون الشخص كبيرًا في السن، لا يتمكن من التنفس. وهذا ما دفع [حُجب الاسم - كالفقرة السابقة] ليفقد عقله في بعض الأحيان. وأشارت لو كين أن الصور لا تُظهر بالضرورة الضربة التي تسببت في وفاة المعتقل. وأشارت المدعية العامة فيجيا إلى الصفحة 174 من كتاب لو كين، إذ قالت إن مازن نُقِل مع العديد من المعتقلين إلى حظائر الطائرات لاستخدامهم دروعا بشرية. فأكّدت لو كين ذلك.

ذكرت النائبة العامة فيجيا توزيع صور قيصر بحسب الفروع الأمنية المختلفة، وهو ما فُصِّل في الصفحة 176 من كتاب لو كين [قرأت المدعية العامة هذا الجزء]. وطلبت من لو كين أن تؤكد أن الفترة الزمنية المعنية هي بين عامي 2011 و2013، وأن ملف قيصر لا يشمل جميع الجثث التي صورها، بل تشكل عينة منها فقط. فأكّدت لو كين ذلك، مؤكدةً أن قيصر فعل ما بوسعه. وأوضحت أن هذه الأرقام وضعها د. زكريا، وهو طبيب أطفال من الجمعية السورية للمفقودين ومعتقلي الرأي. وهو ليس خبيرًا، لكنه تعاون مع عالم حاسوب شاب يدعى عمران وعملا على هذه الملفات. وما أشارت إليه لو كين هنا يعود إلى أرقام زكريا. وأشارت إلى أن العدد الذي قيمه روتشيلد هو 6,783 جثة. وأضافت أن هذا العدد يقتصر على مراكز الاعتقال في دمشق ودرعا فقط، ولا يشمل أي مناطق أخرى في سوريا.

أكّدت المدعية العامة أن عمل قيصر أكمله مصورون آخرون. فأجابت لو كين بأن هذه ليست صور قيصر تحديدًا، بل صورًا التقطها العاملون في مكتبه. فأوضحت المدعية العامة أنها كانت تتحدث عن التمييز بين دمشق ودرعا ومناطق أخرى [وأن أشخاصًا آخرين كانوا يؤدون نفس العمل الذي كان يؤديه قيصر في جميع أنحاء سوريا].

أضافت المحامية بيكتارت أنه بالنظر إلى الفترة الزمنية التي يغطيها ملف قيصر والتي تعود إلى أواخر تموز/يوليو وأوائل آب/أغسطس من عام 2013، لم يكن من الممكن العثور على صور لأفراد عائلة دباغ في الملف. فأكّدت لو كين ذلك، قائلة إن قيصر كان في ذلك الوقت موجودًا بالفعل في [لم تسمع مراقبة المحاكمة اسم المكان].

________________________________

للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.