فشل اعتقال البشير يقوّض جهود العدالة الدولية
عمر البشير يرحب برئيس جنوب افريقيا جاكوب زوما، 2011. الصورة من حكومة جنوب أفريقيا
في تحدِّ لمذكرة توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية وقرار صادر عن المحكمة العليا في جنوب إفريقيا يمنعه من مغادرته للبلاد، استقلّ عمر البشير طائرة عائداً إلى السودان بعد حضوره لقمة الاتحاد الإفريقي الـ25 في جوهانسبرغ الأسبوع السابق. وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرتي توقيف بحق البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية عام 2009. وبوصفها دولة طرف في نظام روما الأساسي، فإن جنوب أفريقيا ملزمة بتنفيذ مذكرتي التوقيف الصادرتين عن الجنائية الدولية. غير أنه في 5 حزيران/يونيو، وقّعت جنوب إفريقيا والاتحاد الإفريقي اتفاقاً يضمن الحصانة الدبلوماسية لرؤساء الدول المشاركة في القمة. وأطلقت المحكمة العليا في جنوب إفريقيا قضية للتحقيق فيما إذا كانت المذكرة الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية تسمو على اتفاق الحصانة الدبلوماسية وأمرت السلطات بمنع مغادرة البشير لجنوب إفريقيا إلى حين اتخاذ قرار نهائي. غير أن حكومة جنوب إفريقيا خالفت ذلك القرار، مما أدى إلى تداعيات مقلقة للمحكمة الجنائية الدولية وفعاليتها المحتملة في دول أخرى مثل سوريا.
وفي حين قامت دول أخرى أطراف في المحكمة الجنائية الدولية بتحدّي مذكرات توقيف في الماضي، إلا أن جنوب إفريقيا، ذلك البلد الذي كافح من أجل تحقيق عملية عدالة انتقالية ولطالما كان نصيراً لحقوق الإنسان، بدى للوهلة الأولى أنه من المستبعد أن يقوّض العدالة الدولية. وقال الرئيس السابق لجنوب إفريقيا والزعيم المشهور في مجال حقوق الإنسان، نيلسون مانديلا، في مقابلة أن أحد دعائم السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا سيكون “اعتبارات العدالة واحترام القانون الدولي”. ولكن في ظلّ قيادة الرئيس جاكوب زوما، لم تتجاهل الحكومة القانون الدولي فحسب، وإنما انتهكت دستورها وزعزعت الثقة الوطنية في السلطة القضائية للبلد أيضاً.
كشفت الحادثة الأخيرة في جنوب افريقيا عن وجود شروخ عميقة في نموذج المحكمة الجنائية الدولية. فمنذ تأسيسها في عام 2002، أعرب الزعماء الأفارقة عن قلقهم من أن المحكمة الجنائية الدولية منحازة ضد رؤساء الدول الإفريقية. ومن جانبها، لم تفعل المحكمة الجنائية الدولية شيئاً يُذكر لدحض هذه التصورات السلبية. في حين أن العديد من جرائم الحرب ارتُكبت في أجزاء أخرى من العالم، لم يقم مكتب المدعي العام بفتح تحقيقات إلا في تلك الجرائم التي ارتُكبت في إفريقيا. وعلى الرغم من أن القيود القانونية والولاية القضائية تمنع مكتب المدعي العام من التحقيق في كل حالة من جرائم الحرب، فإن حقيقة أنه يجب على مجلس الأمن الدولي أن يحيل القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية من شأنها أن تسيّس العملية وتمنع إجراء تحقيقات في الإجراءات الصادرة عن الأعضاء الدائمين وحلفائهم.
وهناك ادعاء يقول بأن عملية جمع الأدلة التي تقوم بها المحكمة الجنائية الدولية هي كذلك عملية مسيّسة وعرضة للتلاعب. وعلاوة على ذلك، لم تكن المحكمة الجنائية الدولية قادرة على إجراء ما يكفي من التوعية في الدول التي تجري فيها تحقيقاتها بسبب عدم امتلاكها آليات محلية يمكنها أن تجري اتصالات مع الضحايا ومنظمات المجتمع المدني. ونتيجة لذلك، فقد نمت المعارضة، لاسيما في إفريقيا، مما أدى إلى بذل جهود مدروسة لتقويض القرارات الصادرة عن المحكمة. وتؤسس هذه الإجراءات لسابقة تشير إلى العالم بأن الإدانة الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لا تعني تحقيق عدالة مضمونة وأن ثقافة الإفلات من العقاب لم تنته.
وإن الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم خيبة الأمل هو حقيقة أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لديها سوى النذر اليسير من قصص النجاح للترويج لها، مما يعطي انطباعاً بأنها تتبع نموذج إجراء تحقيقات دون محاكمات. وبدون دعم من الدول الأطراف وبدون قصص نجاح واضحة، سيتم النظر إلى المحكمة على نحو متزايد على أنها غير موثوقة وهدر مكلف للموارد. وبالنسبة لخبراء العدالة الانتقالية، تُعتبر المحكمة الجنائية الدولية احدى أدوات العدالة الانتقالية، غير أن عدم الثقة في المحكمة الجنائية الدولية يؤدي إلى تآكل قيمتها في حالات الصراع وما بعد الصراع ويحدّ من مقاربة عملية العدالة والمصالحة الشاملة.
وبخلاف الاستياء المتزايد بين الأفارقة، غالباً ما أشاد السوريون بالمحكمة الجنائية الدولية باعتبارها رادعاً قيّماً ضد اعتداءات الحكومة السورية. وفي كثير من الأحيان، لا تُبنى توقّعات السوريين على أساس ما تستطيع المحكمة الجنائية الدولية أن تحققه على أرض الواقع. بما أن سوريا ليست دولة طرفاً في نظام روما الأساسي، لا يستطيع مكتب المدعي العام أن يشرع في ملاحقة قضائية من تلقاء نفسه، بل يحتاج إلى تفويض من مجلس الأمن الدولي قبل أن يتمكن من معالجة الأزمة السورية. وحتى إذا أقرّ مجلس الأمن قراراً، لن تشرع المحكمة بتحقيقات إلا ضد ثلة قليلة من الجناة رفيعي المستوى— أي ليس ضد كل مسؤول ثبتت مسؤوليته عن ارتكاب فظائع. وإذا قررت المحكمة أن تحاكم الرئيس السوري بشار الأسد، سيتوجب عليها أن تلقي القبض عليه لتتمكن من بدء محاكمته، وكما يتّضح من قضية البشير، يستطيع الأسد أن يتهرّب من المحاكمة لسنوات، لاسيما إذا لم تأخذ الدول الأطراف واجبها في القبض عليه على محمل الجد.
وفي هذه الأثناء، يتعيّن على المحكمة الجنائية الدولية أن تكون أكثر إدراكاً لعثراتها الماضية في دول مثل ليبيا وكينيا والسودان وأن تتّخذ مقاربة أكثر شمولاً في سوريا. وإذا قرّرت المحكمة أن تحقق مع الأسد، سيكون نجاحها مرهوناً بتحقيق الشفافية وبذل جهود التوعية المحلية مع السوريين والتنسيق مع دول المنطقة. ويجب إبقاء الضحايا السوريين على اطلاع في جميع مراحل العملية ويجب شمولهم في جلسات الاستماع وصنع القرار. ومع وجود مؤسسات استشرى فيها الفساد وسلطة قضائية دمّرتها الحرب، قد تكون المحكمة الجنائية الدولية أول سبيل متاح لسوريا لتحقيق العدالة. ويُعتبر الرهان كبيراً بالنسبة لكل من المحكمة الجنائية الدولية وللسوريين، ويجب أن يعزز هذا الدافع للانخراط والتواصل قبل انتهاء الصراع. فقد بدأت المحكمة الجنائية الدولية تخسر إفريقيا؛ وسيتعيّن عليها أن تطلق جهوداً متضافرة لتضمن عدم خسارة الدعم الذي تلقاه من الشرق الأوسط أيضاً.
لمزيد من المعلومات وتقديم الآراء، يرجى إرسال بريد إلكتروني إلى المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected].