جنيف محلياً: السلاح مقابل الغذاء؟
(صورة:ابراهيم الملا. اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بلودان)
في حين كانت الأعين مفتوحة على عملية جنيف 2، كان ثمة مسار آخر من المفاوضات يسير قدماً في أحياء وبلدات ريف دمشق. وحين لم ينجز أي اتفاق حتى على مستوى جدول الأعمال في جنيف 2، فإن شيئاً ما تحقق على الأرض في مفاوضات محلية وعلى بعض أكثر الجبهات سخونة في سوريا. نتحدث هنا عن تسويات محدودة جاءت بعد مفاوضات على نطاق ضيّق بين ممثلين عن النظام من عسكريين أو مدنيين، من قبيل موظفين في وزارة المصالحة الوطنية التابعة للحكومة السورية، مع ممثلين آخرين عن الأهالي من مجموعات مسلحة معارضة أو مدنيين من قبيل أعضاء مجالس محلية في المناطق المعنية.
في خلفية الأمر، طبقّت قوات الحكومة السورية منذ منتصف العام 2012، وبالتتابع، حصاراً عسكرياً محكماً على بلدات وأحياء الريف الدمشقي. ومنعت أي مرور للمواد الغذائية، ثم تابعت تصعيدها لتقطع عن السكان مياه الشرب والتيار الكهربائي لفترات طويلة. في الغضون كانت تقصف هذه المناطق بالأسلحة الثقيلة ما أدى أيضاً لدمار واسع في الأبنية والممتلكات.
يقول منسّق المركز السوري للعدالة والمساءلة في دمشق أن “عمليات التفاوض تبنت جميعها نسقاً محدداً هو: السلاح مقابل الغذاء”. وتعددت أشكال التفاوض وسياقاته في كل منطقة على حدة. إذ اختلفت مستويات ومراتب المشاركين في المفاوضات من الطرف الحكومي. في حين كان وفد أهالي المناطق دائماً خليطاً من مدنيين ووجهاء المنطقة وقادة في تجمعات عسكرية معارضة. وركزت عمليات التفاوض على إدخال بعثة الأمم المتحدة للمواد الغذائية إلى تلك المنطقة، في حين تم إطلاق سراح بعض المعتقلين في حالة مدينة برزة فقط. وتفاوت المقابل بين تسليم السلاح الثقيل الموجود لدى المجموعات المسلحة المعارضة في تلك المنطقة أو رفع علم الحكومة السورية داخل المنطقة كخطوة أولى.
ويضيف منسّق المركز أن أهالي المناطق المعنية قد دعموا، وتحت ضغط الحصار وشحّ المواد الغذائية وانقطاع موارد الحياة، تلك العملية التفاوضية. وهم من دفع بها وطالب بالمبادرة إليها. كان ذلك في المناطق التي يسيطر عليها مسلحون معارضون من نفس أهالي المنطقة المعنية (المعضمية، برزة، مخيم اليرموك وداريا) في حين سجلت منطقة ببيلا والتي يتواجد فيها مسلحون من غير سكان المنطقة (جبهة النصرة و الجبهة الإسلامية) الاستثناء هنا، حيث وقف السكان على النقيض من رغبة مسلحي المعارضة في التفاوض مع القوات الحكومية وسجّل خروج مظاهرات مناهضة للأسد داخل ببيلا عقب وصول وفد الحكومة إلى المنطقة.
لم تتضمن العملية التفاوضية أي حديث عن المحاسبة أو مساءلة المجرمين. كما أن أي من موضوعات التعويضات على الضحايا والممتلكات لم يتم التطرق إليه. كذا موضوعات أخرى كعودة اللاجئين والنازحين ممن غادروا المنطقة بسبب العمليات العسكرية فيها أو بسبب الحصار أو هرباً من الاعتقال أو الخطف. وقد يكون من المبكر الحكم على عملية تفاوضية من هذا النوع وهي في بدايتها، ولكن من الجيد أن نعلم هنا أن من يفاوض قد يكون هو نفسه من يفترض أن تتم مساءلته أو محاسبته، وأن أي مسار منصف للعدالة قد لا يغفل مسؤولية هؤلاء عن الأضرار في الأرواح والممتلكات وعن سياسة الحصار والتجويع التي تم اخضاع المدنيين لها طوال عام ونصف وهي جريمة حرب موصوفة.
لم تفض عمليات التفاوض هذه جميعاً إلى أي نوع من اتفاق سلام طويل الأمد. بل سجلت اتفاقات مرحلية أفضت إلى إنشاء حواجز مشتركة بين القوات الحكومية والمجموعات المسلحة المعارضة على مداخل المدن والبلدات. وترك الأمن وإدارة شؤون المنطقة للمجموعات المعارضة المسلحة وسجلت حالات عديدة منعت القوات الحكومية فيها أي قوات أمنية أو مجموعات الشبيحة المسماة (اللجان الشعبية) من الدخول إلى المناطق وتنفيذ أي اعتقالات داخل هذه الأحياء والبلدات. ما يشير إلى اتفاق مرحلي هش لوقف إطلاق النار قد ينهار عند أي تحد. ثم لم يتم تالياً فك الحصار عن أي من المناطق المذكورة إلا جزئياً وتم إدخال كميات محددة من المواد الغذائية والتموينية بالتعاون مع بعثة الأمم المتحدة في دمشق.
إن عمليات تفاوض محدودة ومحلية من هذا النوع قد تحقق حلولاً مرحلية وقصيرة الأمد لمشكلات الحصار والجوع وشح المواد الغذائية. وهي تأتي تحت ضغط جريمة حصار مناطق سكنية واسعة وأعداد كبيرة من المدنيين. وهي أنتجت هدنة هشّة مهددة بالانهيار عند أول تحدٍ. ما يضع أعداداً كبيرة من السكان في مواجهة ما هو أخطر في حال انهارت التسوية وتم تنفيذ عمليات انتقامية واسعة كما هو معروف في هذا النوع من الصراعات. بالتالي فإن هناك مخاطرة كبرى في اعتبار أن هذا شكل من أشكال عمليات السلام أو أن بالإمكان وقف نزيف الدماء بتجاوز وتجاهل الخطوات الحقيقية للعدالة الانتقالية وعلى رأسها المساءلة.