"يجب مساءلة من أخطأ" وجهات نظر سورية عن العدالة الإنتقالية
يجتمع قادة الحكومة والمعارضة السورية حالياً في جنيف، لذا، لا بد من أخذ آراء السوريين على الأرض بعين الإعتبار، ولاسيما فيما يتعلق بالتسويات السياسية وآليات العدالة الإنتقالية. لقد قام المركز السوري للعدالة والمساءلة بهذه المهمة، كاشفًا عن نتائج واعدة. إذ جمع البحث المفصّل في تقرير “يجب مساءلة من أخطأ” آراءً لسوريين من خلفيات جغرافية وسياسية مختلفة وتوصّل إلى أن ثمة رغبة واضحة بالتفاوض على تسويات وإجراءات مساءلة ذات طابع رسمي.
وفي حين يزودنا هذا التقرير بلقطات عن تجارب لسوريين من بيئات متباينة، إلا أنه ليس شاملًا، ولم يهدف أن يكون كذلك. ولكنه يوفر معلومات قيّمة عن آراء السوريين الذين يعايشون النزاع بشكل يومي. ونظراً إلى التسريب الحديث لمعلومات عن سوء معاملة معتقلين على نطاق واسع، والفرصة السياسية المتاحة في جنيف، فمن الحكمة أن ينتبه أصحاب المصالح إلى التسويات التفاوضية وآليات المساءلة المصممة جيداً.
وتكشف الآراء في التقرير عن رغبة مشتركة بوقف القتل وتشير إلى أن هناك دعماً كبيراً للتسويات التفاوضية. وعلى سبيل المثال، قالت سيدة سنية معارضة: ” كفى! علينا إيقاف حمام الدم أولاً. كفانا أطفالاً يتامى وأرامل ومعتقلين. لن نحتمل يوماً آخر من القتل. لذا أفضل التسوية. ووافق رجل مسيحي موالٍ للنظام على أنه: “لم تعد الكارثة السورية مجرد نزاع. لقد صارت حرباً دولية تأكل كلّ من يقف في طريقها. لذا أفضل تسوية تفاوضية لإعادة الحب والسلام إلى سوريا”. وبالرغم من أن معظم الأشخاص الذين تم استجوابهم كانوا متشائمين بخصوص قابلية تنفيذ التسوية التفاوضية، إلا أنهم دعموا أهدافها نظرياً.
وبالمثل، عبّر من تمت مقابلتهم عن دعمهم الكبير لإجراءات مساءلة المجرمين. انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة أثناء الصراع مروعة، حيث ظهرت الأسبوع الماضي أدلة جديدة على شكل 55 ألف صورة لمعتقل خضع لتعذيب شديد.
وأكد السوريون الذين شملهم بحث المركز السوري للعدالة والمساءلة على ضرورة مساءلة مرتكبي جرائم من هذا النوع. وعلى سيبل المثال، قال رجل سني معارض: “ينبغي مساءلة المجرمين بغض النظر عن الطرف التابعين له. وينبغي أن يتم ذلك عن طريق السلطات القضائية… يجب مساءلة الجميع عمّا فعلوا، الثوار منهم ومقاتلي النظام والمدنيين”. ووافقت سيدة مسيحية مؤيدة للنظام على أنه “ينبغي ملاحقة جميع الأطراف التي قامت بجرائم حرب خلال الصراع”.
و يلاحظ أن المستجوبين يفضلون، بشكل عام، الملاحقة القضائية من قبل محاكم سورية، غير أنهم لم يكونوا على إطلاع بأشكال المساءلة البديلة، كلجان الحقيقة. وعند إخبارهم عن لجان الحقيقة كان رد الكثيرين إيجابياً، ولكنهم كانوا ضد أي نوع من العفو. ومهما يكن، فإنهم يعتبرون إجراءات المساءلة حاسمة بالنسبة لمستقبل سوريا، من أجل العدالة ولتجنب عمليات القتل الثأري في المستقبل.
وبالطبع يبقى من الصعب الإقرار بالتسويات وآليات المساءلة واقعياً في سياق ما بعد النزاع، مع أنها مقبولة نظرياً. إذ كان من تمت مقابلتهم أقلّ حماساً أثناء مناقشة أمثلة محددة وملموسة عن تسويات تفاوضية أو آليات للمساءلة. وكما يوضح التقرير، فإن آراء المستجوبين لم تكن بنفس درجة الإيجابية عندما سئلوا عن تسويات تفاوضية تبقي على خصمهم في السلطة، أو عن آليات مساءلة تدقق بأفعال الذين يدعمهم المستجوب. ولقد عبّر مؤيدو النظام، على وجه الخصوص، عن عدم رغبة بقبول تسوية تنفي الأسد. وعلى سبيل المثال، أكد رجل علوي مؤيد للنظام على “أنهم لن يقبلوا بتسوية تنفي الأسد والمقربين له خارج سوريا”. ومن جهة أخرى أصرّ معارضو النظام على مساءلة الأسد بطريقة ما، كتلك السيدة السنية المعارضة التي أصرت على أنه “ينبغي معاقبة الأسد كي يكون مثالًا يتعظ به كلّ من ساورته نفسه أنه قادر على قمع شعبه”.
ومع ذلك لا يمكن تجاهل التسويات التفاوضية وإجراءات المساءلة، إذ أنها المؤشر الإيجابي على أن القواسم المشتركة بين المدنيين السوريين أكبر من المتوقع، نظراً لظروف النزاع الحالي. لذا سيكون من الحكمة أن تؤخذ احتمالات التسويات التفاوضية وآليات العدالة الإنتقالية بعين الإعتبار من قبل المجتمع الدولي وأطراف الصراع في جنيف، من أجل دعم تعافي البلاد النهائي من النزاع.