أفول نجم مخلوف أمر مستحق، لكنّه ليس كافياً
تكشّفت علانية الأسبوع الماضي في مقطعي فيديو تم نشرهما على صفحة مخلوف على الفيسبوك الشائعات التي لطالما ترددت عن الشّقاق بين بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف، أبرز رجل أعمال في سوريا والذي كان في يوم ما أحد المقربين من الرئيس. حيث انتقد مخلوف في المقطعين محاولات الحكومة لتضييق الخناق على شركاته وأوامر الدفع لتحصيل ما يقرب من 130 مليار ليرة سورية من الضرائب غير المدفوعة من شركة سيريتل، التي تُعتبر بمثابة جوهرة التاج للإمبراطورية التجارية الشاسعة التي يملكها مخلوف. وفي مناشدته للرئيس، يدلي مخلوف أيضاً باعتراف بارز في مقطع الفيديو الذي نشره يؤكد اتهامات واسعة النطاق – مفادها أنه هو وشركاته، على حدّ تعبيره، “كان أكبر داعم لهذه الأجهزة (الأمنية) وكان أكبر خادم لهم وكان أكبر راعي لهم أثناء الحرب”.
ويسلّط هذا التصريح الذي أدلى به مخلوف الضوء على نقطة رئيسية لا ينبغي أن تضيع في خضمّ التحليلات بشأن السياسة الداخلية للعائلة – إذ لم يكن مخلوف مجرّد رجل أعمال فاسد، بل كان جزءاً لا يتجزّأ من القمع والانتهاكات المنهجية للحكومة، سواء قبل أو طوال فترة الحرب. وبينما كان أفول نجم مخلوف صادماً، إلا أنه لا يعفيه من جرائمه، ولن ينهي نظام الفساد والانتهاكات الأوسع داخل الطبقة الحاكمة في سوريا. وينبغي أن يكون التركيز المتجدد على مخلوف بمثابة تذكير للمجتمع الدولي حول سبب وجوب أن تظل الأولوية للعقوبات المستهدفة والسعي لتحقيق العدالة ضد مخلوف والمموّلين الآخرين للانتهاكات التي ترتكبها الحكومة.
حملة الحكومة “لمكافحة الفساد”
تردّدت شائعات منذ أشهر بشأن الشّقاق الواضح بين الأسد ومخلوف. وابتداء من العام الماضي، بدأت وسائل إعلام رسمية ومسؤولون في الإشارة إلى أن الحكومة كانت تقوم بحملة لمكافحة الفساد المتعلق بأموال مختلسة وتهرُّب ضريبي بين مسؤولين حكوميين ونخبة من رجال الأعمال. ويُنظر إلى هذه الحملة على نطاق واسع على أنها خطوة لتسوية ديون سوريا المستحقة لروسيا وتزايد المتاعب الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب انهيار العملة السورية، وتوسّع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، والأزمة المالية اللبنانية.
وفي بداية الأمر، قوبلت الشائعات التي أفادت بأن مخلوف كان من بين المستهدفين بالتشكيك، لكن بدا أن الشّقاق بين الأسد ومخلوف مؤكد في كانون الأول/ديسمبر 2019، عندما حجز مسؤولو الجمارك السوريون على بعض أصول مخلوف وأمروه علناً بدفع 11 مليار ليرة سورية مقابل مخالفات جمركية تتعلق بشركة “آبار بتروليوم سيرفيس”. واستمرت عمليات الحجز والغرامات الإضافية على شركات مخلوف الأخرى في سوريا والخارج في الأشهر اللاحقة.
“السيد خمسة بالمائة”
في حين صُدم كثيرون جرّاء تضييق الخناق الظاهر على مخلوف، إلا أن التقارير عن فساده لم تكن بالخبر الجديد لأي أحد. حيث أطلق عليه السوريون لعقود لقب “السيد خمسة بالمائة”، في إشارة إلى عمولته المفترضة في جميع الصفقات التجارية، بينما وصفه مسؤولون أمريكيون بأنه “الطفل المدلل” للفساد في سوريا. وعندما اندلعت الاحتجاجات في عام 2011، خصّ المتظاهرون في جميع أنحاء سوريا مخلوف بالذكر، وهم يهتفون “بدنا نحكي ع المكشوف، سرقنا رامي مخلوف“.
متظاهرون في درعا يهتفون “برّا برّا برّا.. رامي مخلوف برّا” (2011)
عندما تولى بشار السلطة بعد وفاة والده حافظ في عام 2000، لعبت عائلة مخلوف دوراً أساسياً في دعم العملية الانتقالية، حيث تولى رامي وأشقاؤه بسرعة مواقع السلطة الرئيسية داخل الدولة. فأصبح حافظ، شقيق رامي، الذي كان عميداً في الجيش رئيساً لفرع الأربعين في جهاز المخابرات العامة. وأصبح رامي، الذي كان رجل أعمال بارز في عام 2000، شخصية رائدة في حملة بشار لتحرير الاقتصاد الذي تقوده الدولة وإنشاء قطاع خاص قوي – على الرغم من أن هذا القطاع بطبيعة الحال سيبقى مملوكاً ومسيطراً عليه من قبل الدائرة المقرّبة من الأسد. وفي عام 2001، مُنِحت شركة “سيريتل” التي يملكها مخلوف ترخيصاً واحداً من أصل ترخيصين لتشغيل شبكة الهاتف الخلوي في سوريا، لتسيطر لاحقاً على 55 بالمائة من السوق بحلول عام 2018. وتعرّض أولئك الذين انتقدوا الصفقة، بما في ذلك النائب رياض سيف وأستاذ الاقتصاد عارف دليلة، للاعتقال والسجن لعدة سنوات.
وفي عام 2006، شارك مخلوف في تأسيس شركة “شام القابضة”، شركة مساهمة مغفلة خاصة، جمعت أكثر من 73 من كبار المستثمرين وأطلقت مشاريع بقيمة تجاوزت مليار دولار في عامها الأول، وسرعان ما أصبحت واحدة من أقوى الكيانات التجارية في سوريا. وفي غضون ذلك، أعلم الأسد المستثمرين الأجانب أن عليهم العمل مع مخلوف للاستثمار في سوريا. وبحلول عام 2011، أصبح مخلوف أغنى رجل في سوريا، ووفقاً لبعض التقديرات سيطر على 60% من اقتصاد ما قبل الحرب، حيث امتلك شركات في أكثر القطاعات الاقتصادية ربحاً، بما في ذلك العقارات والنقل والبنوك والتأمين والإنشاءات والسياحة.
“سنقاتل حتى النهاية”
لكن مخلوف ليس مجرد رجل أعمال فاسد. فبعد أن بدأت الاحتجاجات في عام 2011، كان رامي وعائلة مخلوف المقرّبين من الأسد هم من قادوا موقفاً متشدداً ضد المعارضة. وفي مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز في عام 2011، تعهّد مخلوف بأن الموالين للحكومة “سيقاتلون حتى النهاية”، مضيفاً “ينبغي أن يعرفوا أنه عندما نعاني، لن نعاني وحدنا”. وفي وقت لاحق، ذكر مناف طلاس، عميد سابق ومقرّب من الأسد وانشق في عام 2012، كيف كان رامي وعائلة مخلوف من الشخصيات المركزية الذين مارسوا ضغطاً لاستخدام العنف ضد المتظاهرين في عام 2011، بينما انتقدوا أولئك الذين اعتبروا أنهم “متساهلون للغاية” مع المتظاهرين. وبالفعل، قاد حافظ، شقيق رامي، شخصياً وحدته في هجوم دموي على المتظاهرين في دوما.
وخلف الكواليس، أصبح مخلوف مموّلاً رئيسياً للدولة المحاصرة، حيث دعم حكومة الأسد من خلال “شبكة خاصة واسعة من الميليشيات والمؤسسات المرتبطة بالأمن من خلال جمعية البستان”، وهي المنظمة الخيرية التابعة لمخلوف والتي تموّل أيضاً العديد من الميليشيات الموالية للحكومة. (وتم تفكيك هذه الميليشيات أو دمجها في الجيش في عام 2019، في نفس الوقت تقريباً الذي بدأ فيه تضييق الخناق على شركات مخلوف). وفي هذه الأثناء، تم ربط شركة “سيريتل” التي يملكها مخلوف أيضاً بهجمات إلكترونية موالية للحكومة، ويُنظر إليها على نطاق واسع على أنها أداة للمراقبة الحكومية.
ولم يعترف مخلوف علناً بهذه الاتهامات – قبل نشر مقطعي الفيديو الأخيرين. ففي حين اعترف بأنه كان “أكبر داعم” و”أكبر راعي” للأجهزة الأمنية، يبدو مخلوف الآن في حيرة من أن هذه القوات نفسها تعتقل موظفيه والمدراء التنفيذيين في شركاته، متجاهلاً بشكل مقصود الحالات التي لا تعد ولا تحصى من الاعتقال التعسفي والاختفاء والانتهاكات الأخرى التي ارتكبتها تلك الأجهزة الأمنية تحت رعايته.
“ما يُعطى يمكن أن يُسترَد”
في حين ابتهج العديد من السوريين لسقوط رجل الأعمال الأكثر فساداً في سوريا، فإن أفول نجم مخلوف وخسارته لثروته ليس عادلاً بما فيه الكفاية إزاء الجرائم التي ارتكبها ويسّرها. وفي المقابل، فإن السقوط المدوّي من السلطة لأغنى رجل في سوريا يعيد تأكيد طبيعة الصفقات الحكومية. وكما يشير أحد المحللين، “يتم توصيل الرسالة بكل وضوح بأن ما يُعطى يمكن أن يُسترَد”. وبينما تدّعي الحكومة أنها تجتثّ الفساد، تواصل عائلة الأسد وأولئك الذين ما زالوا محظيين لديها الاستفادة من مناصبهم في السلطة دون وازع من ضمير – حتى في الوقت الذي يعيش فيه 80% من السكان تحت وطأة الفقر.
إن هذا مجال يمكن للمجتمع الدولي أن يتّخذ فيه إجراءات مباشرة. وعلى وجه الخصوص، ينبغي أن تستمر الدول في تطبيق وإنفاذ العقوبات الموجّهة ضدّ أفراد مثل مخلوف. ويمكن للدول أيضاً أن تفعل المزيد للتحقيق واتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين يموّلون عن قصد كيانات ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا. وفي هذه الأثناء، يجب على المجتمع الدولي أن يبذل قدراً أكبر من العناية الواجبة لضمان ألا ينتهي المطاف بالمليارات من المساعدات وإعادة الإعمار التي ينفقها في سوريا في حسابات منظمات مثل جمعية البستان التابعة لمخلوف (كما كان الحال في الماضي). وبدون هذه الضغوط الخارجية من أجل الإصلاح والمساءلة الفعلية لحالات الفساد التي ارتُكبت في الماضي، ستظل الثروة والسلطة في سوريا أعمالاً تجارية عائلية – وإن كان قد نقص منها فرد واحد.
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.