المبعوث الأممي يعيد كتابة التاريخ
أثناء حديثه في فعالية في لندن في وقت سابق من هذا الشهر، أخبر ستافان دي ميستورا، المبعوث الخاص السابق للأمم المتحدة إلى سوريا، الحاضرين “بالسبب الحقيقي” لاستقالته: “شعرتُ أن الحرب تكاد أن تضع أوزارها على المستوى الإقليمي وقد ناضلت فعلاً ضد ما حدث في حلب، في إدلب، في داريا، لم أستطع أن أكون الشخص الذي يصافح يد الأسد ويقول: معلش“. ومع ذلك، يدّعي دي ميستورا أن تصرّفاته كمبعوث خاص ساعدت في إنقاذ نحو 700,000 من الأرواح في سوريا.
وبالنسبة للعديد من السوريين، فإن ادّعاء دي ميستورا ليس غير دقيق فحسب، بل هو إهانة للواقع الذي عانوا منه طوال الفترة التي تولّى فيها دي ميستورا المنصب، وهي مرحلة من أكثر المراحل وحشية وفتكاً في النزاع السوري. يقول حمزة الخطيب، الطبيب الذي أدار آخر مشفى يعمل في شرق حلب تحت الحصار الحكومي: “شعرنا أن كل ما فعله هو تضليل المجتمع [السوري]”. وفي عرض للفيلم الوثائقي “من أجل سما”، انتقد الخطيب قيادة دي ميستورا طوال فترة المعركة من أجل حلب، والتي قُتل فيها أكثر من ِ31,000 شخص بين عامي 2012 و2016. وإن الأمر الأكثر إحباطاً بالنسبة لأطباء مثل الخطيب، هو أنه يبدو بأن الأمم المتحدة تغضّ الطرف عن هجمات الحكومة المتعمدة ضد المشافي. حيث واصلت الأمم المتحدة الضغط على المستشفيات، طوال الحصار المفروض على حلب، للكشف عن إحداثياتها في الجهود التي تبذلها لتفادي التضارب في العمليات الإنسانية وهو المفهوم الذي يتعرّض الآن لهجوم واسع. ولقد تم تدمير مشفى حمزة نفسه بغارات جوية موالية للحكومة خلال الحصار. ولم يتمكن المشفى الذي تم تغيير موقعه من النجاة إلا لأنهم قاوموا الضغوط من الأمم المتحدة للكشف عن موقعه.
وإن ادّعاء دي ميستورا بإنقاذ 700,000 من الأرواح على الأرجح يعتمد على افتراضه أن عمليات النقل المنسقة للسكان ومناطق خفض التصعيد كانت حلولاً فعالة للحيلولة دون قتل المدنيين. ولكن كما كتب المركز السوري للعدالة والمساءلة من قبل، فإن كل ما فعلته هذه السياسات هو إجبار المدنيين على الفرار من منطقة موت إلى أخرى، في حين انهارت اتفاقات خفض التصعيد واحداً تلو الآخر في أعقاب الانتهاكات المتكررة من جانب حكومة دمشق. وأصبح من الواضح الآن أن الحكومة السورية ليس لديها نية في التحرك صوب وقف شامل لإطلاق النار، وكانت تستخدم اتفاقيات خفض التصعيد بخبث لتركيز مواردها على إعادة السيطرة على المناطق الواحدة تلو الأخرى. ومع ذلك، استمرت جهود الأمم المتحدة لإحياء مناطق خفض التصعيد.
ولم يكتف مكتب دي ميستورا باتخاذ موقف مبهم بشكل لا مبرر له فيما يتعلق بانتهاكات الحكومة، بل ساعد كذلك في تحريف نطاق الجرائم التي ارتكبتها الحكومة في الخطاب العام. ولإبقاء الحكومة السورية على طاولة المفاوضات، انتقد دي ميستورا القوات الموالية للحكومة والمعارضة على قدم المساواة، حيث أشار إلى كلا الجانبين على أنهما متساويان في ارتكاب الجرائم على الرغم من مسؤولية الحكومة عن الغالبية العظمى من الضحايا المدنيين. وفي الفترة التي سبقت هجوم الحكومة المستمر على إدلب، أكد دي ميستورا أن النصرة لديها القدرة على استخدام أسلحة كيماوية، مؤكداً ادعاء موالي للحكومة مما ساعد على تشويش الدليل الذي يُثبت ضلوع الحكومة في 98% من الهجمات الكيميائية (فيما يتحمل تنظيم داعش مسؤولية الـ2% المتبقية). وإن هذا الخضوع لمطالب الحكومة عمل على تحييد الأمم المتحدة بشكل فعلي في مواجهة جرائم الحرب التي ارتكبتها الحكومتان الروسية والسورية.
ومع استمرار سقوط القنابل على المدنيين والمستشفيات في إدلب، وأولئك الذين تم إجلاؤهم من حلب والغوطة وغيرها من المناطق المحاصرة ممن يجدون أنفسهم في مرمى القنابل العشوائية الحكومية، يحتاج مسؤولو الأمم المتحدة إلى التحقق من الكيفية التي يفسر فيها الضحايا على الأرض تصرفاتهم وكلماتهم. وفي حديثه إلى شبكة سي إن إن في مقابلة لاحقة هذا الشهر، أضاف دي ميستورا أنه “بدون الأمم المتحدة، وبعبارة أخرى، بدون القدرة على وضع صيغة لحفظ ماء الوجه للجميع، لن يكون لديك سلام مستدام”. وتُعتبر هذه وجهة نظر مضللة للغاية لدور الأمم المتحدة في سوريا. ما يحتاجه السوريون الآن ليس صيغة لحفظ ماء الوجه، وإنما مؤسسة دولية تناضل من أجل تلبية احتياجاتهم وتلتزم بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان.
وبدلاً من الانغماس في إصدار بيانات وجهود لحفظ ماء الوجه وتضليلها، تحتاج الأمم المتحدة إلى دعم الضحايا السوريين في القضايا المهمة التي تشمل: اتخاذ إجراءات واضحة ضد استمرار الهجوم في إدلب؛ الاعتراف بمسؤولية القوات السورية والروسية في الهجمات المتعمدة ضد المرافق الطبية؛ ومطالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعلومات عن الأشخاص المختفين قسراً؛ ودعوات إلى العودة الآمنة للمهجّرين قسراً.
لقد حقق خليفة دي ميستورا، جير بيدرسن، خطوات كبيرة جديرة بالثناء في التشاور مع المجتمع السوري وتسليط الضوء على قضايا رئيسية مثل المعتقلين والمفقودين. غير أن هذه الجهود توارت خلف تشكيل اللجنة الدستورية الذي تم مؤخراً، والتي تم تحديد عضويتها إلى حد كبير من خلال “عملية أستانا” التي تقودها روسيا. ويشكّ السوريون في أن الدستور الجديد سيؤدي إلى تغيير حقيقي في غياب انتقال سياسي حقيقي. وفي هذه الأثناء، أوضح الأسد بالفعل أن دمشق لن تكون ملزمة قانوناً بأي قرارات تتخذها اللجنة. ولكن لم تمنع هذه الجهود مسؤولي الأمم المتحدة من الإشادة باللجنة ووصف تشكيلها بأنه تقدّم كبير. حيث وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس تشكيلها بأنه “معلم رئيسي، وأساس للتقدم، وأنها في حد ذاتها نجاح واضح للوساطة”. وقال بيدرسن، بدوره، إن اللجنة يجب أن تكون “بارقة أمل للشعب السوري الذي طالت معاناته”.
ولمعرفة الدروس المستفادة من فترة ولاية دي ميستورا، يجب أن يكون بيدرسن والأمم المتحدة الآن صادقين بشأن موقف المنظمة الحالي وإخفاقات الماضي. ويشمل هذا القيود المفروضة على لجنة صياغة الدستور، وقضية المساءلة التي لم يتم تناولها، والحاجة إلى إصلاح سياسي وتحولات. ولا يمكن للأمم المتحدة أن تسعى إلى حل سهل عن طريق تبييض انتهاكات الحكومة السورية على مدى السنوات الثماني الماضية، أو فشل الأمم المتحدة في منعها. وبدون المساءلة عن الماضي، سيظل منظور الأمم المتحدة بشأن سوريا على خلاف أساسي مع المجتمعات السورية التي وقعت ضحية للحرب.
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر.