التغطية الإعلامية لمحاكمة "بيتلز داعش" ينبغي أن تتجنّب الإثارة وتضع الضحايا في صُل
جدّدت فضيحة نيويورك تايمز الأخيرة النقاشات حول التغطية الإعلامية لتنظيم داعش، وتحديداً خطر الإثارة التي تشوّه الحقائق على الأرض من خلال تشكيل الخطاب العام والتأثير سلباً على السياسة. حيث تُهدّد التغطية التي تهدف إلى الإثارة بعرقلة جهود البحث عن الحقيقة والمصالحة في سوريا، بينما تثبّط أيضاً إعادة مقاتلي داعش السابقين وعائلاتهم وتوطينهم في بلدانهم الأصلية. وتوفر محاكمة “بيتلز” داعش فرصة للصحفيين لوقف التوجّه نحو التغطية الهادفة للإثارة لتنظيم داعش وتحويل الانتباه بدلاً من ذلك إلى الضحايا وقضايا المساءلة، والأشخاص المفقودين، والعودة إلى الوطن.
كيف يمكن لتغطية داعش أن تؤجّج الدعاية الإعلامية
شكّل ظهور تنظيم داعش حقبة جديدة غير مسبوقة من أعمال الرعب والوحشية التي حظيت بتغطية إعلامية، مما شكّل تحديات جديدة للصحفيين الذين يغطون المنطقة. وتُعتبر جهود الدعاية التي يقوم بها التنظيم محورية لاستراتيجيات التجنيد والترهيب وإضفاء الشرعية على الذات. وتصنع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها تنظيم الدولة الإسلامية مقاطع إعلامية تُظهر صوراً بشعة وصادمة ويسهل نشرها. وفي المقابل، تتشبّث العديد من وسائل الإعلام بهذه المقاطع لتعوّض عدم قدرتها على الوصول إلى المنطقة. وغالباً ما يؤدي أسلوب التغطية إلى التركيز على القدرة التنظيمية لتنظيم داعش وأيديولوجيته المتطرفة، مما يؤدي إلى تحويل الانتباه بعيداً عن الضحايا الذين يجب أن يكونوا في محور القصة. وتثير هذه الدوامة المستدامة ذاتياً أسئلة حول مسؤولية الصحفيين الذين يخاطرون بالترويج عن غير قصد للحملات الدعائية للتنظيم.
التأثير على الخطاب بشأن اللاجئين والعودة إلى الوطن
إن إعادة الآلاف من مقاتلي داعش السابقين وعائلاتهم في شمال شرق سوريا إلى أوطانهم على نطاق واسع خطوة أولى مهمة ليس فقط في محاكمة هؤلاء المقاتلين، ولكن أيضاً لتحرير الموارد على الأرض بهدف محاكمة المقاتلين السوريين داخل البلد. غير أن التغطية التي تخلق إثارة قد أثرت بشكل كبير وسلبي على الخطابات المتعلقة بالعودة إلى الوطن. ومن الأمثلة على ذلك هو سلسلة بودكاست الخلافة التابع لصحيفة نيويورك تايمز، الذي ظهر فيه شاب كندي يُدعى أبو حذيفة يدّعي (وجود أدلة جديدة تشير بشكل ملفّق) أنه قاتل في صفوف داعش وعاد إلى كندا. وأدت هذه السلسلة إلى هيجان في كندا والولايات المتحدة. حيث انفجر سياسيون كنديون غضباً لاحتمال وجود مقاتل طليق من داعش. وعلى الرغم من المحادثات المبكرة في عام 2018 بين مسؤولين كنديين والقيادة الكردية حول خطة لإعادة مقاتلي داعش الكنديين وأفراد عائلاتهم إلى الوطن، إلا أنه حتى تاريخه لم تُعِد كندا سوى فتاة يتيمة تبلغ من العمر خمس سنوات تُدعى أميرة. وحتى في ذلك الحين، اقترح رئيس الوزراء ترودو أن حالة أميرة كانت استثناءً، مشيراً إلى أن الحكومة ليس لديها خطة لعمليات إعادة أخرى إلى الوطن.
التوسّط في إدراك الجمهور: النظر في دور الإعلام في دعم العدالة الانتقالية
على الرغم من أنه يُفترض غالباً أن تقوم التغطية الإعلامية للنزاع ودول ما بعد النزاع بدور محايد في فصل الحقائق عن الخطاب السياسي والدعاية الإعلامية، إلا أنها يمكن أن تلعب أيضاً دوراً خطيراً في تشكيل إدراك الجمهور وتفاقم التوترات الاجتماعية. وفي البلدان التي تشهد عمليات عدالة انتقالية ومصالحة، يلعب الإعلام دوراً رئيسياً في دعم هذه العمليات أو تعقيدها.
وتؤكد حالة بيرو، على وجه الخصوص، على الدور السلبي الذي لعبته وسائل الإعلام في ترسيخ التصورات الخاطئة العامة عن لجنة الحقيقة والمصالحة في البيرو وتأجيج الاستقطاب السياسي. حيث ركّزت التغطية الإعلامية للجنة على الفضائح والخدمات اللوجستية، ولم تقدّم سوى معلومات سطحية عن عمل اللجنة ونتائجها. ونتيجة لذلك، تركّز اهتمام الجمهور في كثير من الأحيان على الأمور الثانوية مثل رواتب المفوّضين ومزاعم الاختلاس المستمرة وغير المثبتة. وأدّى هذا إلى تحويل انتباه الجمهور عن القضايا الأساسية التي أدت إلى إنشاء لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة ألا وهي الفساد المستشري والانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان التي حدثت في ظل النظام السابق.
وفي نهاية المطاف، يمكن لوسائل الإعلام أن تساعد في تجسير الاتصالات بين عمليات العدالة والجمهور من خلال تجنب التغطية المسيّسة ونزع الصفة الإنسانية عن “الآخر”. وفي المقابل، يمكن للعاملين في الميدان التركيز بدلاً من ذلك على القضايا الجوهرية ووضع أصوات الضحايا في صُلب تركيزهم. وتعمل المشاركة النشطة من قبل وسائل الإعلام في هذه العملية على توسيع الوعي العام، والحد من النزاع، وتعزيز إجراءات العدالة.
محاكمة “بيتلز داعش” القادمة: إمكانية زيادة الإثارة والترويج الاعلامي أم إعادة التوجيه نحو العدالة
من المرجح أن تتجدّد النقاشات حول مخاطر الإثارة والتغطية الإعلامية لتنظيم داعش من خلال محاكمة بيتلز داعش القادمة، حيث يتم محاكمة مواطنَين بريطانيَّين بتهمة قتل عدد من الأمريكيين، من بينهم الصحفيان جيمس فولي وستيفن سوتلوف، وعاملا الإغاثة بيتر كاسيج وكايلا مولر. وستقوم وزارة العدل الأمريكية بمحاكمتهما في ولاية فيرجينيا. ومن المؤكد أن الاهتمام المتزايد لوسائل الإعلام، في الصحافة الصادرة باللغتين العربية والإنجليزية، سيتابع المحاكمة من بدايتها، مما سيوفر للصحفيين فرصة لتحويل الانتباه إلى الضحايا وقضايا المساءلة.
وفي ضوء هذه المحاكمة الجديدة، يحثّ المركز السوري للعدالة والمساءلة الصحفيين على تبنّي أساليب جديدة لتغطية المحاكمة.
- وضع قصص الضحايا في محور الاهتمام
في محاكمة تنظر في الجرائم المروّعة التي ارتكبها داعش، والتي حظيت بتغطية إعلامية جيدة، هناك خطر من أن ينصبّ اهتمام وسائل الإعلام على الجناة وأيديولوجياتهم والمجموعة التي يمثلونها على حساب ضحاياهم. وفي نقاشاتها للجرائم قيد النظر، يجب أن تركّز التقارير الإعلامية على قصص الضحايا وأقاربهم. ويشمل ذلك قصص الأسرى الأمريكيين والأجانب الآخرين، بالإضافة إلى آلاف السوريين الذين وقعوا ضحية داعش، بمن فيهم أولئك الذين ما زالوا في عداد المفقودين.
- عدم افتراض الإدانة
نظراً لطابع الشهرة الذي تتّصف به هذه المحاكمة، نتيجة لمدى جسامة الجرائم وتوثيقها الذي حظي بتغطية إعلامية على نطاق واسع، فقد بدأ بالفعل إصدار الأحكام في محكمة الرأي العام. ومع ذلك، ينبغي أن تتجنب التغطية الإعلامية للمحاكمة افتراض مثل هذه الإدانات. وبدلاً من ذلك، يجب أن يتماشى دور التغطية مع دور المحاكمة ألا وهو إضفاء الطابع الاجتماعي على مبادئ العدالة والمساواة، أي حتى في هذه الحالات الشائنة، يتمتع الجناة بنفس الحقوق التي يتمتعون بها في الجرائم البسيطة. وفي هذا السياق، يقول روجر لو فيليبس، المدير القانوني في المركز السوري للعدالة والمساءلة، “تُختَبرالمبادئ الأساسية لسيادة القانون في المحاكمات الكبرى والهامة”. حيث تُعتبر الإدانة المسبقة بمثابة نصر فارغ لضحايا داعش. وبالتالي، فإن التغطية الإعلامية الهادفة للإثارة التي من المرجح أن تتابع محاكمة بيتلز داعش تتعارض مع مصالح العدالة”.
- تجنب اللغة الهادفة للإثارة
من المؤكد أن تؤدي المحاكمة، بالضرورة، إلى نقاش متجدد حول قضايا مسيسة مثل الإرهاب، والأمن القومي، والمقاتلين الأجانب، والعودة إلى الوطن. ويجب أن تتجنب التغطية الإعلامية للمحاكمة والمواضيع الناشئة عنها استخدام لغة مثيرة من شأنها أن تؤجّج قدراً أكبر من الاستقطاب وخطاباً انتقامياً يُعقّد النقاشات حول الإعادة إلى الوطن. وبدلاً من ذلك، ينبغي أن تركّز التغطية على القضايا الجوهرية لانتهاكات حقوق الإنسان وعمليات المساءلة عن الجرائم المرتكبة. وإذا تجنّبت التغطية الإعلامية مسألة الإثارة، يمكن لمحاكمة “البيتلز” أن تعمل على تطبيع عملية الإعادة إلى الوطن وأهمية محاكمة الأفراد في بلدانهم الأصلية.
- تأطير المحاكمة في سياق جهود العدالة المستمرة
أخيراً، يجب وضع التغطية الإعلامية للمحاكمة في سياق جهود العدالة المستمرة في النزاع السوري. وعلى الرغم من أن هذه المحاكمة هي الأولى من نوعها في الملاحقة القضائية لمقاتلي داعش الأجانب في محكمة أمريكية، إلا أن هناك عدداً متزايداً من القضايا التي تسعى إلى تحقيق العدالة لقاء الجرائم المرتكبة في سوريا، بما في ذلك الجرائم التي ارتكبتها الحكومة السورية. ويجب أن تسلط التقارير الإعلامية حول محاكمة بيتلز داعش الضوء على المحاكمة الحالية في كوبلنتس والمحاكمات المقبلة لمقاتلي داعش في شمال شرق سوريا. ويعتبر الربط بين هذه المحاكمات في الولايات المتحدة وأوروبا فرصة لتثقيف الجمهور بشأن الوعود التي تنطوي عليها عمليات العدالة بشكل عام.
تعزيز خطاب العدالة
لا تقدّم التقارير الإعلامية الحقائق فحسب، بل تنقل الوقائع عبر مجموعة متنوعة من الجماهير. ويمكن للتغطية الهادفة للإثارة أن تشكّل الخطاب العام وقرارات السياسات بشأن قضايا حاسمة بما في ذلك إعادة توطين اللاجئين، والعودة إلى الوطن، والمصالحة. وإن النقاش المتجدد حول الإثارة والممارسات الصحفية هو موضع ترحيب، لاسيما مع محاكمة بيتلز داعش الوشيكة في الولايات المتحدة. ومن المحتمل أن تفتح التغطية الإعلامية للمحاكمة الباب أمام نقاشات ضرورية أوسع نطاقاً حول المساءلة والعدالة لضحايا داعش. وإن وضع المحاكمة في سياقها كجزء من عمليات عدالة أوسع يمكن أن يغير مفهوم المحاكمة من محاكمة واحدة لضحايا أمريكيين إلى خطوة واحدة في العملية الأوسع نطاقاً لتحقيق العدالة لقاء الجرائم المرتكبة في سوريا.
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.