داعش ودوائر العنف: تحقيق الأمن من خلال حماية الحقوق في سوريا والعراق
يساهم الفشل المستمر في تحقيق العدالة في النزاع السوري في اندلاع أعمال عنف دورية خارج حدود البلاد في العراق الشقيق. حيث أن كلّا من التفجيرات الانتحارية في بغداد في 21 كانون الثاني/يناير – وهي جزء من عودة ظهور داعش على نطاق أوسع في كل من العراق وسوريا – وقرار الحكومة العراقية اللاحق بإعدام مئات السجناء بإجراءات موجزة بتهم تتعلق بالإرهاب، أكّدت الحاجة الملحّة إلى إيجاد حل عادل لمصير مقاتلي داعش وعائلاتهم. وبينما يتم إجبار العراقيين والسوريين العاديين على التكيّف مع تداعيات التطرف العنيف داخل مجتمعاتهم، وكذلك قمع الدولة الذي يهدف إلى الحد من هذا التطرف، يجب على المجتمع الدولي دعم الإجراءات القضائية العادلة بحق أعضاء داعش المزعومين في المنطقة وإعادة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم. ويمثل الجمع بين هذه الحلول الخيار الوحيد المستدام لكسر الحلقة العنيفة التي تؤدي فيها الهجمات المتطرفة إلى ممارسة الدولة لإجراءات القمع وانتهاكات الحقوق، والتي بدورها تؤجّج المزيد من الهجمات.
وشهدت الأشهر الثمانية عشر الماضية تصعيداً في هجمات داعش في شمال العراق. ومنذ هزيمة التنظيم على الأرض في عام 2017، ساهمت عوامل مختلفة في استمرار ونمو الخلايا النائمة لداعش في العراق. ويمكن القول إن المخاوف الأمنية قد تراجعت على سلم أولويات التحديات الراهنة التي تواجه الحكومة المؤقتة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي تم تكليفه بمعالجة المطالب السياسية لثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019 وفي الوقت نفسه التعامل مع أزمات الاقتصاد والصحة العامة التي أثارتها جائحة كوفيد-19. غير أن الهجمات التي نفّذها تنظيم داعش في عام 2020 كانت على نطاق أصغر بكثير من التفجيرين الانتحاريين اللذين هزا حي الباب الشرقي الذي يقطنه أبناء الطبقة العاملة وسط بغداد قبل أسبوعين، مما أسفر عن مقتل 32 شخصاً وإصابة أكثر من مائة آخرين. وبعد ثلاثة أيام، صادق الرئيس العراقي برهم صالح على إعدام 340 شخصاً بتهم الإرهاب في محاولة لإثبات جدية الحكومة فيما يتعلق بمحاربة داعش. ويأتي هذا الأمر بعد عدة أشهر فقط من تنفيذ عشرات الإعدامات بتهم تتعلق بالإرهاب، مما دفع مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان إلى انتقاد الحكومة العراقية شخصيا لانتهاكها حقوق الإنسان في محاكمة المشتبه في ارتكابهم أعمالا إرهابية (بما في ذلك من خلال انتزاع اعترافات تحت التعذيب).
وسيؤثر قرار الرئيس صالح بلا شك على ديناميكيات النزاع السوري، لاسيما في ظل عودة ظهور تنظيم داعش في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة السورية شرق الفرات والأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية إلى الغرب. وفي هذه المناطق، تشمل العوامل التي ساهمت في إعادة نمو داعش الثغرات الأمنية خلال كوفيد-19، وانخفاض الضغط العسكري المباشر، وتهريب البشر من مراكز اعتقال أعضاء التنظيم. ونتيجة لذلك، تمكّن التنظيم من شن سلسلة من الهجمات عبر شرق سوريا طوال عام 2020 وحتى في عام 2021 – حيث شن التنظيم مؤخراً هجوماً على قوافل عسكرية في دير الزور – ويَعبُر بحرية إلى الأراضي العراقية. وفي حين يجب معالجة التهديد الأمني الذي يشكله عودة ظهور داعش، فإن الفكرة السائدة بين القضاة العراقيين بأن “العقوبة هي الإعدام، سواء قاتلوا أم لا”، تعمل فقط على تقوية داعش. حيث يشعر الأعضاء بالاستياء والغضب تجاه السلطات التي تفرض عقوبة الإعدام بشكل تلقائي وتنتزع اعترافات تحت التعذيب، حتى من القُصّر. وفي الواقع، كان هذا النهج بالذات في الاعتقال والعقاب في العراق بعد الغزو الأمريكي هو الذي ساعد على ظهور داعش في معسكر بوكا وأماكن أخرى.
وبالتالي، من الضروري اتباع نهج أكثر ملاءمة واستدامة لمقاضاة أعضاء تنظيم داعش المزعومين. وسيقتضي ذلك من النظام القضائي العراقي الاستجابة لنداء منظمات حقوق الإنسان وسنّ إجراءات قضائية على أساس المحاكمة العادلة. ويجب على القضاة العراقيين التخلي عن “المحاكمات” السريعة الشائنة التي تتراوح مدتها بين 10 و15 دقيقة والتي يلتقي فيها المحامون المعيّنون من قبل الحكومة مع موكليهم قبل المحاكمة بوقت قصير، ويُحكم فيها على مجموعات من المتهمين بالإعدام، بغض النظر عن درجة تورطهم في التنظيم. وعدا عن دمج الإجراءات الأساسية للمحاكمة العادلة، كما اقترحت منظمات حقوق الإنسان، يجب أن تدمج استراتيجيات الادعاء العام في العراق العناصر المرتبطة بالعدالة الانتقالية. على سبيل المثال، يجب أن يتمكن الضحايا الراغبون في المشاركة في جلسات المحكمة (مثل الإدلاء بشهادة أو أدلة أخرى) من القيام بذلك تحت الحماية خلال جميع المراحل. ومع ذلك، يجب ألا تكون مشاركتهم دون الكشف عن هويتهم، وذلك لتمكين المتهمين من فهم التهم والدفاع عن أنفسهم بشكل فعال. ويسمح هذا النهج بإسماع أصواتهم وحماية مصالحهم، بل وقد يساهم في التعافي الفردي والجماعي من خلال قول الحقيقة والمساءلة والمصالحة. وينبغي تطبيق نفس الفلسفة القانونية على أعضاء داعش المزعومين المعتقلين في سوريا، لاسيما أثناء المحاكمات في الشمال الشرقي التي أعلنت عنها قوات سوريا الديمقراطية.
لكن مسؤولية الملاحقة القضائية لأعضاء داعش المزعومين، وتقديم الدعم لعائلاتهم البريئة، لا تقع فقط على عاتق السلطات العراقية والسورية. حيث يتعيّن على الدول الأخرى اتخاذ خطوات لإعادة مقاتلي داعش المعتقلين إلى أوطانهم من أجل الموازنة بشكل مسؤول ومعقول بين المخاوف الأمنية وبين واجبها في دعم حقوق الإنسان لمواطنيها الذين سافروا إلى سوريا والعراق للانضمام إلى داعش. وأوضح المركز السوري للعدالة والمساءلة سابقاً أن التقاعس الحالي يؤدي إلى ترك النساء والأطفال في الظروف غير الإنسانية السائدة في مخيم الهول وييسّر “جميع أنواع التلقين العقائدي للأطفال الصغار والنساء اللواتي لا يعرفن ما سيحدث لهن أو لعائلاتهن”. وإن مثل هذه الظروف، إلى جانب عمليات الإعدام بإجراءات موجزة الجارية الآن في العراق، لن تؤدي إلا إلى تفاقم مشكلة التطرف: فهي تترك مئات العائلات بلا أزواج وإخوة وآباء وأبناء، وتعرّضهم لإهمال الدولة والتهميش الاجتماعي.
ولقد ربطت هذه الديناميكيات كلّا من سوريا والعراق في دوائر عنف أدت إلى تمادي المنظمات المتطرفة وأضفت الشرعية على انتهاكات حقوق الإنسان. وفي حين أن الحل السياسي العادل للنزاع السوري ضروري لإزالة الظروف التي سمحت لداعش بإعادة بناء نفسه في كلا البلدين، إلا أنه يمكن معالجة المشاكل القضائية والاجتماعية التي يشكّلها سجناء داعش على الفور. حيث يتعيّن على المجتمع الدولي العمل مع السلطات المحلية في شمال شرق سوريا والعراق لضمان محاكمات محلية عادلة لأعضاء داعش المزعومين، وكذلك تحمّل مسؤولية إعادة المقاتلين الأجانب المسجونين إلى أوطانهم. وإزاء الافتراض الخاطئ بأن مكافحة تهديدات المتطرفين تتطلب التضحية بالحقوق، يجب على الدول الاعتراف بأن السلام والأمن المستدامين وحماية حقوق الإنسان يعزز كل منهما الآخر.
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.