1 min read
منسيات في زمن الحرب

منسيات في زمن الحرب

عندما اختفى زوج فاطمة (تم تغييرالاسم) في عام 2013 ، خاطرت بحياتها للعثور على أي أخبار عنه. وتتذكر قائلة: “بحثت عنه في جميع الأفرع الأمنية في دمشق، ولكن لإعطائي أي معلومات، طلبوا مني المال الذي لم أكن أملكه.

زوجها من بين الآلاف من المخطوفين والمفقودين والمعتقلين في الحرب السورية والمستمرة منذ أكثر من تسع سنوات. وإلى جانب الجرائم التي عانى منها المختفون، تضطر عائلاتهم إلى العيش في حالة من النسيان المؤلم. حيث غالباً ما تُترك العائلات للتكيّف مع اختفاء شخص عزيز بمشاعر متناوبة بين الأمل واليأس بينما تنتظر الحصول على إجابات. وتشكّل هذه الحالة من عدم اليقين عِبئاً نفسياً عميقاً.

وتحدّد الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 كلاً من المختفين وأفراد أسرهم كضحايا للاختفاء القسري. وفي سوريا، كما هو الحال في معظم النزاعات حول العالم، تُشكّل النساء أقلية من بين الأشخاص المختفين، لكنهن يعانين من أضرار اقتصادية واجتماعية ونفسية شديدة بسبب اختفاء أفراد عائلاتهن من الذكور. حيث غالباً ما تُترك زوجات وأمهات وبنات الأشخاص المختفين لمواجهة العديد من التحديات التي تتفاقم بسبب القوانين الذكورية والمعايير الاجتماعية القائمة مسبقاً، ولكن غالباً ما يتم إغفال تجاربهن أو تهميشها في النقاشات حول الأشخاص المفقودين والمعتقلين.

بالنسبة للنساء مثل فاطمة، كان فقدان أحبائهن هو البداية المؤلمة لسلسلة لا نهاية لها من الحزن والنضال. “النساء اللواتي فقدن أزواجهن أو آبائهن، إذا لم يكن لديهن عمل، فسوف يكافحن من أجل الحصول على عمل لإعالة أسرهن. كما ستواجه مجتمعًا يتعامل بطريقة سيئة للغاية مع الأمهات العازبات.

وحدهن في مواجهة الفقر والتمييز

في عام 2018 ، أجرت منظمتان سوريتان هما “دولتي” و”النساء الآن من أجل التنمية” استطلاعاً شمل أكثر من 50 امرأة سورية من أقارب المفقودين في سوريا ولبنان. حيث أشارت غالبية النساء اللاتي تمت مقابلتهن بأنهن فقدن المعيل الرئيسي للعائلة وأنهن قد نزحن مرة واحدة على الأقل. وكان لدى 89% منهن طفل واحد على الأقل وكان لدى 58% أربعة أطفال أو أكثر، ولكن كانت أكثر من 65% منهن عاطلات عن العمل. وتكافح العديد من النساء لإيجاد عمل بينما لم يحظين إلا بقدرٍ محدود من التعليم، ولا يتوفر لهن سوى عدد محدود من الفرص الاقتصادية. ولا تستطيع بعضهن العمل لأنهن لا يزلن قائمات على رعاية أطفالهن. وفي غياب المعيل الرئيسي، تنقسم المشاكل المادية التي تواجهها هؤلاء النساء إلى عدة الجوانب: انعدام الأمن الاقتصادي والاعتماد على أهل الزوج، والإعانات الاجتماعية المحدودة، والأعباء المالية المترتبة على إعالة أطفالهن وعائلاتهن والبحث عن أقاربهن المفقودين.

وعلى الرغم من هذه الأعباء الاقتصادية، فإن حالة عدم اليقين بشأن مصير المختفين يترك معظم العائلات غير مؤهلة للحصول على مساعدات من “صناديق أموال الشهداء” وغيرها من أشكال المساعدات المخصصة لعائلة المتوفى في مناطق سيطرة الحكومة السورية. وتتفاقم محنة تلك العائلات بسبب الهيكل القانوني القائم الذي يُلحق ضرراً شديداً بأفراد العائلة من الإناث في غياب ربّ الأسرة الذكر. وفي غياب أفراد الأسرة من الذكور، تغدو مطالبة المرأة بالملكية محفوفة بالمخاطر. في استطلاع عام 2018، ذكرت العديد من النساء اللاتي تمت مقابلتهن أن ممتلكاتهن كانت معرضة للخطر، بل وفقدنها في بعض الأحيان، لصالح الذكور من عائلة الزوج أو لصالح الحكومة السورية. وبموجب قانون الأحوال الشخصية السوري، يُعتبر الآباء كذلك الأوصياء الرئيسيين على أطفالهم، تاركين للأمهات سلطة قانونية محدودة على أطفالهن في حالة اختفاء الأب. وبدون الحصول على إنابة موقّعة من الأب، تُنقل الوصاية إلى جد أو أعمام الطفل من أهل الزوج، مما يُخضِع سلطة الأم على أطفالها إلى إرادة أقارب زوجها من الذكور.

وتدفع هذه القيود في نهاية المطاف بعض النساء إلى طلب الطلاق من أزواجهن المفقودين، أو لتغيير حالة أزواجهن بشكل قانوني إلى متوفى. وغالباً ما تُترك أولئك اللاتي يرفضن القيام بذلك دون سبيل للانتصاف. حيث يعتبر القانون السوري أن الشخص المفقود يعتبر حياً حتى يبلغ من العمر ثمانين عاماً أو، في حالة النزاع الحالي، فإنه يجوز الحكم بموته بعد مرور أربع سنوات على تقديم شكوى رسمية بشأن الشخص المفقود. إذ لا يمكن للقاضي أن يصدر حكماً بوفاة المفقود قانوناً إلا بعد مرور أربع سنوات. غير أن العملية القانونية تختلف اختلافاً كبيراً تبعاً لما إذا كانت زوجات المفقودين يَعِشن تحت سلطة الحكومة السورية أو سلطة الأمر الواقع. على سبيل المثال، بما أنه لا يمكن تقديم شكوى رسمية إلا في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، فإن أولئك الذين يعيشون في شمال وشمال شرق سوريا لا يمكنهم تسجيل الأشخاص المفقودين رسمياً دون مواجهة عدد لا يحصى من المخاطر الأمنية مثل الاعتقال أو التحقيق.

“أنا لا أدع أحداً يرى أنني في أعماقي حزينة جداً”.

تحدّثت مديرة المشاريع في المركز السوري للعدالة والمساءلة والمسؤولة عن برنامج المفقودين، الذي يعمل بشكل وثيق مع عائلات المفقودين في شمال شرق سوريا، عن العواقب طويلة الأجل والمدمرة التي تعاني منها قريبات المفقودين. حيث تقول “تضطرّ بعض الزوجات إلى التخلي عن أطفالهن لأن عائلات النساء غير قادرات على تحمّل نفقات المعيشة”. وعلاوة على ذلك، فإنهن يعانين من تَبِعات نفسية هائلة. “تعاني معظم النساء اللاتي التقيت بهن أعراض اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والميول الانتحارية.” ومع ذلك، يجب على النساء أيضاً التعامل مع تجاربهن، ليس كضحايا فحسب، بل كأمهات لأطفال المفقودين. في استطلاع عام 2016، وصفت امرأة الحاجة إلى إخفاء حزنها أمام أطفالها: “لا يمكنني أن أسمح لهم بأن يشعروا بأنني حزينة، لأنهم متأثرون بالفعل. ولكن بالليل، بعد أن يناموا، أتمنى أن أموت، ولا أرى صباح اليوم التالي. أنا لا أدع أحداً يرى أنني في أعماقي حزينة جداً. لا أدعهم يعرفون هذا الشيء”.

وعلى الرغم من معاناتهن ومُصابهن، لا تُقابَل العديد من زوجات المفقودين بالتعاطف، وإنما بالوصم من بعض فئات المجتمع، خاصة عندما يخترن طلب التفريق (الطلاق) أو الزواج مرة أخرى. وفي استطلاع أجرته صحيفة عنب بلدي السورية، سُئل المستجيبون: “ما الذي يجب أن تفعله زوجة المعتقل أو المفقود منذ سنوات عديدة؟” شعر 50% من المستطلعين بضرورة انتظار إطلاق سراح الأزواج. وفي جميع أنحاء المجتمع السوري، توصَم زوجات المفقودين أحياناً بأنهن مثل “البومة” أو “الغراب” في إشارة إلى القدر السيء. وتُنبذ أخريات في مجتمعاتهن من قبل أولئك الذين يخشون الارتباط بأقارب أشخاص معتقلين. وفي ظلّ هذا الوصم، ومع محدودية الوصول إلى الصحة النفسية، غالباً ما تُترك النساء وحدهن للتعامل مع مُصابهن وصدمتهن.

“كعائلات، عانينا بما فيه الكفاية”

على الرغم من كل العقبات، أخذت العديد من النساء السوريات الأمر على عاتقهنّ لدعم بعضهن البعض والنضال من أجل أحبائهن المفقودين. وكما هو الحال في الأرجنتين ولبنان وفي العديد من النزاعات حول العالم، قامت النساء بدور رائد في الدفاع عن المفقودين في سوريا. ومن بين أبرز هذه الجماعات، نذكر “عائلات من أجل الحرية”، وهي حركة عائلات تقودها النساء وتطالب بإطلاق سراح السوريين من الاعتقال من قبل جميع أطراف النزاع ومنح عائلاتهم “الحق في معرفة” ما إذا كان أحباؤهم على قيد الحياة ومكان وجودهم. وتضم عائلات من أجل الحرية 250 عضواً وعضوة في مختلف فروعها في سوريا والمملكة المتحدة وألمانيا وتركيا ولبنان، وتديرها لجنة توجيهية مؤلفة من 11 امرأة. وفي آب/أغسطس 2019، تحدّثت امرأتان شاركتا في تأسيس عائلات من أجل الحرية، الدكتورة هالة الغاوي وأمينة خولاني، أمام مجلس الأمن الدولي. حيث قالت الدكتورة هالة للمجلس، وهي التي اعتُقِل زوجها وشقيقها وأقاربها وزملاؤها في الطاقم الطبي، وقُتل بعضهم في الحرب، “في ذكرى هؤلاء – وفي ذكرى مئات الآلاف من السوريين المختفين والقتلى – أقف بين أيديكم اليوم”. وقالت في مناشدتها للمجتمع الدولي “لقد عانينا بما فيه الكفاية كعائلات. أنا هنا اليوم لأطالبكم بالتحرك”.

التوصيات

بعد أكثر من 9 سنوات على الحرب، فقد آن الأوان للتوقّف عن تجاهل حالة التّيه وانعدام الأمن والحزن المستمرة التي تعاني منها زوجات المفقودين والمعتقلين وأمهاتهم وبناتهم. وفي حين تم تسليط الضوء على نحو صائب على قضية المفقودين والمعتقلين من قبل المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، إلا أنه يجب اتّباع نهج يراعي منظور النوع الاجتماعي (الجندر) في جهود العدالة والبرامج المتعلقة بالمفقودين والمعتقلين. وعلاوة على ذلك، في برامج المساعدة في سوريا والدول المجاورة، يمكن أن يساعد توسيع الدعم النفسي الاجتماعي المصمّم خصّيصاً لتلبية احتياجات المرأة في توفير الدعم الذي توجد حاجة ماسّة إليه لأفراد العائلة. وأخيراً، يمكن أن يؤدي إنشاء وضعية قانونية للأشخاص المفقودين إلى التخفيف من التحديات القانونية التي تواجهها قريبات الأشخاص المفقودين، وإلى المساعدة على توسيع نطاق وصولهن إلى برامج المساعدات.

ولكن في نهاية المطاف، ما تحتاجه عائلات المفقودين هو وضع خاتمة للأحزان والتصالح مع الذات. ويعني هذا الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وتوفير المعلومات، وفتح خطوط الاتصال مع أولئك الذين يبقون في السجن، وإطلاق برنامج شامل للمفقودين للتحقيق في مصير أولئك الذين لا يزالون مفقودين. وبينما تحافظ دمشق على الوضع الراهن، تقع المسؤولية على عاتق المجتمع الدولي في دعم الجهود السياسية والمالية للكشف عن مصير المفقودين. ومن خلال إشراك منظمات المجتمع المدني السورية ذات الصلة وتلك التي تقودها النساء في جهود العدالة، يمكن لهذه الجهود أن تُقرّ بالعبء غير المتكافئ للنزاع الذي تتقاسمه كل من النساء والعائلات من ذوي الأقارب المفقودين. ولكن عدم توفر الإرادة السياسية حالياً لمواجهة قضايا المعتقلين والمفقودين لن يؤدّي إلّا إلى مضاعفة النّدوب غير المرئية لدى أفراد عائلات المفقودين. وبما أن تفشّي جائحة فيروس كورونا قد جدّد الدعوات للإفراج عن الأشخاص المعتقلين تعسّفاً، يحظى المجتمع الدولي بفرصة فريدة للاستماع إلى أصوات هذه الأسر وتحقيق عملية البحث عن أحبائهم.

للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.