مخاطر وصعوبات إحصاء الضحايا في سوريا
لقد حظيت محنة آلاف المعتقلين السوريين باهتمام الرأي العام في الأشهر الأخيرة، حيث بدأت الحكومة بتحديث السجلات المدنية بأسماء الأشخاص الذين قضوا في المعتقلات ولم يتم الإبلاغ عنهم في السابق. وتشمل العديد من التقارير الإخبارية التي تغطّي هذه القضية عدد الأشخاص الذين يُعتقد حالياً أنهم محتجزون في مراكز اعتقال تديرها الحكومة. يجب التعامل مع هذه الأرقام بحذر كبير. ففي حين أن هناك ضغطاً مستمراً من الصحفيين والدبلوماسيين لتوفير أعداد دقيقة، سواء كانت لمعتقلين أو نازحين أو وفيات مرتبطة بالنزاع، فإن طبيعة النزاع تجعل من الصعب للغاية حساب حصيلة دقيقة في هذا الوقت. وبدلاً من هذه الأعداد والأرقام، يجب على المنظمات أن تحوّل النقاشات نحو المعلومات التي تكون في الغالب مهمة لفهم سياق الأحداث، بما في ذلك الإبلاغ عن أنواع الانتهاكات التي تُرتكب، وتحليل أنماط تلك الانتهاكات، وتسليط الضوء على قصص الناجين من الأفراد.
إن تتبّع أعداد القتلى والضحايا بدقة يشكّل تحدياً دائماً في سياق النزاع. إذ يمكن للنزاع أن يجعل الوصول إلى المناطق المتضررة أمراً خطراً أو مستحيلاً، وإن المؤسسات المحلية التي عادة ما تتبّع حالات الوفاة، مثل المستشفيات، ترزح تحت عبء هائل. وفي بعض البلدان النامية، قد لا تكون إحصائيات السكان الموثوقة متاحة قبل أي نزاع، مما يجعل من الصعب حساب الخسائر البشرية بدقة. وحتى يومنا هذا، تختلف تقديرات حصيلة القتلى المدنيين في العراق بين الغزو الأمريكي في عام 2003 والانسحاب التدريجي عام 2011 اختلافاً كبيراً، بين 160 ألف و1.2 مليون، بحسب المصدر.
وفي عام 2014، أعلنت الأمم المتحدة أنها قد أوقفت تحديث حصيلة القتلى في النزاع في سوريا بسبب صعوبة التحقق من المعلومات على الأرض والوصول إليها. وتواصل مجموعة من منظمات التوثيق السورية تتبع الوفيات في النزاع، ولكنها تواجه تحديات مماثلة. وتعتبر جهود التوثيق هذه مهمة للغاية لتسترشد بها نقاشات السياسات الحالية وآليات المساءلة المستقبلية، ولكن لا ينبغي اعتبارها شاملة.
وعندما توفّر المنظمات الأعداد الإجمالية لحصيلة الوفيات، على سبيل المثال، غالباً ما تعكس فقط الأسماء المحددة التي وثّقتها المنظمات على أنهم متوفّون. وفي حالات أخرى، تُقدّر المنظمات مجموع الخسائر بناء على توليفة من الأسماء المسجلة مع تقارير وسائل الإعلام وشهادات شهود العيان. وقد نشرت بينيتيك (Benetech) عدداً من التحليلات التي تقارن سجلات الخسائر البشرية التي أبلغت عنها منظمات توثيق مختلفة. وتسلّط بينيتيك الضوء على الصعوبات الخاصة بحساب حصيلة الوفيات، بما في ذلك وجود تقارير مكررة في مجموعات البيانات، وتحيزات التواجد الجغرافي للمنظمات الفردية، وإمكانية وجود تقارير كاذبة. وغالباً ما تنتج تقارير كاذبة عن خطأ بشري غير مقصود أو معلومات غير كاملة متاحة في وقت التوثيق. على سبيل المثال، أجرى المركز السوري للعدالة والمساءلة مقابلة مع امرأة اعتقدت بشكل خاطئ أن ابنها كان محتجزاً في سجن حكومي. وبعد بحث طويل، بما في ذلك دفع رشاوى لمسؤولين أمنيين، أُخبِرَت بالتحديد بمكان احتجازه. ثم، بعد ثلاث سنوات من اختفائه، تم اكتشاف جثته. حيث لم يكن محتجزاً لدى الحكومة، بل قُتل على يد جماعة مسلحة غير تابعة للدولة. وإن مثل هذه المعلومات غير الدقيقة، رغم أنها مأساوية، إلا أنه لا مفر منها في سياق فيه الكثير من المفقودين.
وينبغي على المنظمات عندما تقوم بالإبلاغ العلني عن التوثيق أن تتحرّى الصدق بشأن محدّدات بياناتها، وألّا تدّعي بأنها قادرة على تقديم صورة شاملة للنزاع. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب على المجموعات نشر منهجيتها، والاعتماد على نطاق تقديري من الأعداد والأرقام بدلاً من الادّعاء بتقديم أعداد وأرقام دقيقة. ويمكن رؤية مثال جيد على هذا المعيار في تقرير منظمة العفو الدولية “إنه يحطّم إنسانيتك: التعذيب والمرض والموت في سجون سوريا“، الذي يقدّر عدد المعتقلين الذين قضوا في المعتقلات حتى نهاية عام 2015 بنحو 17,723 شخصاً. وتم تقديم هذا العدد التقديري من قبل مجموعة محللي بيانات حقوق الإنسان (HRDAG)، وتم نشره إلى جانب تحليل معمق حول كيفية الوصول إلى هذا العدد، بما في ذلك نقاش مفتوح لهامش الخطأ المحتمل. وفي حين أن هذا المستوى من التحليل قد لا يكون ممكناً للمنظمات الأصغر، إلا أن أي منظمة تنشر أعداداً وأرقاماً يجب أن تكون قادرة على توفير منهجية أساسية. وتقع مسؤولية الحفاظ على هذا المستوى من الانفتاح في جمع البيانات ليس فقط على المجموعات التي تقوم بالإبلاغ عن مثل هذه البيانات، ولكن على الصحفيين والدبلوماسيين أيضاً، الذين يصرّون بانتظام على الأعداد والأرقام حتى عندما يستحيل الحصول على هذه المعلومات، وينشرون هذه النتائج مع قليل من الاعتبار للمنهجية أو دقة المصدر. وفي نهاية المطاف، يجب الضغط على الحكومة السورية ومجموعات المعارضة، وليس على منظمات المجتمع المدني، للإفصاح عن أعداد المحتجزين.
وبصرف النظر عن التحديات المنهجية، من المهم أيضاً النظر في قيمة التركيز على هذه الأعداد والأرقام. وبينما تلعب هذه الأعداد والأرقام بالتأكيد دوراً في فهم النزاع والمناصرة من أجل تحقيق العدالة، إلا أن أولئك الذين يقدّمون تقارير حول هذه القضايا يجب أن ينظروا في اتباع مقاربات أكثر دقة. ولقد أوضح باتريك بول من (HRDAG) أهمية الذهاب إلى ما هو أبعد من أعداد القتلى في السعي إلى تحقيق العدالة في سوريا، حيث كتب، “إن العدد الإجمالي للوفيات الناجمة عن العنف لا يبوح سوى بجزء صغير من القصة. إلى جانب ضخامة الأهوال التي لحقت بالمدنيين السوريين، فمن المهم أكثر فهم أنماط العنف: أين في سوريا يُعتبر العنف أسوأ؟ وهل ينقص عدد الوفيات أم يزداد مع مرور الوقت؟ وهل يؤثر العنف في الغالب على النخب الحضرية أم الناس في المناطق الريفية؟” وبالإضافة إلى فهم هذه الأنماط على المستوى الكلي، يجب أن تسعى النقاشات العامة أيضاً لإخبار القصص الفردية للضحايا وعائلاتهم، وهي القصص التي يمكن غالباً أن تضيع في الإحصائيات. وبالإضافة إلى ذلك، فإن توفير الأعداد والأرقام، التي تتضمن دائماً مستوى معين من عدم الدقة، يمكن أن يؤدي إلى تعريض المؤسسات للنقد الذي غالباً ما يعمل على تقويض بقية تقاريرها وتحليلاتها وحملات مناصرتها القيّمة. ولهذه الأسباب، اختار المركز السوري للعدالة والمساءلة عدم نشر إحصائيات من قاعدة بياناته، وفي المقابل، يستخدم المركز التوثيق لإعداد تقارير أوسع حول الانتهاكات في سوريا.
وفي سوريا في مرحلة ما بعد النزاع، قد يصبح من الممكن تحديد حجم النزاع بدقة أكبر، وحساب العدد الإجمالي للموتى والمفقودين، فضلاً عن أولئك الذين عانوا من أنواع معينة من الانتهاكات. ومن المحتمل أن يتطلب مثل هذا المشروع قدراً أكبر من الوصول والشفافية ويمكن أن يكون جزءاً مهماً من عمليات العدالة الانتقالية. وبالتأكيد، قد تكون جهود التوثيق الحالية قادرة على إثراء التقارير المستقبلية، ولكن على المدى القصير، فإن هذه الأعداد والأرقام تضلل الجمهور حول النزاع نفسه، وحول قدرات منظمات التوثيق لجمع المعلومات وسط العنف المستمر.
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر.