شهادات الوفاة والبحث عن حقيقة المفقودين في سوريا
الصورة لـ ويليام واربي
منذ بداية النزاع في سوريا، اختفى عشرات آلاف من الأشخاص وتم القبض عليهم واحتجازهم من قبل أجهزة الأمن الحكومية، و بدرجة أقل، من قبل جماعات مسلحة غير تابعة للدولة، والتي لا تقدّم معلومات حول وضع الأشخاص المعتقلين أو أماكن اعتقالهم. لكن في الأسابيع الأخيرة، بدأت الحكومة تعمل بصمت في تحديث سجلات السجل المدني، حيث قامت بتغيير حالة الأفراد الذين فُقدوا في معتقلات الحكومة إلى “متوفين” لأسباب طبيعية. ويُعدّ هذا التحديث الكبير للمعلومات محاولة من جانب الحكومة لإنهاء معضلة كبيرة حول ممارسة الاختفاء القسري في البلاد من خلال الادعاء بأن مصير هؤلاء الأفراد قد تم تحديده. علاوة على ذلك، من خلال الادّعاء بأن كل هذه الوفيات حدثت لأسباب طبيعية، تحاول الحكومة إخفاء الجرائم التي يُزعم أنها ارتُكبت في مراكز الاعتقال السورية، حيث يموت السجناء بسبب سوء الأوضاع، والافتقار إلى الرعاية الطبية، وبسبب التعذيب، وعمليات القتل خارج نطاق القضاء.
إن إصدار شهادات الوفاة لا يحقق العدالة بأي حال من الأحوال. وكما تؤكّد الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، فإن لأسَر الأشخاص المختفين الحق في معرفة ما حدث لأحبّائهم، بما في ذلك سبب الوفاة ومواقع رفاتهم. ويجب أن يكون إجراء تحقيق مستقل في مصير الأشخاص المختفين أحد مطالب أي معاهدة سلام تصادق عليها الأمم المتحدة.
ووفقاً للتوثيق الذي يقوم به المركز السوري للعدالة والمساءلة، فقد تم إعلان وفاة المئات عبر شهادات وفاة موقّعة من مستشفيات حكومية، أو عبر تحديث سجلات السجل المدني، بتواريخ وفاة تمتد على طول فترة النزاع، من ريف دمشق إلى حماه والحسكة وحمص واللاذقية. وكان نصيب معضمية الشام، وهي بلدة يبلغ عدد سكانها 50 ألف نسمة في ريف دمشق، رقماً مهولاً يبلغ 500 حالة وفاة لسكان سابقين. وشملت الأسماء التي تم نشرها مؤخراً أسماء نشطاء سياسيين بارزين، بما في ذلك الناشط اللاعنفي القيادي يحيى الشربجي، الذي تم اعتقاله في عام 2011. حيث أعلنت عائلته هذا الأسبوع أنها تلقّت مؤخراً تأكيداً على وفاته في سجن صيدنايا سيء السمعة في 15 كانون الثاني/يناير 2013، وقد ورد نفس تاريخ الوفاة لثلاثة معتقلين آخرين على الأقل في نفس السجن، مما يقوّض مصداقية ادّعاء الحكومة بالأسباب الطبيعية للوفاة. وفي بعض البلدات، تم إبلاغ الأسر عن الوفيات من قبل السلطات المحلية، بينما في بلدات أخرى اكتشفت الأسر مصير أقربائها عن طريق الصدفة. حيث ذكر رجل قابله المركز السوري للعدالة والمساءلة أنه قد عَلِم بوفاة والده أثناء محاولته استلام الراتب التقاعدي لوالده.
وأثار نشر الأسماء الذعر بين العديد من السوريين، الذين يهرعون إلى مكاتب السجل المدني المحلي للاستفسار عن أحبائهم. وبما أن أحد أفراد الأسرة المباشرين يجب أن يكون حاضراً للمطالبة بشهادة وفاة، بقيت العديد من الأسر اللاجئة دون وسيلة للاستفسار عن أحبائها المختفين، كما أن العديد من المحامين الذين يمكنهم الاستفسار نيابة عنهم هم غير راغبين في القيام بذلك، لأنهم لا يريدون أن يتم تسجيل ذلك الاستفسار من قبل الحكومة.
وحتى قبل اندلاع النزاع، قامت الحكومة السورية بإخفاء معارضين سياسيين، وكان إطلاق سراح هؤلاء السجناء وإصلاح هذه الممارسات مطلباً لطالما نادى به نشطاء حقوق الإنسان والمواطنون. ومنذ اندلاع النزاع، ازداد عدد المختفين زيادة كبيرة، حيث تشير لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة إلى أن حالات الاختفاء القسري قد ترقى إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية، وأن حالات الاختفاء هذه لا تنتهك القانون العُرفي الدولي فحسب، بل تؤدّي غالباً إلى جرائم أخرى، بما في ذلك التعذيب.
وفضلاً عن الأشخاص المختفين أنفسهم، يعاني أفراد الأسرة الناجون من الآثار العاطفية الناتجة عن التساؤل عن مصير أحبّائهم ويبقون في حالة من عدم اليقين القانوني فيما يتعلق بالأصول والخطط المالية للمستقبل. وبما أن غالبية المختفين هم من الرجال، فإن النساء غالباً ما يبقين دون إعالة مالية، ويترتب على قرار طلب الطلاق أو طلب إعلان وفاة الشخص المفقود عواقب مالية وعاطفية واجتماعية معقّدة. وفي حين أن قيام الحكومة بإصدار شهادات الوفاة مؤخراً يُعلِم أفراد الأسرة عن المصير النهائي لأحبائهم، ويتيح لهم معالجة التحديات القانونية، إلا أنه يحرمهم من حقّهم في معرفة الحقيقة بشأن ظروف وفاة أحبّائهم ومكان وجود رفاتهم.
ويجب أن يكون تحقيق العدالة للمختفين وأسَرِهم شرطاً غير قابل للتفاوض لأي معاهدة سلام، ويجب على المبعوث الخاص للأمم المتحدة إعطاء الأولوية للتدابير التالية. أولاً، يجب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين الباقين جميعهم، سواء كانوا محتجزين من قبل قوات تابعة للدولة أو قوات غير تابعة للدولة، ويجب إتاحة المعلومات الأساسية عمّن بقي من السجناء غير السياسيين. ثانياً، ينبغي إنشاء وضع قانوني جديد، شبيه بوضع “الغياب بسبب الاختفاء القسري” في الأرجنتين، مما يسمح لأفراد الأسرة بمعالجة احتياجاتهم المالية والقانونية في الوقت الذي يخضع فيه مصير أقاربهم للتحقيق. وأخيراً، ينبغي تكليف هيئة تحقيق مستقلة، مثل لجنة التحقيق الدولية القائمة أو لجنة حقيقة، بالتحقيق في حالات الاختفاء القسري وتحديد مصير الأشخاص المختفين.
وقد تم إنشاء لجان الحقيقة التي تركّز على حالات الاختفاء في الأصل في أمريكا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي نتيجة للكفاح الدؤوب من قبل أسَر عازمة على معرفة مصير أحبائها. ففي الأرجنتين، حيث اختفى 30,000 شخص من عام 1976 إلى عام 1983، تم تشكيل اللجنة الوطنية المعنية بالأشخاص المختفين. وأصبح تقريرها النهائي، بعنوان (Nunca Más) (لن يتكرّر ذلك أبداً)، من أكثر الكتب مبيعاً، ويتضمّن معلومات عن الممارسات المنهجية لحالات الاختفاء والتعذيب والاحتجاز التي تستخدمها الحكومة، فضلاً عن 8,960 حادثة اختفاء محدّدة. وفي سوريا، يمكن لآلية تحقيقٍ أن تركّز على وضع قائمة شاملة بأسماء المتوفين في مراكز الاعتقال وإثبات الحقائق الأساسية لحالات اختفائهم ووفاتهم، بما في ذلك مكان رفاتهم. حيث يمكن أن يلعب إصدار هذه المعلومات دوراً هاماً في مساعدة أفراد الأسرة على الحِداد والتعافي.
دعا المركز السوري للعدالة والمساءلة دوماً إلى الإفراج عن المعتقلين ونشر معلومات عن المختفين. وإن الإجراءات الأخيرة التي اتّخذتها الحكومة لا تعفيها من التزاماتها بموجب القانون الدولي، سواء تجاه المعتقلين أو أسَرهم. وبينما تُسارع الحكومة إلى وضع حدٍ للحرب الدائرة في ساحة المعركة، من الضروري أن يقوم المجتمع الدولي بتسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ما زالت مستمرة في سوريا، وذلك من خلال استخدام النفوذ الذي يتمتّع به في مفاوضات السلام والتمويل المحتمل لإعادة الإعمار للإصرار على تحقيق العدالة في جميع الجرائم، بما في ذلك معرفة الحقيقة للأشخاص المختفين.
لمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك وتويتر.