أهمية الاعتذار وقول الحقيقة في الصراع السوري
مصطفى طلاس (يسار)، الصورة من ويكيبيديا: و
جهاد مقدسي، الصورة من الأمم المتحدة-جنيف
في 27 حزيران/يونيو، تُوفّي في باريس وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس، 85 عاماً. وكان طلاس – الذي شغل منصب وزير الدفاع في الفترة من 1972 إلى 2004 – مساعداً مقرباً للرئيس السوري السابق حافظ الأسد وابنه الرئيس الحالي بشار الأسد. وفي الوقت الذي أمر فيه وزير الدفاع طلاس بتنفيذ ما يصل إلى 150 حكماً بالإعدام شنقاً في الاسبوع في دمشق وحدها، فهو متّهم أيضاً بتنسيق مجزرة حماة عام 1982، حيث يقال إن الجنود ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية وقتلوا ما يتراوح بين 10 إلى 40 ألف شخص. ولم يعتذر طلاس علناً عن تصرفاته كوزير للدفاع. وقد رفض شخصيات من جميع أطراف النزاع إصدار اعتذارات علنية عن المخالفات، مما يقوّض أهميتها في تيسير المساءلة والتعافي للأفراد والمجتمع و”غسل” انتهاكات حقوق الإنسان.
ولم يقم كذلك المتحدث باسم وزارة الخارجية السورية السابق جهاد مقدسي بتصويب التصريحات التي أدلى بها أثناء تمثيله للحكومة السورية. فخلال فترة عمله، نفى مقدسي مسؤولية الحكومة عن مذبحة الحولة التي وقعت في حمص عام 2012، والتي أسفرت عن مقتل 108 أشخاص – معظمهم من النساء والأطفال. وأفادت الأمم المتحدة وشهود العيان وجماعات حقوق الإنسان أن القوات الحكومية ارتكبت الهجوم. وأكد مقدسي استقالته من العمل لدى الحكومة في بيان عام 2013، حيث اعتذر فيه لأولئك الذين وثقوا بمصداقيته ولكنه لم يقدّم إفادات حقيقية عن الفظائع الحكومية – مدّعياً أن ما يعرفه كناطق إعلامي “لا يتجاوز ما يعرفه أي مواطن سوري عادي”. وقد أخفق اعتذار مقدسي في تأكيد واقع الجرائم الحكومية، أو الاعتراف بمعاناة الضحايا، أو تعزيز الحوار العام لمراجعة المعايير في ظل النظام الحالي.
وقد استغل فراس طلاس، الابن البكر لمصطفى طلاس، والمموِّل الثري للمعارضة، أحداث الحرب، بل واستغل اعتذاره نفسه. فقبل انشقاقه، كان فراس طلاس يدير مجموعة ماس الاقتصادية التي زوّدت الجيش السوري بالملابس والأغذية والأدوية. كما يُعتَقد أنه حافظ على علاقات تجارية وثيقة مع أفراد من عائلة الأسد. وبعد الانشقاق، أنشأ فراس طلاس ويقود الآن تيار الوعد السوري، وهو حركة سياسية مناهضة للنظام. وادّعى في مقطع فيديو على اليوتيوب اعتذاره عدة مرات عن دوره في دعم حكومة الأسد، لكنه ذكر أن هذا لا يكفي دون “تعويض” – وهو ما يحقّقه من خلال دعم كيانات المعارضة. وعلى الرغم من اعتذاره، فإن العديد من السوريين يعتبرون أقواله وأفعاله مجرد حِيل للعب دور في السلطة السياسية في سوريا بعد انتهاء الصراع. وعلاوة على ذلك، وردت تقارير تفيد بأن الموظفين لدى فراس طلاس هاجموا أفراد انتقدوا إرث والده الراحل. وإن هذه التكتيكات العنيفة والاحتدام على النفوذ السياسي ليس إلا تكراراً للانتهاكات التي يرتكبها نظام الأسد، حيث أنها لا تبدي ندماً حقيقياً إزاء الضحايا وتفاقم الأعمال ذاتها التي أدانها فراس طلاس شفهياً، مما يقوّض أهمية الاعتذار.
وقد انشقّ العديد من المسؤولين السابقين رفيعي المستوى في النظام منذ بدء الحرب السورية، وحصلوا بعد ذلك على مناصب رئيسية في صفوف المعارضة. ولا يزال العديد من هذه الشخصيات يمتنعون عن الاعتذار علناً عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبوها أو بسبب تورطهم في الفساد الحكومي بصفتهم جهات فاعلة في النظام، مما يفاقم عقلية أن الانشقاق ومناهضة النظام تلغي حالات الظلم الماضية المرتكبة ضد الشعب السوري. غير أن هذا المفهوم يتجاهل الغرض من الاعتذار كآلية لقول الحقيقة والتي تُعتبر حاسمة لعملية المصالحة. وإن دعم المعارضة لا يصوّب السجل التاريخي، أو يعترف بقيمة الضحايا وكرامتهم، أو يعزّز التغيير المجتمعي – ولا ينبغي أن يكون دعم المعارضة بمثابة “صفحة بيضاء” مما يجعل التكفير عن الذنب غير ضروري.
كما ترفض الحكومة السورية الاعتذارات العلنية للحفاظ على السيطرة – على الرغم من استخدامها الواسع للهجمات العشوائية على أهداف مدنية – وتستغل أيضاً أحداث الحرب من خلال القيام بمحاولات علنية لإعادة كتابة التاريخ. وقد استحوذت إحدى الهجمات ضد مدنيين، التي أفادت تقارير بأن الحكومة أو القوات الروسية تتحمل مسؤوليتها، على اهتمام العالم حينما انتشرت صورة للطفل عمران دقنيش، وهو مغطّى بالدماء والتراب، انتشاراً سريعاً كرمز للمعاناة السورية. وكان دقنيش – الذي دُمّر منزل عائلته في الهجوم – قد ظهر في شهر حزيران/يونيو 2017 وهو بصحة جيدة ويشعر بالسعادة وفي مظهر نظيف. وكان يرافقه والده الذي قال للصحفيين إن المعارضة هي المسؤولة عن معاناة السوريين ونزوحهم. وقد تم نشر المقابلات على وكالات الأنباء الموالية للحكومة والتي تُملى عليها الكلمات بعناية، وتم اعتبارها من قبل الكثيرين على أنها حملة علاقات عامة محسوبة من قبل حكومة الأسد. ولا يزال النظام يتخلى عن فرص مماثلة حيث أن الاعتذار من شأنه أن يؤدي إلى الدفع بجهود المصالحة بشكل فعال، بدلاً من استخدامه لإعادة كتابة التاريخ وترسيخ الانقسام وعدم الثقة على نحو أكبر.
وإن للاعتذارات العلنية أهمية كبيرة في الاعتراف بالفظائع المرتكبة خلال فترات الصراع وتخليد ذكراها. وقد ازداد استخدام الاعتذارات في عمليات المصالحة في نصف القرن الأخير. ففي عام 2000، قدّم البابا يوحنا بولس الثاني اعتذاراً علنياً عن الأخطاء التي ارتكبتها الكنيسة ضد نساء الشعوب الأصلية والفقراء. وتم توجيه انتقادات لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي على نطاق واسع في عام 2016 لعدم تقديمه اعتذار جديد لضحايا الحرب في اليابان في الذكرى السنوية السبعين لاستسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية. كما تم استخدام لجان الحقيقة في دول ما بعد النزاع لإتاحة الفرصة لمجرمي الحرب للتعبير عن ندمهم لضحاياهم.
وتتضمن الاعتذارات من قبل الجهات الفاعلة الحكومية أو الشخصيات العامة الأخرى ثلاثة عناصر: اعتراف أو رواية للجريمة، واعتراف بالانتهاك (اعتراف بالخطأ)، وتعهد صريح أو ضمني بعدم تكرار الجريمة (الجرائم). وتُعتبر الاعتذارات مفيدة لعملية المصالحة بعدة طرق. أولاً، فهي توفر “تسجيلاً” للحقيقة من أجل التاريخ. وإن الاعتراف بما حدث حقاً يساعد على توثيق قصص الضحايا ويمنع القمع عن طريق روايات مشوهة أو غير دقيقة للحقيقة – مما يوفر إحساساً بالإثبات للضحايا ولروايتهم. وتيسّر الاعتذارات أيضاً الإقرار والاعتراف بالقيمة الإنسانية للضحية وكرامته. وبما أن هوية الشخص تستند جزئياً إلى اعتراف الآخرين، فإن الاعتذار يمكن أن يساعد على تجنب الآثار الضارة التي يعاني منها الضحايا أو التخفيف من حدتها عندما يعكس المجتمع نظرة مشوهة لماضي الشخص على ذلك المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للاعتذار تعزيز عملية المراجعة للمعايير الاجتماعية ومناقشتها بشكل علني. وعلى هذا النحو، فإن فعل الاعتذار لا يمسّ الضحية المباشرة فحسب بل المجتمع الأوسع.
وتعترف الأمم المتحدة بأربع ركائز للعدالة الانتقالية: الحقيقة والعدالة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار. حيث تساهم الاعتذارات العلنية في تحقيق الهدف المتمثل في قول الحقيقة من خلال تعزيز الدقة التاريخية والاعتراف بمعاناة الضحايا، فضلاً عن عدم تكرارها من خلال إظهار إصلاح الجاني وتشجيع التفكّر المجتمعي للقواعد الحالية. ويواصل المركز السوري للعدالة والمساءلة التأكيد على أنه في حين أن الجهات الفاعلة المتورطة في ارتكاب الانتهاكات قد تكون حذرة من المقاضاة أو الانتقام عند الاعتراف بأفعالها، فإن فوائد الاعتذار العلني تساهم في تحقيق المصالحة والعدالة الانتقالية في المناطق التي مزقتها الحروب وينبغي أن تصدر هذه الاعتذارات من جميع الأطراف في الصراع التي تسعى إلى إعادة بناء المجتمع السوري. وتُعتبر الاعتذارات من الأهمية بمكان للعدالة الانتقالية حيث اعتمدت عدة دول آليات قول الحقيقة بعد الصراع، والتماس الحقيقة والاعتذارات من منتهكي حقوق الإنسان و/أو مجرمي الحرب مقابل تخفيض العقوبات أو الحصانة. وتساعد هذه التدابير على تعزيز المصالحة، وينبغي النظر فيها في سوريا بعد انتهاء الصراع. ومع ذلك، يجب أن تكون الرأفة قائمة على أساس الحقيقة والمساءلة. وينبغي ألا تحول الانشقاق و/أو أنشطة المعارضة دون العدالة.
لمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يُرجى التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على