أهمية حماية المقابر الجماعية في سوريا
مقبرة جماعية في شرق البوسنة. الصور من ويكيميديا
في الوقت الذي حققت فيه قوات سوريا الديمقراطية تقدماً على جبهة الرقة، أفادت مصادر كردية عن اكتشاف مقبرة جماعية تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على بعد أربعة كيلومترات شرق الطبقة. ووفقاً لاستطلاع أجرته أسوشييتد برس لعام 2016، فقد استخدم تنظيم داعش عموماً مقابر جماعية منذ عام 2014؛ ويقدّر الاستطلاع أن داعش لديه 72 مقبرة جماعية في العراق وسوريا تضم رفات ما يصل إلى 15 ألف جثة. وتشير صور الأقمار الصناعية وأشكال التوثيق الأخرى إلى أن كل من الحكومة السورية وداعش يستخدمان مقابر جماعية ويحرقان المواقع للتخلص من الجثث، مما يجعل تحديد هوية الضحايا صعباً – ولكن ليس مستحيلاً. ويمكن أن يساعد فحص الحمض النووي من قبل الطبيب الشرعي في تحديد هوية الضحايا والتحقيق في مسرح الجريمة لاستخدامها في جهود المساءلة في المستقبل، ولكن الصراع الدائر في سوريا يفرض تحديات على الحفاظ على المقابر الجماعية وتحليلها بشكل سليم. ولتجنّب إساءة التعامل مع الجثث التي عُثر عليها في الرقة وحولها، يجب على قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الالتزام بحماية سلامة المواقع للسماح لخبراء الطب الشرعي والتحليل الجنائي في نهاية المطاف بالدخول غير المقيد لإجراء تحقيقات دقيقة تُقدّم أدلة لآليات العدالة في المستقبل ولتسليم تلك الجثث إلى الأسر بشكل آمن.
وتعتبر الأمم المتحدة المقبرة الجماعية موقعاً يضم ثلاثة ضحايا أو أكثر “من حالات الإعدام خارج نطاق القضاء أو الإعدام بإجراءات موجزة أو الإعدام التعسفي” ممّن لم يلقوا حتفهم أثناء القتال. وبموجب القانون الدولي الإنساني، يجب على أطراف النزاع “اتخاذ جميع التدابير الممكنة” لمنع سلب الجثث وبذل كل الجهود لتحديد هوية القتلى وتوفير الدفن المناسب في قبور تحمل علامات واضحة؛ حيث يعيق استخدام المقابر الجماعية التحديد الدقيق لهوية الرفات واستعادتها، مما يفاقم من أزمة الأشخاص المفقودين واسعة النطاق التي تمخّضت عن الصراع السوري.
ومن الصعب معرفة العدد الدقيق للأشخاص المفقودين في سوريا لأن البلد يفتقر إلى نظام إبلاغ ممنهج أو رسمي، ولكن مؤسسات مثل اللجنة الدولية المعنية بالأشخاص المفقودين تقدّر العدد بحوالي 60 ألف مفقود. وبما أن الأشخاص المفقودين قد يكونون في معتقلات حكومية سرية، أو ربما اختطفتهم جماعة مسلحة، أو قُتلوا، أو ببساطة موجودين خارج البلاد دون وسيلة للاتصال بأقربائهم، كثيراً ما تكون الأسر في حاجة ماسة لمعرفة ما حدث لأحبائهم. ويسهم عدم اليقين فيما يتعلق بمكان وجود أفراد الأسرة في التحديات الصحية والنفسية لحرب تسببت في حدوث صدمة نفسية بالفعل.
وإن رغبة الأسر في معرفة موقع أحبائهم يشكل تحدياً لحماية المقابر الجماعية. فقد يتدخل السكان المحليون بهذه المواقع على أمل (ووَجَل) تحديد مكان أفراد الأسرة المفقودين. وفي حين أن هذه الرغبة مفهومة، فإن استخراج الجثث أو تبديل موقع المقبرة الجماعية يمكن أن ينقل حمض نووي خارجي إلى مسرح الجريمة، الأمر الذي يحول دون التعرف الدقيق على هوية الضحايا وجمع الأدلة. وتُعتبر مسألة المقابر الجماعية الملوثة بالفعل مصدر قلق بالقرب من جبل سنجار في العراق، حيث قام السكان المحليون والقوات الكردية باستخراج جثث يُعتقد أنها من اليزيديين بشكل غير صحيح.
وقالت كاثرين بومبرغر، المديرة العامة للجنة الدولية المعنية بالأشخاص المفقودين “إذا كنتم تريدون أن تصل هذه القضايا إلى المحكمة، فإن أي شيء يؤدي إلى تدمير الأدلة سيزيد من صعوبة رسم صورة لما حدث في ذلك الموقع وتحديد مَن كان يمكن أن يكون الجاني”.
وفي حين أن السماح لخبراء الطب الشرعي المدرَّبين والمستقلين بدخول الرقّة لإجراء اختبار الحمض النووي يُعتبر أمراً مثالياً، فإن الحكم غير المستقر قد يعرقل الوصول إلى المقابر بسبب المخاوف المتعلقة بالسلامة. وفي نيسان/أبريل، أبدت قوات سوريا الديمقراطية استعدادھا لإنشاء مؤسسات حكم رسمیة في الرقة ما بعد داعش من خلال الإعلان عن تشكيل مجلس مدني محلي. وبالإضافة إلى ذلك، أفاد مسؤولون أكراد بأن الولايات المتحدة تقوم بتدريب قوة شرطة تحسّباً لتحرير الرقة من داعش. وتُعتبر هذه الخطوات نحو إعادة إرساء الأمن والسلامة في الرقة مطمئنة، ولكن لا يوجد أي مؤشر على كيفية قيام المجلس المدني المحلي أو قوة الشرطة المدنية بتيسير حماية المقابر الجماعية ووصول المحققين.
وحتى إذا استعادت الرقة الأمن والاستقرار سريعاً، يحتاج خبراء الطب الشرعي إلى موارد مالية ولوجستية. وقد يؤدي الافتقار إلى الدعم الدولي إلى تأخير اتخاذ إجراءات لاستعادة رفات الجثث ودراستها. وكانت هذه مسألة رئيسية أثناء نزاعات البلقان. حيث لم تتلقّ الهيئة الدولية المكلفة بإدارة قضايا المفقودين، وهي العملية الخاصة المعنية بالأشخاص المفقودين في إقليم يوغوسلافيا السابقة، سوى 5 في المائة من تمويلها الأولي الذي وُعِدت به.
وللحفاظ على المقابر الجماعية في سوريا من أجل تحليل الطب الشرعي وتسليم الجثث، يجب على التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أولاً أن يشجعوا قوات سوريا الديمقراطية على حماية المقابر الجماعية من تدخل السكان المحليين. ويجب أيضاً منع الجماعات المسلحة من استخراج الجثث لإرضاء السكان المحليين أو للإعلان عن هزيمتهم لداعش. وتَرِدُ خطوات واقعية للحفاظ على سلامة هذه المواقع في بروتوكول مينيسوتا بشأن التحقيق في الوفاة المحتملة غير المشروعة. على سبيل المثال، تنص المبادئ التوجيهية على أن المقبرة الجماعية “وأي دليل داخلها يجب حمايته من خلال تطويقه بشريط”. وقد لا يمنع هذا الشريط جميع السكان المحليين من تلويث موقع المقبرة، ولكنه سيكون بمثابة رادع على الأقل.
وفي حين أن ردع السكان المحليين أمر ضروري، إلا أنه من المهم أيضاً معالجة أي غضب أو إحباط محتمل قد يصيب الأفراد والأسر لعدم القدرة على تحديد مواقع أحبائهم. ويمكن للمنظمات الإنسانية الدولية مثل الصليب الأحمر تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدة الأسر على التعامل مع الحزن وتيسير طقوس الحداد وتوفير أماكن آمنة. ويمكن لهذا الدعم أيضاً تثقيف المدنيين بشأن أهمية السماح لخبراء الطب الشرعي المدرَّبين بإجراء تحقيقات رسمية في مسألة الأشخاص المفقودين دون التعرض للتلوث الذي يتسبب فيه مدنيون غير مدربين.
وتقول بومبرغر “إنه أمر محيّر أن تُخبر العائلات التي هي في حالة صدمة نفسية أن ’تنتظر‘. إنها مسألة صعبة، وكلما طال أمد النزاع، زادت صعوبة الطلب من الأسر أن تنتظر. ولكنه مسرح جريمة لذلك عليكم أن تكون صارمين جداً بشأن من يمكنه الوصول إليه”.
وتُعتبر مسألة المقابر الجماعية في سوريا معقدة. حيث يوجد لدى المدنيين والجماعات المسلحة على حد سواء مصلحة في استعادة الجثث على وجه السرعة. وبالنظر إلى أن تحقيق الاستقرار والحكم القانوني في الرقة وفي جميع أنحاء سوريا هو أمر مبهم جداً، فقد يزداد شعور الأسر بالإحباط وعدم الصبر إزاء آفاق العدالة. ولكن إذا ما أريد لأسر الضحايا أن تستفيد حقاً من جهد مبذول للبحث عن المفقودين، يجب على أصحاب المصلحة المحليين والدوليين العمل على إيجاد حلول مبتكرة وجهود تثقيفية على مستوى القواعد الشعبية لتشجيع الصبر والمهنية.
وأضافت بومبرغر: “غالباً ما يتحدث الناس عن التعرف على هوية الجثث كوسيلة لطي الملف، ولكن إغلاق الموضوع لا يمت للمساءلة بصلة، حيث أن تحديد الهوية ما هو سوى الخطوة الأولى والتي تؤدي إلى حقوق أخرى مثل الحق في معرفة الحقيقة، والحق في الحصول على العدالة، والحق في الميراث. فالتحقيق السليم في مسرح الجريمة يمكن أن يفتح الباب أمام المساءلة وليس مجرد إغلاق أو طي الملف”.