1 min read

الحرب الإعلامية: كيف تُذكي الصحافة نار الصّراع في سوريا

الإعلامي السوري فيصل القاسم، مقدم برنامج “الاتجاه المعاكس” على قناة الجزيرة

أسَرَت أحداثُ الصراع السوري انتباه العالم على مدى السنوات الخمس الماضية، وجاء ذلك في المقام الأول نتيجة للتغطية الإعلامية الواسعة. وفي حين أن الكثير من هذه التغطية كانت نقلاً نوعياً وموضوعياً، إلا أن بعض وسائل الإعلام عملت على تأجيج العنف والكراهية بين الجماعات العرقية والطائفية المختلفة. تعتبر حرية التعبير مبدأ هاماً منصوصاً عليه في الإطار الدولي لحقوق الإنسان، وكان إحدى المطالب الأصيلة للمتظاهرين السوريين في عام 2011. غير أن القانون الدولي وكذلك القوانين المحلية في العديد من الأنظمة الديمقراطية ترصُد هذه الحرية عندما يكون القصد من الخطاب هو إثارة أعمال عنف. وعلى الرغم من أن تركيز الاهتمام الدولي منصبّ بشكل مباشر على ساحة المعركة، إلّا أن الحرب الكلامية تدور رحاها عبر موجات الأثير، ولا بدّ من معالجة هذه مسألة اليوم من قبل صناع القرار في المنطقة فضلاً عن آليات المساءلة في المستقبل.

يعاني المشهد الإعلامي السوري من انقسام. فبينما تجد العديد من الوسائل الممولة من قبل الحكومة السورية أو التي تسيطر عليها الحكومة السورية، فإن هناك وسائل أخرى معارضة للحكومة تتخذ مقراتها في البلدان ذات الأغلبية السنية مثل المملكة العربية السعودية التي لديها وجهات نظر طائفية معارضة للحكم العلوي في سوريا. وداخل سوريا، تَفرض القوانينُ الحكومية المقيِّدة رقابة ًعلى الصحفيين والمشاعر المؤيدة للمعارضة. وردّاً على ذلك، سرعان ما انتشرت وسائل إعلام جديدة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة وفي دول مجاورة لإعطاء صوت للمعارضة. وفي كلتا الحالتين، فإن التغطية في كثير من الأحيان منحازة وفي بعض الحالات، تحريضية للغاية. ولا تنسحب هذه الديناميكية على سوريا نفسها فحسب، ولكن أيضاً على وسائل الإعلام الناطقة باللغة العربية التي تحابي إلى حدٍ كبير هذا الجانب أو ذاك من خلال برامجها المنحازة. ووفقاً لدراسة أجراها مركز “مراجعة الصحافة في جامعة كولومبيا”، فإن وسائل الإعلام لا تغطي العنف في سوريا فحسب، ولكنها تتصرف كميليشيات باستخدام خطاب الكراهية من أجل “التحريض على العنف على نحو نشط”.

وهناك من الأمثلة ما لا يُعدّ ولا يُحصى. في مقطع على قناة الجزيرة، يظهر مذيع سوري وهو يحرّض على العنف ضد العلويين. ويقول الضيف، ماهر شرف الدين بصراحة عن الحكم العلوي: “من المعروف أن العلويين قبل استيلائهم على السلطة في سوريا، كانوا فقراء جداً. وكان الفلاح العلوي، إذا امتلك بقرة، لا يصنع لحظيرتها باباً خارجياً، بل فقط باب داخلي يمر من غرفة المعيشة التي ينام فيها هو وأولاده وذلك ليحميها من السرقة. فاذا اتى لص ليسرق هذه البقرة، فعليه أن يخرجها من غرفة المعيشة التي ينام فيها الفلاح، أي أن عليه أن يخرجها من فوق جثة الفلاح. واليوم… العلويون يتعاملون مع السلطة كما تعامل جدهم مع البقرة، لا يريدون إخراجها من بيتهم إلا على جثتهم”. وأضاف المذيع فيصل القاسم في نفس البرنامج: “إن العلويين لا يحتاجون إلى شيطنة، فهم شياطين، وحتى الشيطان الرجيم يخجل منهم”.

ومنذ عام 2011، ما لبث التلفزيون الرسمي السوري والمحطات التلفزيونية الموالية للحكومة تشجّع وتحرّض على العنف ضد المحتجين وضد الجماعات المناهضة للحكومة. وفي هذا المثال من قناة الدنيا، شجعت مقابلة على مثل هذا العنف، مشيرة إلى أن “هناك حرب بالوكالة بين سوريا وإسرائيل من خلال المحتجين [الذين يقاتلون نيابة عن إسرائيل]، وقتل هؤلاء المحتجين فرض وواجب علينا جميعاً. وقتالهم أولى من قتال إسرائيل نفسها”.

وقد انعكست هذه الممارسة من قبل جميع أطراف النزاع، بما في ذلك التحريض على العنف بين الأكراد والعرب، من بين جماعات دينية وعرقية أخرى.

ويتمخّض عن مثل هذا الخطاب شيطنة الآخر، ويمكن للشيطنة من خلال استخدام خطاب العنف أن تؤدي لاحقاً إلى تطبيع الاعتداء والتعذيب بل وحتى القتل، طالما أن الضحية هو “الآخر” المُدان. وتدرك العديد من الحكومات الآثار الضارة لشيطنة الآخر وتجريده من إنسانيته وسنّت تدابيراً للحيلولة دون حدوثه. على سبيل المثال، ينص دستور جنوب إفريقيا على الحق في “الكرامة المتأصلة” في محاولة لمنع هذا النوع من التجريد من الإنسانية أو الشيطنة الذي كان متوطناً في نظام الفصل العنصري.

وفي مناخ إعلامي يشجّع على العنف والتجريد من الإنسانية على أساس طائفي وعرقي وسياسي، كيف يمكن لحكومة سورية في المستقبل إقناع جميع أفراد المجتمع بالمصالحة وإعادة بناء المؤسسات على مستوى الدولة والمجتمع بشكل جماعي؟ وستكون استعادة الثقة تحدّياً كبيراً يتطلّب اتباع نهج متعدّد المقاربات، ولكن واحدة من هذه المقاربات يمكن، بل ويجب، أن تكون العدالة.

منذ محاكمات نورمبرغ للنظام النازي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح التحريض على الإبادة الجماعية يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون في القانون الجنائي الدولي. وينطبق ذلك سواء تم تنفيذ أو إكمال فعل الإبادة الجماعية أم لا نظراً لما يوجد للدعوات العلنية إلى العنف والكراهية ضد فئات معينة من تأثير قوي على تأجيج الفتنة داخل المجتمع. ووفقاً لبعض الخبراء، لا يمكن حدوث إبادة جماعية ما لم يكن هناك تحريض للجمهور على نطاق واسع على الكراهية. وقد تم النص على مشاعر الكراهية هذه في نظام روما الأساسي واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وكذلك في قرارات المحكمة الجنائية الدولية لرواندا. وفي ما يعرف عادة باسم “قضية وسائل الإعلام“، التي أدين فيها ثلاثة من قادة الإعلام الرواندي بالتحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، أكدت المحكمة: “إن قدرة وسائل الإعلام على خلق وتدمير قيم إنسانية أساسية تأتي مع مسؤولية كبيرة. وإن أولئك الذين يسيطرون على وسائل الإعلام مسؤولون عن عواقبها”.

لا تشمل المجالات الأخرى في القانون الجنائي الدولي، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التحريض كجريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا تم تنفيذ أو الشروع في تنفيذ الفعل الذي تم التحريض عليه. وبعبارة أخرى، إذا قام شخص “بالأمر أو الإغراء أو الحث” أو “تقديم العون أو التحريض أو المساعدة” أو “المساهمة بأية طريقة أخرى بارتكاب أو الشروع بارتكاب” جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية قد تتسبب في حدوث هذه الجريمة، فيمكن إدانته. وهذا يعني أنه يجب أن يكون هناك علاقة بين التحريض والجريمة أو الشروع في الجريمة.

في أعقاب أعمال العنف التي تلت انتخابات 2007-2008 في كينيا، اتهمت المحكمة الجنائية الدولية الشخصية الإعلامية جوشوا ارآب سانغ بارتكاب جرائم ضد الانسانية لاستخدام برنامجه الإذاعي كجزء من “خطة مشتركة” للحثّ على العنف من خلال نشر رسائل الكراهية وبالكشف بشكل صريح عن الرغبة في طرد أفراد من جماعة الكيكويو العرقية. وفي حين تم إنهاء القضية في نهاية المطاف لعدم كفاية الأدلة، فقد أوضحت المحكمة بأن هناك إمكانية لإعادة توجيه الاتهام في المستقبل للسيد سانغ في حال تم تقديم أدلة جديدة.

وحتى في الحالات التي تكون فيها وسائل الإعلام غير مسؤولة بموجب تعريفات قانونية صارمة، لا يزال بإمكان جهود كشف الحقائق إيضاح كيف ساهمت بعض التقارير والتغطية في خلق جو من الكراهية والاستقطاب. وبكشف الحقيقة، يمكن لمثل هذه الجهود أن تساعد في إعادة موازنة مشاعر الرأي العام وتشجيع وسائل الإعلام على لعب دور أكثر إيجابية في فترة ما بعد الصراع. وفي الواقع، يوجد لوسائل الإعلام دور مفيد تضطلع به في تعزيز جهود بناء السلام عن طريق، على سبيل المثال، توضيح العملية الانتقالية للجمهور، وتوفير منتدى لإضفاء الصبغة الإنسانية على الصراع من خلال القصص والتجارب المشتركة، ونشر إعلانات عن كيف ومتى يمكن التسجيل في بعض برامج العدالة الانتقالية. وفي جنوب أفريقيا، قامت هيئة إذاعة جنوب أفريقيا بإنتاج 87 حلقة حول لجنة الحقيقة والمصالحة التي وفرت مصدراً قيّماً للجمهور حول مدى التقدم الذي تحرزه اللجنة وإفاداتها. غير أن الآثار الإيجابية لن تكون ممكنة إلا إذا عملت وسائل الإعلام على نحو مسؤول وأخلاقي.

وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام لا تؤدي بالضرورة إلى اندلاع الحروب، إلا أنها مذنبة في كثير من الأحيان في إطالة أمد الحروب وزيادة وتيرة العنف. ولحسن الحظ، توجد سابقة دولية لمحاكمة أولئك الذين شاركوا في التحريض. ولكن كما هو الحال بالنسبة لجرائم الحرب التي ترتكبها الجماعات المسلحة، ينبغي توثيق التحريض الذي تقوم به جهات إعلامية توثيقاً واضحاً وشاملاً من أجل ضمان أنه سيتم معالجته في عمليات العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الصراع. وعلى الرغم من أن توثيق وسائل الإعلام يقع خارج نطاق عمل المركز السوري للعدالة والمساءلة، فيمكن لجهات أخرى أن تبادِر للعب هذا الدور. ولا يمكن أن يكون هناك أي أمل في عكس الآثار السلبية الناجمة عن نشر الكراهية من خلال وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعة والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي إلا من خلال توثيق ذي جودة عالية ومن خلال جهود المساءلة.

لمزيد من المعلومات أو لتقديم الآراء وردود الأفعال، يرجى إرسال بريد إلكتروني إلى المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected].