إشراك الجميع أمر جوهري لتحقيق عدالة انتقالية في سوريا
وفد الهيئة العليا للمفاوضات لدى وصوله إلى جنيف في شباط/فبراير 2016. الصورة للأمم المتحدة لـ جان مارك فيري
قبل أسابيع في لندن، كشفت الهيئة العليا للمفاوضات، المعارضة للحكومة السورية، النقاب عن خطة لإحداث انتقال سياسي في سوريا ولإنهاء الحرب الأهلية التي دامت خمس سنوات في البلاد. تضمنت هذه الخطة ثلاث مراحل رئيسية (تبدأ بستة أشهر من المفاوضات ووقف إطلاق النار؛ وتشكيل حكومة انتقالية مع تنحّي الرئيس بشار الأسد؛ وصياغة دستور جديد مع إجراء انتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة بعد 18 شهراً من حكم حكومة انتقالية) تُعتبر أكثر الحلول السياسية تفصيلاً وواحدة من بين الحلول المقترحة للأزمة والتي قدّمتها المعارضة حتى الآن.
وعلى الرغم من استنادها على التزام بيان جنيف لعام 2012 بتحقيق “تكافؤ الفرص” وعدم التمييز، إلا أن الخطة الانتقالية تتضمن صياغة تتعارض مع إقامة هذا النوع من المجتمع الشامل. وعلى نحو أكثر تحديداً، فقد فشل أول مبدأ عام للهيئة العليا للمفاوضات في مواجهة الاختلالات السابقة في سوريا بشكل مناسب وفشل في وضع الأساس للإصلاح المؤسسي. وبدلاً من ذلك، ينصّ المبدأ الأول على ما يلي:
“سوريا جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، واللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وتمثل الثقافة العربية الإسلامية مَعيناً خصباً للإنتاج الفكري والعلاقات الاجتماعية بين السوريين على اختلاف انتماءاتهم الإثنية ومعتقداتهم الدينية حيث تنتمي أكثرية السوريين إلى العروبة وتدين بالإسلام ورسالته السمحاء التي تتميز بالوسطية والاعتدال”.
إن صياغة الهيئة العليا للمفاوضات لهذا المبدأ العام تتضمّن خصائص ما يُطلق علماء الاجتماع اسم “الدولة المهيمنة” و“السمة الأساسية لهذه الدولة . . . هي هيمنة مجتمع واحد على المجتمعات الأخرى، وعدم اعترافه بها إلا إذا خضعت لحكمه”.
وبهذه الصياغة، فقد حدّدت الهيئة العليا للمفاوضات نبرة الهيمنة لدولة المستقبل في سوريا — الدولة التي تعطي الأولوية لجماعات دينية وثقافية محددة على حساب جماعات أخرى — الأمر الذي لا يقوّض فقط خلق مجتمع شامل أصيل منفتح لجميع أشكال الهوية الاجتماعية، ولكنه يحاكي كذلك نوع البيئة السياسية التمييزية التي أنشأها الرئيس الأسد وتعزيز سلطته من خلال الطائفة العلوية. ويبدو أن خطة الهيئة العليا للمفاوضات تحاول تصحيح منحها الأولوية لصالح “الثقافة العربية الإسلامية” في المبدأ العام الثالث بالقول أن السوريين يجب أن يكونوا قادرين على التمتع بحقوق متساوية من دون تمييز على جميع المستويات، بما في ذلك “اللون أو الجنس أو اللغة أو القومية أو الرأي أو الدين أو المذهب”.
ومع ذلك، وبعد أن سبق وأن أسس لإطار دولة سورية جديدة قائمة على الثقافة العربية والقومية العربية والإسلام، فمن الصعب الإيمان بشرعية الوعد الذي تقدّمه الخطة في فقرة لاحقة لتحقيق شمولية كاملة. وفي الواقع، فقد انتقد العديد من الناشطين السوريين في مجال حقوق الإنسان والأقليات العرقية/الدينية دوافع الهيئة العليا للمفاوضات وقدرتها على تمثيل جميع السوريين في المفاوضات وهو أمر مؤسف لأن هذه الوثيقة كانت وسيلة متاحة للهيئة العليا للمفاوضات لبناء الثقة بين السوريين من جميع الخلفيات.
ويجب أن يراعي كل جانب من جوانب الخطة المقترحة الأضرار التي ألحقتها الحرب بالمجتمع. غير أن الخطة الانتقالية للهيئة العليا للمفاوضات تحدّد نبرة تَحُول دون بسط العدالة والإنصاف والمساواة في الحقوق والفرص لجميع الفئات السكانية داخل الدولة — الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى قلاقل مدنية وعنف، كما كان الحال في سوريا في عام 2011. و من الأهمية بمكان أن تنسلخ الدولة السورية المستقبلية عن الماضي تماماً عن طريق تجنّب أي سابقة لسلوك الهيمنة. وفي المقابل، يجب أن تؤكد المبادئ العامة على عدم التمييز وشمول الجميع دون استثناء وخلق سُبل لتيسير المصالحة بين جميع الفئات داخل سوريا.
وطغى المبدأ العام الأول على أهمية المواطَنة ودورها بوصفها حجر الزاوية لتنمية الدولة. وبدلاً من أن تكون المواطَنة أداة الوصل الرئيسية بين الفرد والدولة، توحي الخطة بأن على الأفراد، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية، أن يرتبطوا بالدولة بصفتها كيان عربي إسلامي أولاً وقبل كل شيء، وليس بصفتها كيان محايد يتألف من مواطنين سوريين. ودون التأكيد القوي على المواطنة، ستكون المصالحة في وضع حرج، ونتيجة لذلك، سيتعثّر الإصلاح المؤسّسي أيضاً لأن ليس كل السوريين سوف يشعرون بأن لديهم مصلحة شخصية في مستقبل البلاد.
وأعرب المركز السوري للعدالة والمساءلة عن سروره كون خطة الهيئة العليا للمفاوضات قد شملت العديد من الإشارات إلى العدالة الانتقالية. وكما أقرت الخطة، فإن أي برنامج عدالة انتقالية شامل في سوريا يجب أن يتضمّن عنصر الإصلاح المؤسسي. ولكن ينبغي ألا ينتظر ذلك الإصلاح حتى حلول المرحلة الانتقالية. إذ يمكن أن يبدأ خلال المفاوضات، شريطة أن يمتلك أولئك المشاركين على طاولة المفاوضات الإرادة للانسلاخ عن الموروثات الماضية واستخدام اتفاق السلام والمرحلة الانتقالية كفرصة لإرساء الأساس لمستقبل البلاد. ويُبرهن المبدأ العام الأول على عدم توفّر الإرادة لمواجهة الانقسامات الاجتماعية على نحو كافٍ أو لبناء ثقة المواطنين في الحكومة الجديدة. ونظراً للتركيبة السكانية المتنوعة والتاريخ الثقافي الغني لسوريا، فإن التعددية المتسامحة هي الخيار الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار على المدى الطويل، الحقيقة التي يجب أن يعيها أي حل مقترح.
لمزيد من المعلومات أو لتقديم الآراء وردود الأفعال، يرجى إرسال بريد إلكتروني إلى المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected].