1 min read

وقت بتسمع عدالة انتقالية شو بيخطرلك؟

ضمن سلسلة المجموعات التي تظهر على فايس بوك من وقت لآخر فيما يخص الثورة السورية وشجونها، ظهرت مجموعة جديدة بعنوان “وقت بتسمع عدالة انتقالية شو بيخطرلك؟“. وطبعاً من المفترض أن تكون التعليقات مختلطة، تحمل في ثناياها إجابة ما على سؤال المجموعة، وإن كان بصيغة كوميدية لطيفة لم تخل منها المجموعات السابقة على تنوعها.

من الملفت في حالة مجموعة العدالة الإنتقالية أمرين أساسين، متناقضين ربما، لكن موجودان بشكل واضح في معظم الإجابات: أولاً، هو عدم معرفة أو إلمام بمعاني وآليات العدالة الإنتقالية. والثاني، هو كثرة التعليقات عن ورشات العمل والأموال التي تنفق على دورات التدريب للتوعية بالعدالة الإنتقالية.

قد تجد تعليقاً طريفاً من نوع (تعني لي العدالة الإنتقالية ورشة عمل بغازي عنتاب، أو تعني لآخر راتب شهري ولابتوب.. إلخ)، غير أنها ستدفع الكثير من القراء  للحزن على ما آلت إليه الأوضاع في سوريا. فمن جهة، تنفق أموال كثيرة وجهود ليست بقليلة على هذا الموضوع، ومن جهة ثانية، يعترف معظم السوريون المهتمين بمستقبل بلادهم بعدم معرفتهم الكافية بالفكرة وبالتالي بعدم جدوى الجهود والأموال التي تنفق. ناهيك عن مناصبة معظم السوريين العداء للفكرة لأنها مبنية إما على تصور خاطئ في أذهانهم حول آليات العدالة الإنتقالية بأنها باختصار تكرس فكرة “عفا الله عما مضى”، أو لأنهم لا يعلمون عنها الكثير أساساً فيدرجونها ضمن “الترف” الفكري أو الحقوقي الذي غالباً ما يصدر عن أولئك “المقيمين في الخارج”.

لا يطمح هذا النص للتعريف بالعدالة الإنتقالية بشكل مباشر نظراً لتوفر الكثير من الأوراق والأبحاث التي تقدم ذلك باللغة العربية (انظر مثلاً: العدالة الإنتقالية: كتيب للصحافيين والمواطنين والنشطاء من إعداد معهد صحافة الحرب والسلم)،  لكن قد نطرح مجموعة من الأفكار والأسئلة لنترك للقارئ محاولة الإجابة عليها، في محاولة لملامسة عمق المشكلة وصعوبة الحلول في المرحلة الإنتقالية.

  • في موضوع المحاكمات، من سيحاكم من؟ ماذا لو خسر الثوار المعركة هل تذهب العدالة للجحيم بانتصار الأسد أم نحاول المتابعة بمحاكمات دولية ضده مثلاً؟
  • هل ستشمل المحاكمات جميع المنتهكين لحقوق الإنسان؟ أم ستقتصر على الطرف الخاسر في المعارك؟ عملياً ستكرس الثورة أفكار الأسد لو اقتصرت المحاكمات على الطرف الخاسر فقط. في ذات الوقت سيكون من المستحيل المطالبة بمحاكمة أي من الميلشيات المسلحة في حال كانت منتصرة! ماذا نفعل؟
  • لنتصور أن المحاكمات بدأت، كم شخصاً سنحاكم؟ جميع مرتكبي الجرائم؟ لنتصور أننا سنعتقل ونحاكم قرابة 20 ألف شخص على الأقل. أين سيسجن هؤلاء؟ وكيف سيتم إطعامهم؟ وكيف ستتم حماية السجون؟ وكم سيستغرق من وقت لمحاكمتهم جميعاً في ظل انهيار النظام القضائي القائم؟ كم قاض نحتاج لذلك وكم عام من مراجعة الأدلة والدعاوى؟ هل سنتركهم قيد السجن طيلة هذه الفترة؟ ماذا لو وجد القضاء بعض الأبرياء بعد سجنهم لسنوات؟
  • طبعاً، يستفاد من النزاعات الدولية السابقة أن المساءلة لن تكون بالأمر السهل، وأنها تحتاج إلى الكثير من الأموال لإتمامها. ماذا لو تذكرنا حقيقة أن أي دولة في العالم وكذلك الأمم المتحدة لن تدعم آليات المحاكمات إلا إذا تأكدت من اعتماد المعايير الدولية للمحاكمات واحترام حقوق المتهمين. هل سنفي بهذه المعايير؟ أم سنبقى بدون تمويل لعمل المحاكمات؟
  • سيرتبط مال إعادة الإعمار في سوريا، كما حصل في جميع النزاعات السابقة في العالم تقريباً، بأوضاع البلاد عقب إنتهاء المعارك. لن تحصل سوريا على أي أموال لإعادة الإعمار إذا ما اتجهت بعض الأطراف للإنتقام وأعمال العنف والقتل من فريق أو طائفة أو مدينة محددة. أين يذهب اللاجئون والمشردون إن لم يعاد إعمار مساكنهم؟ ماذا عن البنية التحتية؟ إعادة الإعمار سريعاً من أبرز أولويات المرحلة الإنتقالية وتكاد تتقدم على المحاكمات. من يقرر أيهما أولى وأكثر أهمية؟
  • ماذا لو حصلت سوريا على هذه الأموال المطلوبة للمحاكمات ضمن مساعدات أكبر لإعادة الإعمار، هل ستنفق الأموال على محاكمة أشخاص دمروا البلاد؟ أم تستفيد سوريا من الأموال لإعادة إعمار ما يمكن إعماره؟ ثمة حقيقة جدية مفادها أن المحاكمات مكلفة للغاية ولا يجب الإستهانة بها (مثلاً، بلغت تكلفة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة براوندا ملياري دولار، لمحاكمة 47 شخصاً فقط). هل السوريون مستعدون لإنفاق المزيد من الأموال والخسائر على مرتكبي الجرائم؟
  • لو كنت لاجئاً خارج سوريا أو نازحاً داخلها، هل ستكون بحال أفضل فيما لو أنفقت الحكومة القادمة مبلغاً مالياً طائلاً لمحاكمة الشبيح الذي قصف منزلك أو قتل أحد أفراد أسرتك، مع تركك مشرداً في الشارع، أم ستفضّل الحصول على هذه الأموال وإعادة إعمار بيتك ولم شمل أسرتك والتعويض على الضحايا للعودة لحياتهم الطبيعية؟
  • بعيداً عن موضوع العفو، لنفترض أن عناصر الجيش والأمن وقفوا أثناء المحاكمات وادّعوا تنفيذهم للأوامر بإطلاق النار وقصف التجمعات السكنية تحت تهديدهم بالقتل أو بقتل أهلهم. في القانون، يحصل المكره على إرتكاب الجرم على تخفيف كبير للعقوبة. ثم ماذا سنستفيد من محاكمة أشخاص أجبروا على إرتكاب الفعل؟ أليس الأجدى والأفضل لسوريا هي محاكمة المخططين والمهندسين للمأساة التي مرت بها البلاد وهذه قد تقتصر مثلاً على المسؤولين رفيعي المستوى من رتبة عميد وما فوق فقط من أجهزة الأمن؟
  • هل يجب الاستغناء عن المساءلة بسبب صعوبتها وكلفتها؟ في حال كهذه سيتجه الناس للإنتقام والقتل إن لم يروا محاكمات جدية تحصل. هذه حقيقة حصلت كثيراً في نزاعات سابقة.
  • مع افتراض أن المحاكمات بدأت وانتهت، سيخلى سبيل الآلاف بسبب عدم توفر الأدلة، لكن هل هذا يعني أنهم لم يقترفوا جريمة ويقتلوا ويعذبوا؟ هناك آليات أخرى ممكن المتابعة بها لتحصيل بعض الحقوق منهم، ومنها لجان الحقيقة، التي ستكشف الحقائق وقد تجبر بعض الجناة على الإعتذار والتعويض على الضحايا بشكل شخصي، أو تأمر بتجريدهم من الحقوق السياسية والمدنية.
  • ماذا عن الجيش؟ هل نحل الجيش؟ لقد تورط الجيش السوري بقتل السوريين ولم يكن جيشاً وطنياً. لكن في جميع بلاد العالم هناك جيش للدولة (وليس للنظام)، وعلى السوريين أن يمتلكوا جيشاً. في حال حل الجيش سيتحول معظم المطرودين منه لعناصر تثير الرعب والقلق والسلب والعنف وغيرها كما حصل في العراق. وقد لا يكون متاحاً دمج قوات من الجيش النظامي والمجموعات المسلحة المعارضة في جسم مؤسسي واحد نظراً لاقتتالهما لأعوام.
  • هل ستتم محاكمة الفاسدين مع القتلة؟ وهل سيكون هذا عادلاً؟ وهل سيتركوا بالمقابل طلقاء؟ هل نتركهم طلقاء يتمتعون بخيرات بلادنا وحدهم مع أبنائهم في الخارج؟ يهتم الإصلاح المؤسسي، أحد آليات العدالة الانتقالية، بهذا الموضوع ويلعب دوراً أساسياً في تأطير حل لهذه المعضلة. ذلك عبر “التدقيق و الغربلة” من أجل تطهير الجهاز العام من الفساد.

هناك مئات من الأسئلة و التحديات المشابهة. والتي لا يملك أحد حلولاً جاهزة لها. باختصار، تحاول فكرة العدالة الإنتقالية أن تؤسس لنوع من العدالة في المرحلة الإنتقالية، أو التدرج في العدالة خلال هذه المرحلة. تعمل هذه الآليات على إيجاد أفضل توازن ممكن بين مجموعة من النقاط الضرورية لعودة البلاد إلى طبيعتها في أعقاب النزاع، وهي: 1- المحاكمات 2- التعويض الجماعي والفردي للضحايا 3- إصلاح المؤسسات الحكومية 4- لجان الحقيقة 5- تخليد ذكرى الضحايا وضمان عدم التكرار. بمجموعها، تشكل آليات العدالة الإنتقالية وصفة فريدة لإعادة البلاد، قدر المتاح، إلى وضعها السابق.

لكن من يقرر بالنيابة عن السوريين؟

لكي تتوج هذه الجهود بالنجاح، يجب أن يشارك جميع السوريين، أو أكبر شريحة ممكنة منهم، في صياغة الخطة الإنتقالية التي ستتحدث بالتفصيل عن هذه الآليات. وهذه الخطة معقدة وشائكة وتتطلب جهوداً كبيرة من القضاء والمحامين والمنظمات الحقوقية ومجتمع المانحين والضحايا وذويهم والمقاتلين من الميليشيات وغيرهم. ستقرر هذه الخطة، خطة العدالة الإنتقالية، ماذا سيفعل السوريون مع الجناة، هل سيحاكمون الجميع أم كبار الفاعلين فقط؟ ستقرر أيضاً حجم التعويضات التي قد يتم تخصيصها للضحايا لو تأمنت الأموال من المانحين. ستقرر أيضاً مصير أجهزة الأمن والقطاع العام والقوات العسكرية والفاسدين. ستحدد هذه الخطة إطلاق لجان حقيقة للكشف عن المعتقلين والمفقودين ومصيرهم ونبش المقابر الجماعية وغيرها (هذه يمكن أن تتم بالتعاون مع آليات المحاكمات أو بدونها)، وفي النهاية ستقرر أفضل السبل لتخليد ذكرى الضحايا ليكون ما حصل درساً للحكومة والمجتمع  في المستقبل.

إطلاق آليات العدالة الإنتقالية لن يتم فعلاً قبل إنتهاء القتال في سوريا، لكن الإلمام بها وتهيئة السوريين لها خلال النزاع أمر إيجابي، وإن لم يكن يحصل بطريقة منتجة حالياً كما يظهر من معظم التعليقات التي أوردتها المجموعة على فايس بوك.  أحد أهم متطلبات المرحلة الإنتقالية والتي يمكن العمل عليها اليوم هي توعية الناس بالمصاعب والعقبات التي تعترض المرحلة الإنتقالية والتي يمكن أن تعصف في البلاد في حال فشلها، ومحاولة ضبط توقعاتهم في ضوء محدودية الإمكانات والفرص المتاحة كي لا يصبحوا ضحايا مرتين!