التوثيق من أجل الحقيقة
يلقي نص اليوم الضوء على المذكرة الثالثة من مذكرات المركز السوري للعدالة والمساءلة: للمزيد عن التوثيق ولجان الحقيقة، تفضل بمراجعة النص الكامل “ جمع البيانات والتوثيق لتقصي الحقيقة والمساءلة “. تم إعداده للمركز السوري للعدالة والمساءلة من قبل ميغان برايس وباتريك بال.
تعد الحاجة إلى تبيان الحقائق حول الأحداث أمراً أساسياً لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية، وضمان المساءلة على وجه الخصوص، ثم إنشاء آليات فعّالة للعدالة، وإرساء أسس للسلم الاجتماعي. يجب القول أنه من الصعب وصف درجة أهمية ومركزية التوثيق في نطاق عمليات العدالة الانتقالية المنتظرة التي يمكن تطبيقها في سوريا. وإذا كان بعض مما سيأتي هنا مألوفاً، ومكرراً في سياقات سابقة، فإن هذا ليس من قبيل الصدفة. التوثيق، بكلمات قليلة، هو المؤسس لأي عملية محتملة للعدالة الانتقالية ممكنة التطبيق في سوريا.
من المفيد إدراك أنه، في سياق البحث عن الحقيقة، سيكون هناك بالفعل كثير من النسخ المختلفة للحقيقة. القضايا المعروضة أمام المحاكم و النيابات على مستوى عال، على سبيل المثال، عادة ما تركز على الحقيقة فقط فيما يتعلق بمقدار صلتها بالذنب. ويتم حينذاك بناء الحجج أساساً على التناقض تجاه بعضها، وليس بالضرورة لغرض تقديم قدر أكبر من المعلومات. في المقابل فإن جهود البحث عن الحقيقة في سياق ما بعد الصراع، تبدأ أصلاً بافتراض أن هناك حقائق مختلفة، منها ما هو محجوب أو مخفي أو، ببساطة، لم يتم إعلانه.
بالتالي فإن التوثيق هو نقطة انطلاق حاسمة في جهود البحث عن الحقيقة. المعلومات والبيانات والسجلات التي كشفت وتم حفظها من خلال جهود التوثيق قد تكون مفيدة وضرورية. وعلى وجه أكثر تحديداً، إن مثل هذا النوع من البيانات والمعلومات يمكن أن يسلط الإنتباه على موضوع محدد، ويضع الخطوط العريضة للحقائق الواجب إخضاعها للمزيد من التحقيق، ويثير أسئلة هامة. كما يدعم لاحقاً، وبشكل ملموس، الوصول إلى الحقيقة مع الأدلة التي ينظر إليها على نطاق واسع على أنها ذات مصداقية.
فيما يبدو واضحاً أن ثمة خطر حقيقي يهدد البيانات بالضياع أو الفقدان عن قصد أو دون قصد. فإن الحصول على هذه الوثائق وحفظها في مكان آمن هو أهمية قصوى. كما أن من شأن جهد كهذا أن تتم متابعته على مستوى الجمهور العام ومستوى المختصين. إن جمع وتدقيق وصف محتوى البيانات (البيانات الوصفية: META-DATA) مرتبط مباشرة بهذه العملية. بحيث أن البيانات الوصفية هي تحديداً المعلومات المتعلقة بالبيانات، مضافاً إليها تلك المعلومات التي يمكن استخلاصها من البيانات نفسها. ما من شأنه القول أن البيانات الوصفية هذه هي مفتاح فهم ما تقوله تلك البيانات الأصلية، وكيفية استخدام هذه الأخيرة في عملية العدالة الانتقالية. البيانات الوصفية META-DATA بإمكانها الإجابة على أسئلة مفيدة من نوع: من أين جاءت هذه الوثائق؟ كيف تم نقلها؟ كم هي محمية؟ ما هي التقنية المستخدمة في تخزينها وتصنيفها؟ هل هذه البيانات مكررة؟ ومن يمتلك إمكانية الوصول إليها؟ ونستطيع القول بثقة أن من شأن القدرة على الإجابة على هذا النوع من الأسئلة، الإفساح في المجال لاستخدام البيانات في الوصول إلى استدلالات معقولة حول أحداث معينة، أو ظروف محددة. كما أن الإجابة على هذه الأسئلة ستسهم إلى حد كبير في شفافية عملية التوثيق، وأي آليات لاحقة لتقصي الحقائق.
تصل البيانات بصيغ مختلفة. لذا فإنه من المهم أن تأخذ جهود التوثيق وتقصي الحقائق بعين الاعتبار بعض الثغرات، الأخطاء التقنية، والتحيزات التي ترافق أي جزئية من المعلومات. الفيديوهات والشهادات المأخوذة من الشبكات الاجتماعية على سبيل المثال بإمكانها دعم جهود تقصي الحقائق في سوريا. لكن وفي نفس الوقت ثمة عامل حاسم في التدقيق في نوعية المعلومات، وما إذا كان بالإمكان التحقق منها، وما هي الجماعات والشخصيات المرتبطة بها. بالإضافة للتساؤل عمن اكتشف أو أنتج، فإنه من الضروري أيضاً التساؤل عمن لم يتم تقديمه أو إظهاره في هذه الوثيقة أو غيرها. بسدّ ثغرات كهذه، تستطيع الوثائق تسليط الضوء على نقاط قد تكون ذات قيمة في التركيز على الخطوات التالية لتقصي الحقائق. بالتالي فإن الوثائق هنا تؤدي غرضاً مزدوجاً في توفير مصدر رئيسي للمعلومات عن الحقائق الناشئة، كما في تحديد أسئلة مفيدة عن مستقبل قادم لجهود تقصي الحقائق.
عمليات التوثيق قائمة على قدم وساق في سوريا، ومن المطمئن أن جماعات وأفراد، ممن بذلوا جهوداً جادة في جمع وحفظ البيانات، قد طرحوا الكثير من هذه التساؤلات وحاولوا الإشارة إلى التحديات ذات الصلة. وعند التفكير في هذا العمل القائم هناك عدد من أفضل الممارسات التي بإمكانها المساعدة في الرفع من قيمة الوثائق من أجل عمليات تقصي الحقائق. هذا يتضمن حماية الوثائق والحفاظ عليها، وتسجيل البيانات الوصفية META-DATA ذات الصلة، وسد الثغرات لاتخاذ خطوات لضمان الاعتراف بهذه الوثائق على أوسع نطاق ممكن من الخبرات أو “الحقائق”. لذا فإن الالتزام المستمر من قبل الأفراد والجماعات لتوثيق الأحداث في سوريا، والانتباه إلى أفضل الممارسات التي نوقشت أعلاه، من شأنه أن يقطع شوطاً واسعاً نحو دعم جهود مشروعة لتقصي الحقائق في المستقبل.