"عن الآباء والأبناء": دمج الأطفال في العدالة الانتقالية
أبو أسامة مُحاط بأبنائه، في الفيلم الوثائقي “عن الآباء والأبناء”. المصدر مهرجان أفلام: Double Exposure Film Festival
يقدّم أحدث أفلام المخرج طلال ديركي، “عن الآباء والأبناء”، صورة حميمة لعائلة سورية في إدلب، ويتابع حياتهم اليومية وسط النزاع. حيث يُظهر الفيلم الوالد، أبو أسامة، وهو عضو في جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، بأنه يربّي أبناءه على اعتناق الأيديولوجية الراديكالية لهذه الجماعة. وطوال الفيلم، يعاني أبناء أبي أسامة من مجموعة متنوعة من الصدمات النفسية والانتهاكات. فهم محرومون من الحق في الذهاب إلى المدرسة، ويتعرّضون لأيديولوجية راديكالية وعنيفة، ويرون والدهم يعاني من إصابة شديدة، ويشهدون قصفاً يدمّر جزءاً من منزلهم، ويتم إرسالهم إلى معسكر حيث يتم تدريبهم كمجنّدين للقاعدة. يتمّ عادة تصميم معظم عمليات العدالة الانتقالية آخذين باعتبار أن الضحايا والجناة هم من البالغين، غير أن “عن الآباء والأبناء” يقدّم تذكيراً صارخاً بالطرق المعقدة التي يتأثر بها الأطفال بالنزاع العنيف ويشاركون فيه. ويجب النظر في قصص هؤلاء الأطفال وأمثالهم في تصميم برامج العدالة المستقبلية.
عند تصميم عمليات العدالة الانتقالية لتكون شاملة لاحتياجات الأطفال، من المهم أولاً فهم الأطفال بصفتهم ضحايا للنزاع، وليس بصفتهم مرتكبين له. وفي حين يمكن للجنود الأطفال المشاركة في العنف، وحتى ارتكاب جرائم خطيرة، حيثما أمكن، ينبغي النظر إلى مساءلة الأطفال على أنها عملية لإعادة التأهيل، وليست عملية جزائية. وكثيراً ما يتم التغاضي عن هذا التمييز، كما حدث عندما قام العراق بمحاكمة أطفال لا تتجاوز أعمارهم تسع سنوات بتهمة انتمائهم إلى تنظيم داعش. وفي المقابل، ينبغي أن يشارك الأطفال الذين شاركوا في نزاع مسلح، حتى ضمن فصائل متطرفة، في برامج تساعدهم على إعادة الاندماج في مجتمعاتهم وعائلاتهم، مثل برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الاندماج التي تتمحور حول الأطفال، وعند الضرورة، برامج مناهضة التطرف. ويمكن لأولئك الذين ارتكبوا جرائم المشاركة في الاعتذارات العلنية أو جبر الضرر عن طريق خدمة المجتمع، بالإضافة إلى العمليات الأخرى التي تشمل الأطفال.
وعلى المستوى الأساسي، يجب أن يكفل أي برنامج عدالة انتقالية يهدف إلى شمول الأطفال نشر معلومات عن البرامج وحقوق الأطفال في المجتمعات المحلية. وفي كثير من الأحيان يكون جبر الضرر والخدمات الأخرى متاحة للأطفال، غير أن الأطفال ومقدّمي الرعاية لا يدركون الفوائد المحتملة. حيث ينبغي أن تتضمن أي جهود توعية تتم كجزء من عملية العدالة الانتقالية مواد يتم إنشاؤها خصيصاً للأطفال. ففي كينيا، عملت لجنة الحقيقة والعدالة والمصالحة مع النظام المدرسي لتحديد الضحايا ودمج المعلومات المتعلقة بالعدالة الانتقالية مباشرة في المناهج الدراسية. وفي يوغوسلافيا السابقة، زار موظفون من المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة مدارس لمناقشة المحاكمات الجنائية الجارية مع الطلاب. ونشرت لجنة الحقيقة والمصالحة في سيراليون نسخة صديقة للطفل من تقريرها النهائي، بالإضافة إلى نسخة في شكل رواية مصورة، مصمّمة خصيصاً لطلاب المرحلة الثانوية. وإن هذه الخطوات لا تضمن فقط إعلام الأطفال الضحايا عن عملية العدالة، وإنما تضمن أيضاً أن يطوّر جميع الأطفال فهماً دقيقاً للماضي، بحيث تقل احتمالية تبنّيهم لخطابات ساذجة وربما مثيرة للفُرقة.
وحتى في حالة التواصل المناسب، لا تكون مشاركة الأطفال في عمليات العدالة الانتقالية غالباً ممكنة ما لم تكن هناك آليات دعم محددة. وفي سياق لجان الحقيقة والمحاكمات الجنائية، يجب دعم الأطفال من أجل تقديم شهاداتهم بصفتهم ضحايا وشهود. وقد تم ذلك من قبل في ليبيريا، حيث عملت لجنة الحقيقة والمصالحة مباشرة مع الوكالات المحلية المعنية بحماية الطفل لضمان أن الأطفال الذين شاركوا يمكنهم الوصول إلى الاختصاصيين الاجتماعيين أثناء الإدلاء بشهادتهم. واستضافت لجنة الحقيقة والمصالحة في سيراليون جلسات استماع خاصة ومغلقة حصراً للأطفال للحفاظ على خصوصيتهم أثناء مساهمتهم في التحقيقات التي أجرتها اللجنة.
ولكن يجب أن تتجاوز العدالة الانتقالية مجرد الإدماج أو الشمول. من خلال تصميم برامج تأخذ الأطفال بعين الاعتبار، يمكن للبرامج أن تعالج بشكل أفضل التجارب والمعاناة الخاصة بالأطفال، بما في ذلك تجنيد الأطفال وضياع فرص التعليم. ويتطلّب هذا النهج تخطيطاً دقيقاً، كما هو موضّح في تجربة كولومبيا. فعلى الرغم من أن كولومبيا شملت الجنود الأطفال السابقين في برنامج جبر الضرر، فقد علّق الخبراء على أن التعويض المالي قد لا يكون الأنسب للأطفال لأن الفوائد المباشرة تذهب في كثير من الأحيان إلى الآباء وليس الأطفال. وعلاوة على ذلك، أفاد بعض المستفيدين بأنهم يشعرون بالحيرة بشأن سبب تلقّيهم مالاً لقاء مشاركتهم في النزاع. وفي المقابل، اقترح خبراء أن جبر الضرر في شكل منح تعليمية، على سبيل المثال، يضمن أن يستفيد الأطفال بشكل مباشر، ويمكن أن يساعد أيضاً في معالجة ضياع فرص التعليم التي عانى الأطفال منها خلال النزاع.
ولقد عانى العديد من الأطفال في سوريا، بما في ذلك أولئك الذين تم تصويرهم في فيلم “عن الآباء والأبناء”، من صدمة نفسية هائلة وسيحتاجون إلى مساعدة واسعة النطاق، بما في ذلك الدّعم النفسي الاجتماعي، من أجل التماثل للشفاء. وإن المشاركة في عمليات العدالة الانتقالية هي طريقة أخرى يمكن للأطفال أن يبدأوا من خلالها بالتماثل للشفاء وفهم معاناتهم. وفي حين أن ما ورد أعلاه يوفّر إطاراً عاماً لمقدار شمول هذ العملية للأطفال، فإن البرامج المحددة المقدّمة ستحتاج إلى تصميم يلائم السياق السوري. على سبيل المثال، إذا حاول الأطفال في الفيلم الوثائقي إعادة الاندماج في المجتمع بعد النزاع، فقد يواجهون وصمة اجتماعية بسبب مشاركتهم في التطرف أو قد يدخلون في صراع مع أهاليهم الذين ما زالوا يحملون معتقدات راديكالية. ويجب الاستفادة من العمل الذي يتم إجراؤه اليوم لتسجيل وفهم تجربة الأطفال في النزاع من أجل تبنّي مقاربة أكثر شمولاً ومرتكزة على الطفل لمستقبل تسوده العدالة في سوريا.
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected]. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر.