إستراتيجية التخبّط المتبعة ضد تنظيم داعش تحصد أرواح مدنيين
قافلة حافلات محمّلة بمقاتلي داعش تعبر من الحدود اللبنانية إلى شرق سوريا | الصورة من أخبار ووتشيت (Wochit News)
في منتصف تشرين الأول/أكتوبر، منح الجيش الأمريكي مروراً آمناً لمئات من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) للخروج من الرقة– التي اتخذها التنظيم عاصمة له بحكم الواقع– وذلك وفقاً لاتفاق إجلاء رتبه المجلس المدني في المدينة وشيوخ العشائر. ويأتي هذا الخروج الجماعي كجزء من سلسلة من الصفقات التي تسمح لعناصر المنظمة التي تصنّفها الأمم المتحدة بأنها إرهابية بالإفلات من الاعتقال مقابل تسليم الأراضي التي يسيطرون عليها. وعلى الرغم من أن الجيش الأمريكي يبني صراحة عمليات الإجلاء على أساس الحفاظ على حياة المدنيين، فإن هذه الاتفاقات لم تُنفذ بصورة عامة إلا بعد أن ألحقت المعارك البرية والقصف الجوي أضراراً جسيمة بحياة المدنيين وممتلكاتهم. وعلاوة على ذلك، تفتقر اتفاقات الإجلاء تلك إلى إستراتيجية متّسقة للقضاء على الميليشيات المتطرفة وعلى الأسباب الجذرية التي أدت إلى ظهورها. ومن أجل بناء السلام والاستقرار الضروريين على المدى الطويل لمنع عودة داعش، لا بدّ أن تضع الولايات المتحدة وتنفّذ استراتيجية لسوريا تمنح الأولوية لحماية المدنيين.
وقد أدى اتفاق الإجلاء في الرقة، على الرغم من الإشادة به على نطاق واسع من قبل وسائل الإعلام باعتباره انتصاراً حاسماً ضد داعش، إلى عدة نتائج إشكالية. ففي 14 تشرين الأول/أكتوبر، أصدرت قوة المهام المشتركة بقيادة الولايات المتحدة ضد داعش بياناً صحفياً ينصّ على أن اتفاق الإجلاء ييسّر تحرير الرقة مع تقليل الأضرار على المدنيين. وفي حين أن الاتفاق أدى إلى إجبار المسلحين على المغادرة إلى مناطق خارج المدينة، يبدو أنه تضمن شروطاً قليلة (إن وجدت). فعلى أرض الواقع، انتقل المقاتلون بكل بساطة إلى معاقل داعش الأخرى في محافظة دير الزور.
كما أن تفاصيل الاتفاق نفسه هي أيضاً موضع شك. فقد سُمِح لتنظيم داعش عند هربه باصطحاب نحو 400 مدني لاستخدامهم كدروع بشرية. وعلاوة على ذلك، جاء الاتفاق بروايات متناقضة حول ما إذا كان سيتم تضمين مقاتلي داعش الأجانب في عملية الإجلاء؛ ففي حين أفادت تقارير باستبعاد المقاتلين الأجانب، أشار عضو في المجلس المدني في الرقة بخلاف ذلك. كما لم يرد ذكر للمعتقلين المحتجزين كرهائن من قبل داعش. وبسبب عدم اشتراط إخلاء سبيلهم قبل الإجلاء، لا يزال عدد غير محدّد من السجناء الذين يُفترَض أنهم محتجزون لدى داعش لم يلقِ لهم أحد بالاً. وأبلغ أفراد أسرهم المركز السوري للعدالة والمساءلة بأنهم لا يزالون لا يعرفون مكان تواجد أحبائهم. ومن بين آلاف السجناء الذين لا يزالون في عداد المفقودين شخصيات سورية بارزة – من بينهم عبد الوهاب ملا، الذي تحدث بجرأة ضد داعش على اليوتيوب، وإسماعيل الحامض، آخر طبيب بقي في الرقة. ولم يتم معرفة مكان تواجد الأب باولو دالوليو، الكاهن الإيطالي الذي اختُطف في عام 2013.
وقد تم تخفيف رمزية الانتصار بحقيقة أن 80% من الرقة أصبحت الآن غير صالحة للسكن، وفقاً للأمم المتحدة. وتُظهر لقطات فيديو لشبكة (CNN) بأن المدينة برمّتها قد تحولت إلى أنقاض ورُكام، حيث يعيش المدنيون النازحون في خيام متناثرة في مكان قريب. وقد حدث ذلك نتيجة لتكتيكات داعش الوحشية المتمثلة في استخدام المدنيين كدروع بشرية، ولكنه حدث أيضاً بسبب الضربات الجوية المكثفة التي شنتها قوات التحالف على الرقة والتي بدأت في حزيران/يونيو، مما أسفر عن مقتل ما يقدّر بنحو 1100 من المدنيين وتدمير كلّي للبُنية التحتية البلدية. ومن المفارقات أن الولايات المتحدة عارضت اتفاق إجلاء مماثل في وقت سابق من هذا الصيف، مما يشير مرة أخرى إلى عدم وجود سياسة استراتيجية محددة في المعركة ضد هذه الجماعة المتطرفة.
وعلى الرغم من اعتراض التحالف مؤخراً من حيث أنه لا يحبّذ الاتفاقات التي تسمح لمقاتلي داعش بتجنب العدالة أو إعادة الظهور في أماكن أخرى، إلا أن الولايات المتحدة سمحت بحدوث ذلك مراراً وتكراراً. وفي أيار/مايو، قامت قوات مدعومة من الولايات المتحدة بانتزاع سدّ الطبقة وقرية قريبة من سيطرة داعش، الأمر الذي تضمن اتفاق إجلاء لمقاتلي داعش مما أدى إلى عبورهم الآمن إلى الرقة – حيث طاردتهم الولايات المتحدة بعد شهر واحد فقط. وتم التوصل إلى اتفاق مماثل في منبج في شهر آب/أغسطس 2016، عندما سُمح لمقاتلي داعش بالإجلاء إلى جرابلس – وهي بلدية يسيطر عليها داعش. وجاء هذ الاتفاق بعد ثلاثة اشهر من القتال والقصف الجوي المكثفين – وهي حملة تسببت في سقوط ضحايا في صفوف المدنيين وألحقت أضراراً كبيرة في البنية التحتية.
وقد تم عقد أغرب هذه الاتفاقات في خريف هذا العام خلال مواجهات دراماتيكية بين داعش وحزب الله، حلفاء الحكومة السورية. فبعد أن تم التوصل إلى اتفاق إجلاء بين الأطراف، حيث وفّر لمئات من مقاتلي داعش وسائل نقل من الحدود اللبنانية إلى شرق سوريا، احتجّت الولايات المتحدة – وتعهدت بحزم بعرقلة رحلة القافلة. ولكن بعد مأزق استمر أسبوعين في بقاء الحافلات عالقة في الصحراء، عكست الولايات المتحدة مسارها بالكامل بعد ضغط من روسيا وسمحت للحافلات المحملة بمقاتلي داعش بالمرور إلى الحدود العراقية. ووفّر هذا العمل ارتياحاً للمدنيين المحاصرين في الحافلات مع المسلحين، ولكنه أغضب الحكومة العراقية التي تشن معركتها ضد داعش، بدعم من الولايات المتحدة، ولا تريد أن تتقاتل مع المزيد من المسلحين في أراضيها.
ومن المفهوم أن العمليات المعقدة في زمن الحرب تتطلب مرونة، ولا يسعى المركز السوري للعدالة والمساءلة للتعليق على تعقيدات التكتيكات القتالية العسكرية. غير أننا نحثّ الولايات المتحدة على البدء في تبني التكتيكات التي تعطي الأولوية بشكل فعلي لمصلحة المدنيين والحفاظ على البنية التحتية في المدن التي يسيطر عليها داعش. ولم تتناول الاتفاقات التي تم التوصل إليها بوساطة مؤخراً مصير المحتجزين، أو “الدروع البشرية” الذين تم أخذهم أثناء عمليات الإجلاء، أو المجتمعات التي سيحتلها داعش فيما بعد. وأدى ذلك إلى إحباط المجتمعات المحلية، حيث تبدو الولايات المتحدة تحبذ تحقيق انتصارات سريعة على حساب مخاوف المدنيين. إن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه لا توجد خطة لإعادة البناء وتوفير الخدمات للمجتمعات المحلية في أعقاب الدمار. إنها عملية معقدة ومكلفة، ولكنها ضرورية للغاية من أجل تحقيق الاستقرار في المناطق المحررة لضمان عدم تمكن داعش من العودة. ويجب على الولايات المتحدة تقديم تفسير لما هو قادم، وما هي سُبُل الحماية التي سيتم تقديمها خلال الحملة الجارية في سوريا.
لمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected].