ملء الفراغ في قطاع العدالة في سوريا
مقاتلو جبهة النصرة ينتزعون المايكروفون من أحد النشطاء المحليين المناهضين للنظام في إدلب، سوريا | تصوير: جنان موسى (تويتر)
نتيجة للهدوء النسبي بعد الهُدنة التي تمت بتوافق أميركي-روسي، شهدت جميع أنحاء سوريا احتجاجات واسعة مناهضة للنظام للمرة الأولى منذ سنوات. ونزل السوريون في كل من حلب وإدلب وحِمص وحماة ودمشق إلى الشوارع للمطالبة بالحرية، مُعلنين بذلك أن الثورة لا تزال على قيد الحياة. وعلى الرغم من ذلك، رفضت الجماعتان الإسلاميتان جبهة النصرة وجيش الفتح على الفور هذه التظاهرات وتدخَّلتا لتفريق المتظاهرين. ويبدو أن الجماعات الإسلامية قد زادت من حدة رد فعلها لأن المتظاهرين كانوا يحملون “أعلام الثورة” ولافتات تطالب بالعلمانية والديمقراطية. وأفاد ناشطون أن مُتشدِّدين إسلاميين هدّدوا المتظاهرين بالقتل إذا لم يغادروا الشوارع فوراً. كما قام المسلحون بتحطيم أجهزة التسجيل والكاميرات وصادروا ومزَّقوا اللافتات الثورية إرباً واحتجزوا بعض المتظاهرين.
بعد استيلاء الفصائل الاسلامية على أحياء ومدن من المقاتلين سواء من الحكومة أو المعارضة، قامت بإنشاء ما يسمى بالمحاكم الشرعية لتطبيق العدالة في المناطق التي تُسيطر عليها. ولا يوجد لهذه المحاكم قوانين أو نصوص قانونية مكتوبة لتحديد الإجراءات والعقوبات. ويظهر مقطع فيديو مأخوذ من إحدى المحاكم الشرعية لجبهة النصرة أن القضاة لا يلتزمون بقانون العقوبات، ويقومون بدلاً من ذلك بإيقاع العقوبات استناداً على تفسيرهم التقديري لأحكام القرآن. ويفتقر غالبية هؤلاء القُضاة وكتبة المحاكم إلى الخبرة أو المؤهلات الأكاديمية سواء في فقه القانون المدني أو الإسلامي. ونتيجة لذلك، فإن المحاكم تحوَّلت في كثير من الأحيان إلى مسرح لمُحاكمات مُتعارضة وغير عادلة وانتقامية.
وهناك تضارب في تفاسير هذه المحاكم الشرعية لأحكام الشريعة الإسلامية، إذ تختلف هذه التفاسير بالاستناد على المدرسة أو الخلفية الإسلامية التي تتبعها هذه الفصائل. ووفقاً لبعض الناشطين السوريين، فإن المحاكم تُفسِّر أحكام الشريعة الإسلامية لتعزز نفوذ الفصيل وأهدافه، وهي مشكلة مماثلة لنظام العدالة في ظلِّ حكومة بشار الأسد. ونتيجة لذلك، فإن السوريين لا يمكنهم اللجوء للمحاكم لتسوية الشكاوى البسيطة بشكل مُنصف، ناهيك عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الفصائل التي تسيطر على المحاكم. وبسبب عدم وصول السوريين إلى آليات عادلة لتسوية المنازعات، برز فراغ في العدالة لم يستطع المُتشدّدون الإسلاميون ملئه.
ومع انعدام أي سبيل انتصاف قانوني، انتهى بعض السوريين بالمقاومة. تظهر لقطات حديثة من معرة النعمان في محافظة إدلب متظاهرين يهتفون ضدَّ جبهة النصرة ويُمزقون الأعلام السوداء للجماعة الاسلامية. إن عودة ظهور التظاهرت ضد الحكومة والجماعات الإسلامية يُشير إلى أن السوريين يطالبون بأكثر من مجرد مواد غذائية ومساعدات أساسية، وذلك بالرغم من مرور خمس سنوات على الصراع. ويشير كذلك إلى رفض بعض شرائح المجتمع السوري رفضاً قوياً للقيم والنظم المُتشددة التي تفرضها جماعات مثل جبهة النصرة.
مجموعة من المتظاهرين يُمزِّقون راية جبهة النصرة | تصوير: هاني هلال (فيسبوك)
إن إيجاد نظام قانوني عادل ومُتوازن هو أحد مطالب الشعب السوري، ومن شأن هذا النظام القانوني الانصياع لسيادة القانون والالتزام بضمانات المحاكمة العادلة وضمان محاكمات وعقوبات عادلة وإنصاف الضحايا ومحاسبة الجُناة بغضِّ النظر عن انتماءاتهم. وإن النظام القضائي السوري بعيد كل البعد عن هذه المعايير الدولية، ولهذا فإن هناك حاجة إلى تنفيذ إصلاح مؤسسي. لا تنتهج المحاكم الشرعية نهجاً إصلاحياً، بل إنها تقوم بتكرار نفس أخطاء النظام الحالي وتزيد من الفوضى من خلال تشريعها لقواعد متعارضة وتعسفيّة. وبوصفه ركيزة أساسية للعدالة الانتقالية، يمكن أن يشمل الإصلاح المؤسسي التدقيق على العاملين في السِلك القضائي والإصلاحات الهيكلية والرقابة وتحويل الأطر القانونية وقطاع التعليم. ونظراً للتاريخ الطويل للانتهاكات والفساد في مؤسسات الدولة السورية، فإن إصلاحها يعتبر أمراً بالغ الأهمية من أجل تعطيل الهياكل التي تسمح بحدوث الانتهاكات ومنع تكرار الانتهاكات وغرس احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.
يجب أن تتناول مُحادثات السلام السورية الحاجة المُلحَّة للإصلاح المُؤسَّسي في سوريا، لاسيَّما في قطاع العدالة. لا يمكن للمتفاوضين تجاهل هذه القضايا، ويمكن للمجتمع المدني أن يلعب بها دوراً حيوياً، بما في ذلك عن طريق تقديم توثيق للانتهاكات والمخالفات المؤسسية القديمة. وبالإضافة إلى ذلك، تستطيع المنظمات الدولية والجهات المانحة دعم عملية الإصلاح، سواء من الناحية المالية أو من خلال الخبرات التي تبني قدرات القُضاة والمحامين المحليين. وفي حين يُركِّز الخبراء الدوليون تركيزاً كبيراً على المساءلة الجنائية عن طريق المحاكم الدولية، فإن النظام الداخلي بحاجة كذلك إلى القدرة على التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان والشكاوى العادية. وتظل العدالة الدولية على رأس الأولويات، ولكن دون إصلاح أو بناء لقدرات قطاع العدالة في سوريا، فإن نفس المشاكل التي أدت إلى عدم الرضا والصراع ستستمر حتماً، بغضِّ النظر عن أي حكومة تنبثق في فترة ما بعد الصراع.
للحصول على مزيد من المعلومات وتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على العنوان التالي: [email protected]