مسألة العفو: تحقيق توازن بين الحقيقة والعدالة
وزير الخارجية الامريكية جون كيري، مبعوث الأمم المتحدة الخاص السابق لسوريا الأخضر الإبراهيمي، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال جهود البحث في تسوية سياسية للأزمة السورية عام 2013. الصورة من وزارة الخارجية الأميركية
شهد الأسبوع الماضي تحوّلاً كبيراً في موقف روسيا بشأن النزاع السوري. ففي مشهد نادر، انضمت روسيا إلى الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في تبنّي القرار رقم 2235 لتشكيل لجنة تحقيق دولية بغرض تحديد هوية مرتكبي هجمات الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك الهجمات التي استخدُم فيها غاز الكلور. وخلال الأسبوع نفسه، أعلنت إيران بأنها ستعرض خطة سلام معدّلة بشأن سوريا. وبصفتهما دولتان مؤيدتان بلا هوادة للرئيس السوري بشار الأسد، قد تعكس الإجراءات الأخيرة لروسيا وإيران تغييراً في المواقف فيما يتعلق بتورّط الأسد.
ومع تحوّل الاهتمام الدولي نحو إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية، بدأت تلوح بالأفق مسألة ما إذا كانت المفاوضات ستشمل صفقة عفو. وغالباً ما تأتي العدالة على الهامش خلال مفاوضات السلام في ظل المنطق القائل أن وضع حد فوري لسفك الدماء يأخذ الأولوية على حساب المساءلة. ولكن الأدلة من الصراعات الماضية تُظهر أن منع تحقيق المساءلة قد يؤدي إلى تجدّد الصراع وعدم الاستقرار على المدى الطويل. وينظر العرض التالي في مجموعة متنوعة من الطرق التي استُخدم فيها العفو في الماضي، مع نتائج متباينة:
- عفو عام – لا حقيقة ولا عدالة
يتفق أطراف الصراع أحياناً على صدور عفو عام من أجل التفاوض على وقف فوري للعنف. وبموجب العفو العام، يحصل الجناة على حصانة قانونية عن الجرائم التي ارتكبوها، وهذا بمثابة علاج سريع يتطلب القليل من الموارد الحكومية. ونسوق على ذلك مثال لبنان التي منحت عفواً عاماً للجناة الذين ارتكبوا جرائم خلال الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة في البلاد دون اتخاذ أي تدابير إضافية لمعالجة الانتهاكات. وفي الوقت الذي ساهم فيه هذا بإنهاء الصراع على المدى القصير، إلا أن لبنان استمر في مواجهة العنف، بما في ذلك اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في عام 2005. وأنشأت الأمم المتحدة المحكمة الخاصة بلبنان للنظر في عملية الاغتيال، غير أنها لم تفوّض المحكمة الخاصة النظر في جرائم سابقة. وقد أدى الصراع الذي تشهده الجارة سوريا إلى تفاقم التوترات الطائفية العميقة أصلاً في المجتمعات اللبنانية والتي تنبع من المظالم التي بقيت دون حل إبّان الحرب الأهلية وما فتئت تهدّد استقرار البلد.
- لا عفو – حقيقة غير كافية، عدالة غير كافية
تختار بعض دول الصراع تجنّب مسألة العفو تماماً وتركّز بدلاً من ذلك على المحاكمات وذلك بسبب رد الفعل السياسي العنيف الذي يمكن أن يتسبب فيه صدور عفو عام. وبما أن صدور العفو يحول بطبيعته دون تحقيق العدالة، فإن استبعاد العفو قد يبدو وكأنه نتيجة إيجابية. ولكن قد يكون من المستحيل أحياناً تحميل كل شخص مسؤولية أفعاله، وقد يؤدي إلى فجوة الإفلات من العقاب. وفي العراق، على سبيل المثال، استخدمت حكومة ما بعد الصراع مزيجاً من الملاحقات القضائية والتطهير، أو ما يعرف بمصطلح “اجتثاث البعث”. ولكن بسبب العدد الكبير من البعثيين في الحكومة، تم اتخاذ قرار تعسّفي باستهداف المسؤولين رفيعي المستوى فقط وإعادة استخدام المسؤولين الأقل رتبة. ونتيجة لذلك، اعتُبِر النظام غير منصف وغير فعال. وبدون وجود خطة عفو مدروسة جيداً، أدى برنامج العدالة الانتقالية في العراق إلى نتائج عشوائية وغير متوازنة منحت عفواً غير مقصود للعديد من الجناة المشتبه بهم.
- العفو المشروط – تحقيق توازن بين الحقيقة والعدالة
يحدث العفو المشروط عندما تمنح دولة مرتكبي الفظائع حصانة بشرط وفائهم ببعض المتطلبات الأخرى، مثل المشاركة في لجنة الحقيقة أو المساهمة في التعويضات النقدية للضحايا أو الشهادة للمساعدة في إدانة آخرين، غالباً ما يكونون من الجناة الأرفع مستوى. ويعتبر كثيرون لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا مثالاً ناجحاً للعفو المشروط أو ما يسمى “العفو الذكي”. بعد سقوط نظام الفصل العنصري الوحشي في جنوب إفريقيا، منحت الحكومة الجناة فرصة للاعتراف بجرائمهم أمام لجنة الحقيقة والمصالحة مقابل إمكانية الحصول على عفو إذا ما أوفوا بمعايير معينة. وقام التقرير النهائي للجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا “بكشف وفضح” الجناة بصفتهم الفردية وأوضح كذلك شكل مؤسسات الفصل العنصري والأجهزة الأمنية. وكنموذج للعدالة التوافقية، هدفت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا إلى تحقيق توازن في الطلب على الحقيقة والعدالة، غير أن استمرار العنف في جنوب إفريقيا قد يكون مؤشراً بأن لجنة الحقيقة والمصالحة لم تكن كافية للتصدي بشكل كامل للصدمة التي تسبب فيها الفصل العنصري.
في صراع كالذي يدور في سوريا، حيث تعني الفظائع واسعة النطاق تورّط عدد كبير من الناس، قد يبدو صدور عفو عام وكأنه وسيلة جذابة لتسريع إنهاء العنف؛ ولكن من المحتمل أن يعارض السوريون هذه التدابير، ونتيجة لذلك، قد لا يدوم السلام طويلاً. وسيتسبب بقدر مماثل من المشاكل أي حلٍ لا ينظر سوى في الملاحقات القضائية. فقد لا يكون لدى سوريا القدرات أو البنية التحتية لإجراء محاكمات شفافة ونزيهة لعدد كبير من الجناة، مما يؤدي إلى فجوة الإفلات من العقاب والتي يمكن أن تؤدي إلى تجدّد العنف.
غالباً ما ينظر أطراف الصراع إلى العفو والمساءلة على أن أحدهما يستبعد أو يتعارض مع الآخر، مما يقدّم خياراً زائفاً بين السلام أو العدالة. ويقدّم العفو المشروط خياراً متوازناً، ولكن لديه عيوبه أيضاً. وقد يتردد المواطنون في تقبّل فكرة العفو في أي شكل من الأشكال. وعلاوة على ذلك، إن العفو المشروط، بدون تهديد حقيقي بالملاحقة القضائية، سيُعتبر ببساطة شكلاً آخر من أشكال العفو العام، حيث سيخفق في خلق جو من الردع. وعلى الرغم من هذه التحديات، هناك حاجة للحقيقة في سوريا — الحقيقة بشأن الأشخاص المفقودين ومعلومات بشأن الجناة رفيعي المستوى ومعرفة بالمؤسسات والأجهزة التي سمحت بارتكاب الفظائع. ومن شأن وضع خطة مدروسة بشكل جيد للعفو المشروط أن تساعد في مقاضاة الأشخاص الأكثر تورطاً مع توفير مساحة لقول الحقيقة والمصالحة أيضاً، وخاصة إذا ما استُخدمت مقترنة ببرامج جبر الضرر والإصلاح المؤسسي وتخليد الذكرى.
وتوضّح أمثلة من نزاعات أخرى بأنه لا يمكن تسييس العدالة أو تهميشها لصالح تحقيق السلام، وأن العفو لن يكون علاجاً سريعاً فعالاً للمشاكل المعقدة التي يواجهها المجتمع السوري. وعلى الأطراف المعنية في التفاوض على خطة سلام لسوريا أن تبقي هذه الاعتبارات في الحسبان إذا كان لديهم أمل في تحقيق سلام طويل الأجل ومستدام.
لمزيد من المعلومات وتقديم الملاحظات والآراء، يرجى إرسال بريد إلكتروني إلى المركز السوري للعدالة والمساءلة على