التحقيق في جريمة التطهير العرقي يتطلب لجنة تقصّي حقائق مستقلة
عائلات تفر من المعارك إلى تركيا. الصورة من المفوضية الأوروبية.
في 19 حزيران/يونيو، سيطرت وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) على مدينة تل أبيض وطردت منها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). وتسبّب القتال بفرار قرابة 20,000 مدنياً إلى دولة الجوار، تركيا، وبُعيد ذلك، انتشرت شائعات مفادها أن القوات الكردية مارست التطهير العرقي. وعلى وجه التحديد، اتهمت خمس عشرة جماعة من الثوار السوريين الأكراد بتهجير السكان من العرب السنة والتركمان من تل أبيض. وقد أكّدت الحكومة التركية هذه الاتهامات وألقت باللوم على الغرب لاستبدالهم العرب والتركمان بأعضاء حزب العمال الكردستاني (PKK). ونفت وحدات حماية الشعب الكردية هذه الاتهامات بشدة زاعمة أنها كانت تقوم بإجلاء الأسر إلى برّ الأمان خلال الصراع ولكنها منذ ذلك الحين ترحّب بعودتهم إلى المدينة.
ولا يوجد لدى جماعات الثوار أو لدى تركيا بيانات مثبتة تدعم مزاعمهم، وقدّم اللاجئون من تل أبيض روايات متضاربة حول ما حدث فعلاً. وأصدر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بياناً بشأن لجنة تقصّي حقائق ولكن لم يتم نشر النتائج حتى الآن. غير أن الأكراد كذلك، في حجج دفاعهم، لم يتمكنوا من تقديم دفاع مؤيد بحقائق. ومع ازدياد وتيرة التكهّنات والشائعات، فقد تصاعدت التوترات بين الجماعات العرقية المختلفة وقد يعود ذلك بضرر يتعذّر إصلاحه على النسيج الاجتماعي للبلد. ولم يراعِ القادة في تركيا وسوريا بالإضافة إلى وسائل الإعلام التي تقوم بتغطية إعلامية لأحداث مدينة تل أبيض هذا الوضع الهش وبدلاً من ذلك فقد لجأوا إلى التهويل، وهذا تكتيك سيكون له آثار سلبية طويلة الأجل على المصالحة بعد انتهاء الصراع.
وتسوق لنا صراعات أخرى أمثلة عديدة على قيام سياسيين ووسائل إعلام باستخدام التوترات العرقية والطائفية لتأجيج العنف المتزايد سعياً وراء غايات خاصة بهم. ومن بين الأمثلة البارزة على ذلك نذكر انهيار يوغسلافيا السابقة. حيث قام سلوبودان ميلوسيفيتش ورادوفان كراديتش، وكلاهما صربي العرق، بنشر أجندتهما السياسيتين من خلال تسليط الضوء على الاختلافات بين جماعاتهما بالمقارنة مع الكروات والبوسنيين. وقد تسببت عملية “النظر إلى الآخر على أنه مختلف” بزرع بذور الكراهية بين الجماعات، مما أدى إلى سنوات من الصراع العنيف والتوترات المتواصلة. وفي الفترة الانتقالية، شهدت تلك الدول صعوبة بالغة في تحقيق المصالحة. وإن الحروب اليوغسلافية والإبادة الجماعية في رواندا وأعمال العنف المتواصلة في العراق جميعها تبرهن على أن الخطاب والسياسات التي تركّز على الاختلافات الأيديولوجية أو الدينية أو العرقية أو الإثنية يمكن أن تضعف شعور المجتمع بالإنسانية المشتركة مما يؤدي إلى طول أمد العنف وحالة من الاستياء داخل المجتمعات المحلية.
وفي بعض الأحيان، يغذي قادة المجتمع هذه التوترات من دون قصد من خلال إساءة استخدام مصطلحي “التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعية”. وفي الواقع، فإن “التطهير العرقي” ليس جريمة معرّفة بموجب القانون الدولي. ويغطي نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية جريمتين مماثلتين: 1) “الإبادة الجماعية”، وهي فعل يُرتكب بقصد قتل أو محاولة إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية؛ و2) “النقل القسري للسكان”، وهو جريمة ضد الإنسانية يُعرف بأنه نقل الأشخاص المعنيين قسراً على نطاق واسع وممنهج “من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة، بالطرد أو بأي فعل قسري آخر”. في حالات مثل تل أبيض، حيث يتم تداول وتبادل الاتهامات من قبل جماعات مختلفة، تقتضي الخطوات الأكثر فعّالية فهم تعريف كل انتهاك وتوثيق وقوع الأحداث لتحديد ما إذا وقعت الانتهاكات بالفعل.
وفيما يلي خمسة مبادئ للقائمين على التوثيق الذين يسعون إلى جمع معلومات حول إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان:
- ضمان استقلالية لجنة تقصّي الحقائق. وفي هذا السياق يوجد لدى الائتلاف الوطني السوري ووحدات حماية الشعب دوافع سياسية من شأنها أن تشوب صحّة النتائج التي توصلا إليها. على سبيل المثال، ستكون لجنة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق أكثر قدرة على إجراء تقييم غير منحاز.
- الانتقال إلى موقع حدوث الانتهاك المزعوم، إن أمكن. حيث يتيح التواجد الفوري في عين المكان إمكانية التعرّف على ما حدث مباشرة.
- إجراء أكبر عدد ممكن من المقابلات مع مدنيين من جميع الجماعات العرقية التي فرّت من مدينة تل أبيض. كلما زاد حجم العينة كانت البيانات أكثر دقة في تحديد الاتجاهات والتحقّق والتثبّت من صحة القصص.
- صياغة المسح بناء على أسئلة متعمقة ومفتوحة الإجابة (من قبيل “ماذا حدث؟”) والتي تستحث المستطلَع ليقدّم وصفاً سردياً متسلسلاً للأحداث، وينبغي تجنّب طرح الأسئلة الدالة التي تفترض إجابة المستطلَع ضمنياً. وتجدر الإشارة إلى أن أولئك الذين يلفّقون أو يبالغون في الحقائق لن يتمكنوا من الحفاظ على الترابط والإحكام في القصص التي يروونها.
- المتابعة عن طريق طرح أسئلة محددة قائمة على الحقائق بناء على عناصر كل نوع من الانتهاكات. على سبيل المثال، أحد عناصر النقل القسري للسكان هو “بالطرد أو بأي فعل قسري آخر”. فبدلاً من سؤال، “هل تم طردكم بالقوة؟” وهو توصيف قانوني يتعدى توصيف الأحداث، من الأفضل طرح السؤال التالي، “ما هي الإجراءات التي قامت بها وحدات حماية الشعب وتسببت في مغادرتك لمنزلك؟” و”هل حاولت العودة إلى تل أبيض؟ لماذا أو لِمَ لا؟”
إن توثيق الوضع بعناية في مدينة تل أبيض وغيرها من الحالات المشابهة من شأنه أن يخفّف من حدة التوتّرات العرقية التي تفاقمت خلال الأزمة. وينبغي عدم إفساح المجال لأي شائعات أو تكهّنات تزيد الهوة الآخذة في الاتّساع بين سكّان سوريا من مختلف ألوان الطيف. وعندما تدخل سوريا في المرحلة الانتقالية، ستُثبت أي جهود تبذل لتقليص الإسفين الذي تم نصبه بين الجماعات المختلفة نجاعتها في تحقيق المصالحة ومنح الحق في المساءلة لأولئك الذين عانوا.
لمزيد من المعلومات وتقديم الآراء، يرجى إرسال بريد إلكتروني إلى المركز السوري للعدالة والمساءلة على [email protected].